0 / 0
45,39710/05/2017

تفسير قوله تعالى (جنةٍ بربوة) .

السؤال: 249479

جاءت كلمة” ربوة” في سورة البقرة، الآية رقم/265 ، وقد ترجمت الكلمة لتعني الحديقة فوق الأرض العالية التي تؤتي ضعف غيرها من الثمار.
ولكن قرأت في تفسير ابن كثير أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه المكان المرتفع من الأرض ، وهو أحسن ما يكون فيه النبات. فهل هناك إجماع على ذلك.
لم أستطع فهم الحكمة من ذكر المكان العالي على وجه التحديد مع وجود أماكن خصبة في الوديان، ويمكنها أن تؤتي ضعف الثمار ؟ وهل يمكن اعتبار المكان الخصب المتدني ربوة أيضًا ؟ وهل أثبت العلم فضل المكان الخصب المرتفع من الأرض على غيره من الأماكن الخصبة ؟
وأين يمكن إيجاد مثل هذه الأماكن؟ وإن كان المكان مرتفعا كثيرا، فقد يكون الجو حارا ويؤدي ذلك إلى الجفاف؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

اختلف المفسرون في تفسير كلمة (ربوة) في قول الله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة/ 265. وذلك على قولين:

القول الأول:
الربوة: المكان المرتفع من الأرض. وهو ما قرره جمهور المفسرين، مستندين إلى أصل المعنى اللغوي لكلمة (الربوة) التي هي المكان المرتفع من الأرض.
يقول ابن جرير الطبري رحمه الله:
“والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية : أغلظ ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ … خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ
فوصفها بأنها من رياض الحَزن، لأن الحُزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
وإنما سميت (الربوة) لأنها ربت ، فغلظت وعلت، من قول القائل: ربا هذا الشيء يربو، إذا انتفخ فعظُم.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
ثم ذكر قول مجاهد :
هي الأرض المستوية المرتفعة…
وذكر نحوه عن قتادة والضحاك والسدي والربيع .
وقال : قال ابن عباس :
(كمثل جنه بربوة)، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار” .
انتهى من “جامع البيان” (5/535-536) ، ملخصا .
ويقول ابن قتيبة رحمه الله:
“وأحسن ما تكون الجنان والرّياض: على الرّبا” انتهى من “تأويل مشكل القرآن” (ص: 196).
ويقول أبو إسحاق الزجاج رحمه الله:
“والربوة ما ارتفع من الأرض، والجنة البستان، وكل ما نبت وكثف وكثر، وستر بعضه بعضاً فهو جنة .
والموضع المرتفع إِذا كان له ما يرويه من الماءِ : فهو أكثر ريْعاً من المستفِل .
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن نفقة هُؤلاءِ المؤمنين ، تزْكو كما يزكو نبْتُ هذه الجنة التي هي في مكان مرتفع” انتهى من ” معاني القرآن وإعرابه” (1/ 348) .

ويقول ابن قيم الجوزية رحمه الله:
“(كمثل جنة بربوة) وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنة فيه نصب الشمس والرياح، فتتربى الأشجار هناك ، أتم تربية، فنزل عليها من السماء مطر عظيم القطر، متتابع، فرواها ونماها، فآتت أكلها ضعفي ما يؤتيه غيرها ، بسبب ذلك الوابل” انتهى من “إعلام الموقعين” (1/ 141).
ويقول أيضا:
“والجنة بربوة – وهو المكان المرتفع- لأنها أكمل من الجنة التى بالوهاد والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضج ثمراً، وأطيبه، وأحسنه، وأكثره، فإن الثمار تزداد طيباً وزكاءَ بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأُ في الظلال .
وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع ، لم يخش عليها إلا من قلة الشرب، فقال تعالى: (أصابَها وَابِلٌ) [البقرة: 265]، وهو المطر الشديد العظيم القدر، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها، فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها، أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل، فهذا حال السابقين المقربين” انتهى من “طريق الهجرتين” (ص369)، وانظر أيضا “مدارج السالكين” (1/ 255).

ويقول العلامة السعدي رحمه الله:
“وهذه الجنة (بربوة) أي: محل مرتفع ضاحٍ للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس” .
انتهى من “تيسير الكريم الرحمن” (ص114) .

القول الثاني:
الربوة تعني الأرض المستوية السهلة ، سواء كانت مرتفعة أم نازلة في الوديان، ولكن المهم أنها لا صعوبة فيها، ولا تختلف أجزاؤها.
روى عبد الرزاق الصنعاني في “التفسير” (1/ 370) عن الحسن البصري, في قوله تعالى: (جنة بربوة) [البقرة: 265] قال: هي الأرض المستوية التي لا تعلو فوقها الماء.

وأسنده أيضا الطبري بعد أن نقل هذا الوجه الثاني قائلا: “وكان آخرون يقولون: هي المستوية”. ينظر “جامع البيان” (5/537) .

وقال الماوردي رحمه الله:
“(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) في الربوة قولان:
أحدهما: هي الموضع المرتفع من الأرض ، وقيل المُسْتَوِي في ارتفاعه.
والثاني: كل ما ارتفع عن مسيل الماء ، قاله اليزيدي” انتهى من “النكت والعيون” (1/ 340) .

ويقول الرازي رحمه الله:
“واعلم أن المفسرين قالوا: البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعا.
ولي فيه إشكال:
وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء، ولا ترتفع إليه أنهار، وتضربه الرياح كثيرا، فلا يحسن ريعه ، وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح ، فلا يحسن أيضا ريعه ، فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة ، فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا، بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل الأشجار فيها.
وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين:
أحدهما: قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) [الحج: 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا ، فكذا هاهنا.
والثاني: أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل ، كون الأرض بحيث تربو وتنمو.
فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده” انتهى من “مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير” (7/ 49)

ويبدو أنه ترجيح الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، فقد أيد كلام الرازي بدليل سياق الآيات، فقال:
“(كمثل جنة بربوة) أي بستان بمكان مرتفع من الأرض. قالوا: وما كان كذلك من الجنات كان عمل الشمس والهواء فيه أكمل، فيكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا، أما الأماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلا قليلا فلا تكون كذلك.
وقال بعضهم – واختاره الإمام الرازي -: إن المراد بالربوة الأرض المستوية الجيدة التربة، بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو، كما قال: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت) الآية، ويؤيده كون المثل مقابلا لمثل الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، أي فكان ثمرها مثلي ما كانت تثمر في العادة أو أربعة أمثاله على القول بأن ضعف الشيء مثله مرتين” انتهى من ” تفسير المنار” (3/ 57) .

وهكذا يتبين أن ما أورده السائل هو قول معتبر لدى المفسرين، يركز على خصوبة الأرض وسلامة تربتها وبيئتها بغض النظر عن انخفاضها أو ارتفاعها.
ونحن نقول هنا : إن هذا هو المقصد الأهم الذي وردت الآيات الكريمات تضرب فيه الأمثال .

ولكن لا مانع أن نجعل ارتفاع الأرض وإطلالتها الواسعة، وانفتاحها على الأفق، مزايا أخرى مهمة، إلى جانب خصوبتها وحيازتها أسباب النماء والبقاء.
وبهذا يمكن أن نجمع بين القولين، فالقول الأول الذي يؤكد أن الربوة مكان مرتفع من الأرض ، لم يقصد بحال من الأحوال مجرد الارتفاع، بقطع النظر عن أسباب الخصوبة الأخرى، بل لا بد من اشتمالها – مع ارتفاعها – على جميع عوامل الإثمار.
والقول الثاني : لا يعارض هذه الفكرة، المهم عنده أن تكون الأرض مستوية سهلة الزرع، وبعيدة عن مسيل المياه الجارفة.

وعلى أية حال : فالمراد بذلك كله ، كما سبق : ضرب المثل على توسعة الله لأهل الإنفاق ، وإخلافه عليهم ، ومضاعفته لأجرهم ، وشكره لعملهم ؛ فلا ينبغي أن يصرفنا المثل ، وألفاظه ، عن المعنى الذي سيقت له الآيات .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الاسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android