ما ردكم على من يقولى : إن ابن تيمية رحمه الله دلس في تاريخ وفاة جعفر الصادق حيث إنه توفي 148 للهجرة النبوية ، بينما ذكر ابن تيمية في كتابه ” منهاج السنة النبوية ” أنه توفي 48 ؟
وما ردكم على من يقول : إن ابن تيمية رحمه الله بدّع من يغسل اللحم ، وخالف بذلك الإمام أحمد بن حنبل ووصفه بالابتداع ؟
رد بعض الشبهات عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
السؤال: 239993
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الشيخ الإمام العالم العلامة ابن تيمية الحراني ، إمام من أئمة الإسلام ، وعلم من أعلام الملة .
وقد حباه الله تعالى علما واسعا وعقلا فذا ، تبحر في شتى العلوم والفنون ؛ فكان مفسرا فقيها أصوليا محدثا لغويا ، إلى جانب علمه بالطب والفلك وغير ذلك من العلوم الدنيوية ، وكان رحمه الله تعالى قوالا بالحق ، لا يخشى في الله لومة لائم ، كما هو معلوم من سيرته .
وقد عرضه هذا لكثير من المحن والأزمات ، ويراجع جانب من ترجمة الشيخ رحمه الله تعالى في الفتوى رقم : (96323).
أما بخصوص ما ذكره السائل في سؤاله فجوابه فيما يلي:
أولا:
ورد في ” منهاج السنة النبوية ” (7 / 532): ما نصه “فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مِنْ أَقْرَانِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، تُوُفِّيَ الصَّادِقُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ ، وَتُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يُفْتِي فِي حَيَاةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَالِدِ الصَّادِقِ ، وَمَا يُعْرَفُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَخَذَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ، وَلَا عَنْ أَبِيهِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً ، بَلْ أَخَذَ عَمَّنْ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُمَا كَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَشَيْخِهِ الْأَصْلِيِّ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ ” انتهى.
هذا نص كلام الشيخ رحمه الله تعالى ورضي عنه ، ومن يتأمله بأدنى تأمل يعلم يقينا أن الكلام صواب ، ليس فيه خطأ ولا تدليس ، فشيخ الإسلام رحمه الله يذكر أن جعفرا كان قرينا لأبي حنيفة ، وأنه توفي سنة 48 هـ ، وأبو حنيفة توفي سنة 150 هـ .
فأي إنسان عنده عقل وإنصاف ، وعنده أدنى معرفة بكتب التواريخ ، وطريقتها في ذكر الوفيات ، ثم يقرأ هذا الكلام سوف يفهم مباشرة ، أن مقصود الشيخ : أن جعفرا توفي سنة 148 هـ ولكنه لم يذكر المائة اختصارا، لأنه ذكره مع أبي حنيفة ، وذكر أنهما كانا قرينين .
وهذه طريقة معروفة عند العلماء : يحذفون المائة والمائتين ، ونحو ذلك من أعداد المئات ، اختصارا ، ويكون في الكلام قرينة تدل عليها ، فيقولون توفي فلان سنة 50هـ ، وقصدهم 150 هـ ونحو ذلك .
ومن يطالع كتاب “تقريب التهذيب” للحافظ ابن حجر يقف على عشرات الأمثلة من هذا ، إن لن تكن بالمئات .
خذ هذين المثالين في صفحة واحدة من هذا الكتاب (ص257) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
-“حفص بن سليمان الأسدي … من الثامنة ، مات سنة ثمانين ، وله تسعون “.
-“حفص بن سليمان المِنْقَري .. من السابعة ، مات سنة ثلاثين ” .
فالمراد في الأول قطعا أنه مات سنة 180 هـ ، والثاني مات سنة 130 هـ ، فحذف المائة واكتفى بما يشير إليها ، وهو ذكر الطبقة ، فالأول من الطبقة الثامنة ، وهي الطبقة الوسطى من أتباع التابعين ، والثاني من الطبقة السابقة ، وهي طبقة كبار أتباع التابعين ، كما ذكر الحافظ ابن حجر في المقدمة ، عند بيانه ماذا يعني بهذه الطبقات .
فكذلك فعل شيخ الإسلام ، حذف المائة ، واكتفى بما يشير إليها ، وهو ذكر جعفر الصادق مع أبي حنيفة ، والنص على أنه كان قرينه .
فليس في الكلام تدليس ، وليس في الكلام خطأ مطبعي أيضا ، ولا خطأ من نسخ النساخ ؛ ولكن الهوى والكذب يحملان الإنسان على البهتان .
ولله در القائل :
وَكَم مِن عائِبٍ قَولاً صَحيحاً وَآفَتُهُ مِنَ الفَهمِ السَقيمِ
وَلَكِن تَأخُذُ الآذانُ مِنهُ عَلى قَدرِ القَرائِحِ وَالعُلومِ
ثانيا:
أما مسألة بدعة غسل اللحم قبل طبخه : فقد ورد ذكرها في ” مجموع الفتاوى” (21 / 522) حيث قال الشيخ رحمه الله تعالى : ” غَسْلُ لَحْمِ الذَّبِيحَةِ بِدْعَةٌ ؛ فَمَا زَالَ الصَّحَابَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَأْخُذُونَ اللَّحْمَ ، فَيَطْبُخُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ بِغَيْرِ غَسْلِهِ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ الدَّمَ فِي الْقِدْرِ خُطُوطًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ ، أَيْ : الْمَصْبُوبَ الْمُهْرَاقَ ؛ فَأَمَّا مَا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ فَلَمْ يُحَرِّمْهُ ، وَلَكِنْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتْبَعُوا الْعُرُوقَ ، كَمَا تَفْعَلُ الْيَهُودُ الَّذِينَ بِظُلْمِ مِنْهُمْ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ، وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا.
وَسِكِّينُ الْقَصَّابِ : يَذْبَحُ بِهَا وَيَسْلَخُ ، فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ ؛ فَإِنَّ غَسْلَ السَّكَاكِينِ الَّتِي يُذْبَحُ بِهَا بِدْعَةٌ ” انتهى.
ومن يتأمل هذا الكلام بإنصاف ، يرى أن الشيخ رحمه الله تعالى ما كان يقصد أن مجرد غسل اللحم بدعة ، بل كان يقصد أن البدعة هي غسل اللحم تعبدا ، واعتقادا أن الدم الذي في العروق محرم نجس يجب غسله وتطهيره ، وهذا لا شك في كونه بدعة ؛ لأنه إذا ثبت أن الله تعالى لم يحرم هذا الدم المتبقي في العروق ، فمن تكلف ـ بعد ذلك ـ تحريمه ، وغسله ، معتقدا أن اللحم لا يطهر ولا يحل إلا بذلك ، فهو مبتدع ولا شك ؛ ” فكل مَن أحدث شيئًا ، ونسبه إلى الدِّين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه : فهو ضلالة ، والدين منه بريء “، كما جاء في “جامع العلوم والحكم” (2/128).
وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم : (160876) .
وقد صرح فقهاء المذاهب بأن هذا الدم المتبقي في العروق غير محرم ، قال الكاساني في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” (1 / 61): ” وَالدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْفُوحٍ ، وَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ مَعَ اللَّحْمِ” انتهى.
وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ الْمالِكِي : “إِنَّمَا يَحْرُمُ الْمَسْفُوحُ ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : لَوْلَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : (أَوْ دَمًا مسفوحا) لَاتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ مَا فِي الْعُرُوقِ ، كَمَا اتَّبَعَهُ الْيَهُودُ ” .
انتهى من ” الذخيرة ” للقرافي (4 / 106).
وفي “الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف” للمرداوي الحنبلي (1 / 327): ” فَأَمَّا الدَّمُ الَّذِي يَبْقَى فِي خَلَلِ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَمَا يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ فَمُبَاحٌ .
قَالَ فِي الْفُرُوعِ : وَلَمْ يَذْكُرْ جَمَاعَةٌ إلَّا دَمَ الْعُرُوقِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِيهِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي الْعَفْوِ عَنْهُ، وَأَنَّهُ لَا يُنَجِّسُ الْمَرَقَ، بَلْ يُؤْكَلُ مَعَهَا. انْتَهَى .
قُلْت: وَمِمَّنْ قَالَ بِطَهَارَةِ بَقِيَّةِ الدَّمِ الَّذِي فِي اللَّحْمِ ، غَيْرِ دَمِ الْعُرُوقِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حُمْرَتُهُ : الْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ ، وَالنَّاظِمُ ، وَابْنُ عُبَيْدَانَ ، وَصَاحِبُ الْفَائِقِ ، وَالرِّعَايَتَيْنِ ، وَنِهَايَةِ ابْنِ رَزِينٍ ، وَنَظْمِهَا. وَغَيْرِهِم” انتهى.
والمقصود من تتبع اليهود للعروق : ما ذكره بعض السلف كأبي مجلز وقتادة في تفسير قوله تعالى : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) آل عمران/93 ، أن يعقوب عليه السلام كان حرم على نفسه أكل العروق من أي حيوان ، فكان بنوه يتبعون العروق ، يخرجونها من اللحم .
انظر ذلك في ” تفسير الطبري ” (6/12) .
وبهذا يعلم أن من غسل اللحم ، معتقدا أن ذلك من الدين : فإنه مبتدع يشرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ، وفيه شبه باليهود .
أما من غسل اللحم قبل طبخه على سبيل النظافة ، أو العادة : ففعله هذا لا يوصف بالبدعة ، ولا بضدها ؛ فإن البدعة المحرمة لا مدخل لها في العادات ، كما سبق بيانه في الفتوى المحال عليها آنفا.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة