هناك سلسلة صوفية في باكستان تستدل بالآيات: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) ، و( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) بأنّ ذكر الله واجب على مدار 24 ساعة ، وألا تضيع ثانية واحدة في غير ذلك ، وأنّ الذكر محله القلب ، ولذلك كانت طريقة الحسن البصري الخاصة وهي ذكر “الله هو” مع تنظيم التنفس و، هم يدعون أنّه ورد في القران والسنة أنّ كل جزء من جسم الصحابة كان يذكر الله بشكل دائم ، فهل يجب على الشخص ذكر اسم الله في قلبه على مدار الساعة ؟ وما هو الذكر الكثير ؟ وهل هذه بالفعل طريقة الحسن البصري ؟ وهل يجوز فعلها ؟ وما معنى الآيات السابق ذكرها ؟
هل يجب ذكر الله بالقلب مع كل نَفَس ، وفي كل لحظة ؟
السؤال: 240915
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) الأحزاب/ 41، 42 .
فــ ” يأمر تعالى المؤمنين ، بذكره ذكرا كثيرًا ، من تهليل ، وتحميد ، وتسبيح ، وتكبير وغير ذلك ، من كل قول فيه قربة إلى الله .
وأقل ذلك ، أن يلازم الإنسان ، أوراد الصباح ، والمساء ، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب .
وينبغي مداومة ذلك ، في جميع الأوقات ، على جميع الأحوال ، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل ، وهو مستريح ، وداع إلى محبة الله ومعرفته ، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح .
“(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) أي: أول النهار وآخره ، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها ” انتهى من ” تفسير السعدي” (ص 667) .
وقال تعالى : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الجمعة/ 10.
قال ابن كثير رحمه الله :
” أَيْ: حَالَ بَيْعِكُمْ وَشِرَائِكُمْ، وَأَخْذِكُمْ وعَطَائكم ، اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً ا، وَلَا تَشْغَلْكُمُ الدُّنْيَا عَنِ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ” انتهى من “تفسير ابن كثير”(8/ 123) .
وقال تعالى :
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) الأحزاب/ 35 .
قال النووي رحمه الله :
” اعلم أن هذه الآية الكريمة مما ينبغي أن يَهْتَمَّ بمعرفتها صاحبُ هذا الكتاب [يعني : كتابه “الأذكار] .
وقد اختُلِف في ذلك؛ فقال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس رضي الله عنه: المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات ، وغدوّاً وعشيّاً ، وفي المضاجع ، وكلما استيقظ من نومه ، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ الله تعالى .
وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين الله تعالى كثيراً والذاكرات ، حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وقال عطاء: من صلَّى الصلوات الخمس بحقوقها، فهو داخلٌ في قول الله تعالى: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات).
وسئل أبو عمرو ابن الصلاح -رحمه الله- عن القدر الذي يصير به من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ؟
فقال: ” إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة ، صباحا ومساء، وفي الأوقات والأحوال المختلفة، ليلا ونهارا ” انتهى من ” الأذكار ” (ص 41). .
ثانيا :
ليس في هذه الآيات – ولا في غيرها – ما يدل على وجوب ذكر الله تعالى في كل لحظة ، وكل ثانية ؛ فإن هذا أمر لا يكاد يطيقه أحد من البشر ، ولا كلف الله به عباده قط ، ولا صح أن الشريعة جاءت به ، ولا أمرت به .
وهذه كتب أهل العلم قاطبة ، من فقهائهم ، ومفسريهم ، ومحدثيهم : فأين تجد فيها نسبة ذلك إلى شرع الله ؟!
وقد روى مسلم في صحيحه (2702) : عَنْ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي ؛ وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) .
قال النووي رحمه الله في “شرحه” :
” قَالَ أَهْل اللُّغَة : ( الْغَيْن ), وَالْغَيْم بِمَعْنًى [أي : واحد] ، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب،, قَالَ الْقَاضِي : قِيلَ : الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا فتر عَنْهُ أَوْ غَفَلَ ، عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا ، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ” انتهى .
ثالثا :
ما يذكره هؤلاء من أن كل جزء من أجزاء جسم الصحابة ، كان يذكر الله ؛ فهذا كله من الغلو الباطل ، الذي لا أصل له في شيء من تاريخ ، أو أثر ، وهذه سيرهم ، وأخبارهم بين أيدي الناس ؛ فأين يجد القارئ فيها ذلك ، إلا دعاوى هؤلاء وأمثالهم من الغلاة .
نعم ؛ كانوا خير الناس ، وخير قرن بعث فيه نبي ؛ لكنهم ـ أيضا ـ كانوا ناسا من الناس ، يأكلون ، ويشربون ، ويبيعون ، ويشترون ، ويخالطون النساء والأولاد .
بل : يختلفون ، أيضا ، ويختصمون !!
روى مسلم في صحيحه (2750) عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه ، وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
” لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ ؟
قَالَ : قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ !!
قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ؛ مَا تَقُولُ ؟!
قَالَ : قُلْتُ : نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ !! فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ ، وَالْأَوْلَادَ ، وَالضَّيْعَاتِ ، فَنَسِينَا كَثِيرًا ؟!
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا ؟!
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ !!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟!
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ : عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ؛ نَسِينَا كَثِيرًا ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؛ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ : لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ ، وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ : سَاعَةً وَسَاعَةً ؛ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ )” .
قال القرطبي رحمه الله :
” وقول أبي بكر رضي الله عنه : ( والله ، إنا لنلقى مثل هذا ) : رد على غلاة الصوفية ، الذي يزعمون دوام مثل تلك الحال ، ولا يعرجون بسببها على أهل ولا مال .
ووجه الرد : أن أبا بكر أفضل الناس كلهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى يوم القيامة ، ومع ذلك : لم يدع خروجا عن جبلة البشرية ، ولا تعاطى من دوام الذكر ، وعدم الفترة : ما هو خاصة الملائكة .
وقد ادعى قوم منهم دوام الأحوال ، وهو ـ بما ذكرناه ـ شبه المحال …
وعلى الجملة : فسنة الله في هذا العالم الإنساني : جعلُ تمكينهم في تلوينهم ، ومشاهدتهم في مكابدتهم .
وسر ذلك : أن هذا العالم متوسط بين عالمي الملائكة والشياطين ، فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يغفلون ، وجعل هذا العالم الإنساني متلونا ، ؛ فيمكنه ، ويلونه ، ويفنيه ، ويبقيه ، ويُشهده ، ويُفقده ، وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله : ( ولكن يا حنظلة : ساعة وساعة ) ، وقال في حديث أبي ذر -رضي الله عنه – : ( وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ).
هكذا الكمال ، وما عداه ترهات ، وخيال ” .
انتهى من”المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” للقرطبي (7/67-68) .
ومثل ذلك أيضا ، في البطلان ، والبهتان : دعواهم أن الحسن البصري رحمه الله كانت له طريقة خاصة في ذكر الله مع أنفاسه : فلا دليل عليه ، ولا أصل له نعلمه.
والحسن البصري رحمه الله من المفترى عليه من قبل جهلة الصوفية والزهاد ، فإنهم ينسبون إليه ما لم يصح عنه ، بل ما لا يعرف عنه أصلا .
وانظر جواب السؤال رقم : (201911) .
والله تعالى أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة