يقول الله في القرآن : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (الآية 69، سورة النساء) ، فحسب هذه الآية فمن يطع الله ورسوله سيكون في المنزلة نفسها في الجنة مع هؤلاء الأصناف المذكورة، وفي القرآن يتكلم الله صراحةً عن الجنة التي أعدها للمقربين ، ويتكلم عن الجنة التي أعدها لأصحاب اليمين ،والوصفان غير متطابقين ، فالجنة التي أٌعدت للمقربين خيرٌ من الجنة التي أٌعدت لأصحاب اليمين ، وأصحاب اليمين هم من يطيعون الله ورسوله ، ربما ليسوا جميعًا ولكن كثيرًا منهم ، لذا فمن المفترض أن يكونوا في رفقة هؤلاء الأصناف من الناس الذين أعدت لهم المنازل العليا من الجنة وفقًا للآية ، فكيف تكون الجنة التي أعدت لهم أقل منزلةً من الجنة التي أعدت للمقربين ؟ ألا يفترض أن يكونوا في المنزلة نفسها ؟ وهل سيكونون في المنزلة نفسها، ولكن تكون لهم أشياءً مختلفة ؟ وإن كان الإجابة بـ نعم ، فهل يسري الأمر نفسه على أفراد العائلة ؟ عندما يلتحقون بالمنزلة نفسها لأفراد عائلتهم الذي هم أعلى منهم منزلةً ، فهل تكون لهم أشياء أقل حتى وإن كانوا في المنزلة نفسها ؟
معنى المعية في قوله تعالى : (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ … ) .
السؤال: 245815
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
يقول الله عز وجل في كتابه العزيز :( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء/ 69 .
يقال في اللغة العربية : (مع) لكل من اشترك مع غيره في أمرٍ ما ، ولا يلزم من ذلك اشتراك الطرفين في جميع الأمور .
وعلى هذا ؛ فلا يلزم من المعية في الآية الكريمة المذكورة أن يكون الجميع في درجة واحدة في الجنة ، وإنما المراد : اشتراكهم جميعا في دخول الجنة والتنعم بنعيمها ، وإن كان لكل واحد من المؤمنين درجته التي أنزله الله إياها حسب عمله .
قال القرطبي رحمه الله :
” أَيْ هُمْ مَعَهُمْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَنَعِيمٍ وَاحِدٍ ، يَسْتَمْتِعُونَ بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْحُضُورِ مَعَهُمْ ، لَا أَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُمْ فِي الدَّرَجَةِ ، فَإِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ ، وَكُلُّ مَنْ فِيهَا قَدْ رُزِقَ الرِّضَا بِحَالِهِ ” .
انتهى من ” تفسير القرطبي “(5/ 272):
وقال ابن عاشور رحمه الله :
” الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةُ الْمَنْزِلَةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَجَاتُ مُتَفَاوِتَةً ” .
انتهى من ” التحرير والتنوير ” (5/ 116) .
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله :
” عن ابن عمر – مرفوعاً: ( التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة) وهو حديث جيد الإسناد، صحيح المعنى ، ولا يلزم من المعية أن يكون في درجتهم.
ومنه قوله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )” انتهى من ” ميزان الاعتدال ” (3/ 413).
ومثل هذا ما رواه البخاري (3688) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ ؟ ، قَالَ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا) ، قَالَ: لاَ شَيْء َ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: ( أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ “.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” الْمَعِيَّة تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاجْتِمَاعِ فِي شَيْءٍ مَا، وَلَا تَلْزَمُ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنَّ الْجَمِيعَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ ، صَدَقَتِ الْمَعِيَّةُ، وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الدَّرَجَاتُ ” انتهى من ” فتح الباري” (10/ 555).
والمؤمنون جميعا مشتركون بأنهم معًا في الجنة ، وإن كانت درجاتهم متفاوتة ، قال تعالى : ( وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) الواقعة/ 7 – 12 .
وروى البخاري (3256) ، ومسلم (2831) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: ( إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: (بَلَى ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ) “.
ثانيا :
لا شك أن الأنبياء والصديقين ، والشهداء والصالحين ، والمقربين ، وأصحاب اليمين ، لا شك أن هؤلاء جميعا من أصناف المؤمنين ، وأولياء الله الصالحين ، وأن الجميع من أهل طاعة الله وطاعة رسوله ؛ إلا أن نفس الإيمان يتفاوت ، وتتفاوت درجته بحسب ما في قلوب العباد ، ويتفاوت أهله أيضا بحسب أعمالهم ، فليست طاعة الله وطاعة رسوله على منزلة واحدة ، من نالها ، لم يسبقه أحد ، ولم يتأخر عنه أحد من أهل الطاعة ؛ إنما هؤلاء جميعا درجات عند ربهم؛ وقد جعل الله لكل شيء قدرا ، قال الله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) البقرة/253 ؛ فإذا كان التفاضل حاصلا في درجات الرسل المكرمين ، فكيف بغيرهم من عوام المؤمنين والصالحين ؟!
وقال الله تعالى : ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) النساء/95-96 .
وقال الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال/2-4 .
قال الواحدي رحمه الله :
” وقوله تعالى: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . ونحو هذا قال أهل المعاني: لهم مراتب بعضها أعلى من بعض على قدر أعمالهم ” .
انتهى من “البسيط” (10/24) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
” وَقَوْلُهُ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَيْ: مَنَازِلُ وَمَقَامَاتٌ وَدَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ آلِ عِمْرَانَ/ 163.
وَمَغْفِرَةٌ أَيْ: يَغْفِرُ لَهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَيَشْكُرُ لَهُمُ الْحَسَنَاتِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَرَى الَّذِي هُوَ فَوْقُ فَضْلَهُ عَلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَلَا يَرَى الَّذِي هُوَ أسفلُ أَنَّهُ فُضّل عَلَيْهِ أَحَد” .
انتهى من “تفسير ابن كثير” (4/13) .
ثالثا :
مما يتفضل الله به على عباده المؤمنين : أنه يلحق الأولاد والزوجات بالآباء والأزواج في درجاتهم ، وإن لم يبلغوها بأعمالهم ، لتقر بهم أعينهم ، فقال تعالى :
( رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) غافر/ 8 .
قال الطبري رحمه الله :
” يقول : وأدخل مع هؤلاء الذين تابوا( وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) جنات عدن ، من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، فعمل بما يرضيك عنه من الأعمال الصالحة في الدنيا .
وذُكِر أنه يُدخَل مع الرجل أبواه وولده وزوجته الجنة، وإن لم يكونوا عملوا عمله ، بفضل رحمة الله إياه ” انتهى “تفسير الطبري” (21 /356-357) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
” وقوله : ( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) أي : يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها ، من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانًا من الله وإحسانا ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) ” انتهى “تفسير ابن كثير” (4 /451) .
وينظر للأهمية حول تفصيل ذلك ، وتحرير المقام فيه : جواب السؤال رقم: (121192) ، ورقم : (107781) .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة