نص القرآن على أنّ الآيات القرآنية فصلت للناس، كما في الآية رقم (1) من سورة هود، والآية (3) من سورة فصلت.
ولكن الحروف المقطعة – حسب ما ذكر بعض أهل العلم – لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم معانيها.
أجد في ذلك تناقضا.
فكيف التوفيق بين قول أهل العلم، والآيات التي جاءت في أنّ آيات القرآن قد فُصلت؟
لا تعارض بين وصف القرآن بالتفصيل وورود الحروف المقطعة فيه
السؤال: 242365
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
وصف الله تعالى كتابه العزيز ، وقرأنه الكريم: بأنه كتاب : مُفَصّل من عنده سبحانه.
قال تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام/ 97، وقال عز وجل: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت/3، وقوله عز وجل: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 52]
قال ابن كثير رحمه الله: “(قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) أَيْ: قَدْ بَيَّنَّاهَا وَوَضَّحْنَاهَا ” انتهى من “تفسير القرآن العظيم” (3/ 305)
ولا تناقض بين ذلك الوصف الجليل ، واشتمال القرآن الكريم على الحروف المقطعة في أوائل السور.
وذلك من أوجه عديدة:
الأول:
التفصيل وصف لمجمل القرآن وسوره وآياته، وليس لجميع كلماته، الأمر الذي لا ينفي الاستثناء، فقد صرح القرآن الكريم نفسه بوجود الاستثناء، وذلك في قول الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7]
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في “العذب النمير” (2/ 168) :
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) أي: مُوَضَّحًا مُبَيَّنًا فيه العقائدُ، مُبَيَّنًا فيه الحقُّ من الباطلِ، والنافعُ من الضارِّ، والحسنُ من القبيحِ، بَيَّنَ اللَّهُ فيه العقائدَ، والحلالَ والحرامَ، وما يقرِّب إلى اللَّهِ، وما يُوَصِّلُ إلى جنتِه، وما يُبْعِدُ من اللَّهِ ويسخطُه، ويوصلُ إلى نارِه، وَبَيَّنَ مصيرَ الفريقين، وما أعدَّ لأوليائه، وما أعدَّ لأعدائِه، كُلُّ هذا مُوَضَّحٌ مُفَصَّلٌ في القرآنِ، وإن كان في القرآنِ بعضُ الآياتِ المتشابهاتِ، فإنها تُرَدُّ إلى الْمُحْكَمَاتِ، وَيُعْرَفُ إيضاحُها بِرَدِّهَا إلى المحكماتِ.
كَمَا قَدَّمْنَا في سورةِ آلِ عمرانَ في تفسيرِ قولِه: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) [آل عمران: آية 7].
يعني: أن المحكماتِ هُنَّ أُمُّ الكتابِ التي يُرَدُّ إليها ما أَشْكَلَ من مُتَشَابِهَاتِهِ. وهذا معنَى قولِه: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام: آية 114] التفصيلُ: ضِدُّ الإجمالِ، وهو الإيضاحُ والبيان” انتهى.
الثاني:
تفصيل آيات الكتاب لا يعني عدم اشتمالها على الإجمال أو الإبهام أو التأويل أو النسخ أو الاحتمال، بل وجود هذه الأنواع من الدلالات : حقيقة واقعة، ولكن القرآن الكريم – في الوقت نفسه – يشتمل على ما يفصل – أي يبين – هذا الإجمال والتأويل والنسخ ونحوه، وتشتمل آياته على بيان بعضها بعضا، وعلى الشرح والتفسير الذي يحتاج إليه الناس.
ومن هنا يمكننا أن نعد خوض العلماء في المراد من الأحرف المقطعة، هو أيضا تفصيل، أي بيان لها، فلا تعارض بين وجودها، وبين وصف القرآن بالكتاب “المفصل”.
يقول ابن العربي المالكي رحمه الله:
“قال العلماء: لو كان القرآن كله سواء في البيان ودرك المعنى ، لما تفاوتت درجات العلماء، وقد سبق من حكم الله أن قوما يرفعون بالعلم، ويتفاوتون في المعرفة، فوقعت أحوالهم على ما وقع به العلم من تنويع البيان لهم” انتهى من “عارضة الأحوذي” (1/124)
ويقول أيضا:
“أما كونه كله محكماً: فبحُسْن الرصف، وبديع الوصف، وغاية الجزالة، ونهاية البلاغة، وقلة الحروف، وكثرة المعاني، وعنه وقع البيان بقوله عَزَّ وَجَلَّ: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ).
وأما كونه متشابهاً كله: فباستوائه في هذه المعاني التي فصلنا، لا تقصير، ولا فضول، ولا حشو، ولا تعارض، ولا تناقض، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) وعنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا).
وأما كونه على قسمين: منه محكم، ومنه متشابه، فالمراد: منه جلي في البيان، ومنه خفي، ولو شاء ربنا سبحانه لجعله على مرتبة واحدة في الجلاء والبيان، ولكنه قسم الحال فيه ، لما سبق من علمه في تقسيمه الخلق إلى عالم وجاهل، ومستوفٍ وناقص، وتفضيلهم في درك المعارف ، كما قال عز وجل: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) فأخبر عز وجل أنه يرفع بالإيمان درجة، ويرفع بالعلم معه أخرى، والذي لا يعلم تأويله: يقتصر على الإيمان به، والتصديق له، والتسليم به في علم الله سبحانه.
والراسخ في العلم: ينظر فيه، ويقرن المتشابه بالمحكم، فما وافق المحكم من احتمال المتشابه قال به، وما خالفه أسقطه، وإن احتمل الأمر عنده بعد ذلك عضده بقول الرسول صلى الله عليه وسلم” انتهى من ” القبس في شرح موطأ مالك بن أنس” (ص1058)
الثالث:
الأحرف المقطعة هي استهلالات مجردة للسور، كالمدخل المنبه فيها، وليست من صلب سياق السورة، ولا من الآيات التي يتحدث القرآن عنها في وصفه لها بالتفصيل، بدليل أن وصف الإحكام والتفصيل جاء أكثره بعد الأحرف المقطعة نفسها مباشرة، قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1]. وقال عز وجل: (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 1 – 3]
فلو كان هذا تناقضا لما وقع على هذا الوجه الذي يُحسِن تجنبَه كلُّ أحد من البشر، فضلا عن رب البشر الذي له الكمال المطلق.
وإنما يتضح أن المقصود بالتفصيل هو الآيات التي وردت بمقاصد القرآن الكريم الأساسية، التي فيها بيان توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ونفي الشريك عنه، وتعليق الحاكمية المطلقة إليه عز وجل، ونحوها من المفاهيم الأساسية التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لتصحيحها في كفار قريش . أما لو لم تفصل بعض الآيات في بعض التفاصيل الخبرية أو الغيبية أو التشريعية، فلا ضير في ذلك .
ولعل الحكمة من هذا: فسحُ أبواب الاجتهاد، وخلق بواعث الحراك العلمي والتأويلي من قبل الراسخين في العلم، وهي من أعظم الحكم وأهمها من وجود المتشابهات في الكتاب والسنة.
الرابع:
كما يمكن القول بأن القرآن “مفصل” عند الراسخين في العلم، حتى الحروف المقطعة ، والمتشابهات في القرآن داخلة في دائرة علمهم وفهمهم.
وبناء عليه ، فلا تعارض ولا تناقض، أما بالقياس على أفهام غير الراسخين في العلم، فالآيات غير المفصلة – أي غير البينة – بالنسبة لهم عديدة وكثيرة، وليست هي الحروف المقطعة فحسب. كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) رواه البخاري (52) ومسلم (1599)، فالاشتباه لا يلحق العلماء، وإنما عامة الناس فحسب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
“التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد، وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة؛ بل القول كله محكم كما قال: (أحكمت آياته ثم فصلت)” انتهى من ” مجموع الفتاوى” (13/ 144)
الخامس:
هذا الإشكال لا يرد إلا إذا فسرنا “تفصيل القرآن” باتضاح معناه وبيانه، كما سبق نقله عن ابن كثير. أما إذا فسرنا كلمة “التفصيل” بتفسيرات أخرى، فيتبين أنها لا تتعارض مع ورود الأحرف المقطعة.
فوصف القرآن بأنه “مفصل” لا يعني اتضاح المعنى والتفسير في قول كثير من العلماء، بل يعني عندهم أنه يبين الصدق من الكذب، ويبين الحق من الباطل، أو يبين الحلال ويفصله عن الحرام… ، أو ما سوى ذلك من الوجوه المذكورة في تفسير “تفصيل” القرآن الكريم .
فإذا حملنا معنى “التفصيل” عليها: فلا يتعارض معها وجود الحروف المقطعة في أوائل السور، لأن وجود الأحرف المقطعة ، لا يعطل بيان القرآن الكريم الحق من الباطل، والحلال والحرام.
يقول الإمام الماوردي رحمه الله:
“ثم قال: (وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) في المفصَّل أربعة تأويلات:
أحدها: تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل.
والثاني: تفصيل الصادق من الكاذب.
والثالث: تفصيل الحق من الباطل, والهدى من الضلال, قاله الحسن.
والرابع: تفصيل الأمر من النهي, والمستحب من المحظور, والحلال من الحرام” انتهى من “النكت والعيون” (2/ 160)
ويقول أيضا رحمه الله:
“(كتابٌ فصلت آياتُه) وفي تفصيل آياته خمسة تأويلات:
أحدها: فسّرت, قاله مجاهد.
الثاني: فصلت بالوعد والوعيد, قاله الحسن.
الثالث: فصلت بالثواب والعقاب, قاله سفيان.
الرابع: فصلت ببيان حلاله من حرامه وطاعته من معصيته، قاله قتادة.
الخامس: فصلت من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم, فحكم فيما بينه وبين من خالفه, قاله عبد الرحمن بن زيد” انتهى من “النكت والعيون” (5/ 167)
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب