لماذا لم ينزل الله العذاب على قريش بعد تكذيبهم بمعجزة انشقاق القمر ، وكل أمه كذبت معجزة أهلكت ، وحديث ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام : أن الله لم يعطهم معجزة ؛ وهي تحويل الجبال إلى ذهب ؛ لانهم إذا كذبوا سيهلكهم ، فلم يعطهم المعجزة ، فهل هناك تناقض في آية انشقاق القمر مع القرآن ؛ لأنهم لم يهلكوا ؟
من سنة الله أن الأمم إذا طلبت آية معينة ثم لم تؤمن بها فإن الله يعاجلها بالعذاب
السؤال: 252799
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
لا تعارض – والحمد لله – فيما ذكره السائل .
فإن الله تعالى يعاجل المشركين بالهلاك إذا كذبوا بالآية المعينة التي طلبوها ، أما إذا لم يطلبوا آية معينة ، وإنما طلبوا جنس الآيات ، كما قال فرعون لموسى : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) .
فإن الله لا يعاجلهم بالإهلاك على تكذيبهم ، بل يمهلهم ويعطيهم الفرصة لعلهم يرجعون عن غيهم .
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا المعنى عند تفسيرهم لقول الله تعالى : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) الإسراء / 59.
قال الطبري في تفسيره (17/476) :
” يقول تعالى ذكره : وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك ، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذبة ، سألوا ذلك مثل سؤالهم ؛ فلما آتاهم ما سألوا منه ، كذبوا رسلهم ، فلم يصدقوا مع مجيء الآيات ، فعوجلوا ، فلم نرسل إلى قومك بالآيات ، لأنا لو أرسلنا بها إليها ، فكذبوا بها ، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها … “
ثم أسند إلى ابن عباس قال : ” سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال ، فيزرعوا ؟
فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم ، لعلنا نجتني منهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا ، كما أهلك من قبلهم ؟
قال : بل تستأني بهم ، فأنزل الله : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) ” انتهى .
وحديث ابن عباس المذكور : رواه أحمد (2333ـ الرسالة) ، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : “إسناده صحيح” . وقال محققو ط الرسالة : ” إسناده صحيح على شرط الشيخين” .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله ، في تفسير قوله تعالى ( وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ) :
” والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم ، وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها ” .
انتهى من “تفسير السعدي” (ص 251) .
وينظر أيضا : ” تفسير السعدي ” (ص461) .
وأما انشقاق القمر ، فهو آية عظيمة من آيات الله ، لكن المشركين لم يطلبوها بعينها ، بل طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فأراهم القمر شقين ، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة .
روى البخاري (3636) ، ومسلم (43) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْهَدُوا) ” .
وروى البخاري ومسلم أيضا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً ، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ” .
وقد بوّب البخاري في صحيحه بتبويب دقيق : ( بَابُ سُؤَالِ المُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً، فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ القَمَرِ) .
فليس في الأحاديث أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشق لهم القمر شقين، بل سألوا آية غير معينة ؛ ولأجل ذلك لم يكن لزاما أن يحل بهم العذاب لما كذبوا وقالوا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
وأما ما أخرجه أبو نعيم في “دلائل النبوة” من حديث موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن ابن عباس أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ” إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ الْقَمَرَ لَنَا فِرْقَتَيْنِ… ” :
فحديث ضعيف ، لا تقوم به حجة ولا تعارض به الأحاديث الصحيحة .
قال ابن حجر رحمه الله : أخرجه ” أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِل من وَجه ضَعِيف عَن ابن عَبَّاسٍ ” .
انتهى من ” فتح الباري ” (7/182) .
وهناك وجه آخر لدفع التعارض الذي ظنه السائل :
وهو أن الآية التي يعجل الهلاك للمكذبين بها ، إنما هي الآية العامة التي ظهرت لعموم المشركين ، فكذبوا بها ، ولم تكن خاصة بقوم منهم ، أو رآها القليل من الناس .
وقد أشار ابن الجوزي والخطابي رحمها الله إلى هذا المعنى .
قال ابن الجوزي رحمه الله : ” وَاعْلَم أَن انْشِقَاق الْقَمَر من الْآيَات الَّتِي فاق بهَا على الْأَنْبِيَاء، فَلَيْسَ لَهُم مثلهَا؛ لِأَنَّهُ أَمر خَارج عَن الْأُمُور الأرضية.
وَقد اعْترض قوم فَقَالُوا: كَيفَ نقل هَذَا نقل آحَاد والخلق قد رَأَوْهُ؟
فَالْجَوَاب: أن هَذَا أَمر طلبه قوم من أهل مَكَّة ، فَأَرَاهُم تِلْكَ الْآيَة لَيْلًا، وَأكْثر النَّاس نيام وَفِي أسمارهم وأشغالهم .
وَإِنَّمَا رَآهُ الْقَلِيل مِمَّن لم يطْلب، وَلَو ظهر لجَمِيع الْخلق ، ثمَّ لم يُؤمنُوا : لبُغِتوا بِالْعَذَابِ ، كَمَا جرى للأمم المكذبة بِالْآيَاتِ الحسية، قَالَ عز وَجل: (وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ) [الْإِسْرَاء: 59] . الْمَعْنى: كذبُوا فأهلكوا، وَلَو أرسلناها فَكَذَّبْتُمْ ، لأهلكتكم.
والإشارات إِلَى الْآيَات الحسية، كناقة صَالح ” .
انتهى من “كشف المشكل من حديث الصحيحين” لابن الجوزي (1/286) .
وقال الخطابي رحمه الله : ” وقد أنكر هذا الخبر منكرون وقالوا: لو كان له حقيقة لم يجز أن يخفى أمره على عوامِّ الناس ، ولتواترت به الأخبار ، عن قرن إلى قرن ، لأنه أمر ، مصدره عن حسٍّ ومشاهدة ، فالناس فيه شركاء ، وهم مطالبون بفطر العقول ، ومن جهة دواعي النفوس ، بذكر كل أمر عجيب ، ونقل كل خبر غريب ، فلو كان لما روي من ذلك أصلٌ ، لكان قد خُلِّد ذكره في الكتب ، ودوِّن في الصحف ، ولكان أهل السِّير وأهل التنجيم والحفظة على الأزمان ، وأهل العناية بالتاريخ ، يعرفونه ، ولا ينكرونه ، إذ كان لا يجوز الإطباق منهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه وجلاء أمره ؟
والجواب: أن الأمر في هذا خارج عمَّا ذهبوا إليه ، من قياس الأمور النادرة الغريبة إذا ظهرت لعامّة الناس ، واستفاض العلم بها عندهم ، وذلك أن هذا شيءٌ طلبه قوم خاصٌّ من أهل مكة ، على ما رواه أنس بن مالك ، فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً ، لأن القمر آية الليل ، ولا سلطان له بالنهار ، وأكثر الناس في الليل تنام ومُستكنُّون بأبنية وحجب ، والأيقاظ البارزون منهم في البوادي والصَّحارى ، قد يتفق أن يكونوا في ذلك الوقت مشاغيل بما يُلهيهم من سمر وحديث ، وبما يهمّهم من شغل ومهنة ، ولا يجوز أن يكونوا لا يزالون مقنعي رؤوسهم ، رافعين لها إلى السماء ، مترصِّدين مركز القمر من الفلك ، لا يغفلون عنه ، حتى إذا حدث بجرم القمر حدثٌ من الانشقاق أبصروه في وقت انشقاقه ، قبل التئامه واتِّساقه .
وكثيراً ما يقع للقمر الكسوف ، فلا يشعر به الناس ، حتى يخبرهم الآحاد منهم والأفراد من جماعتهم ، وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مُدْرَك البصر .
ولو أحبّ الله أن تكون معجزات نبيّه عليه السلام أموراً واقعةً تحت الحسِّ ، قائمةً للعيان ، حتى يشترك في معاينته الخاصة والعامة : لفعل ذلك ، ولكنه سبحانه قد جرت سُنَّته بالهلاك والاستئصال في كل أمّة أتاها نبيُّها بآيةٍ عامة ، يُدركها الحسُّ ، فلم يؤمنوا بها .
وخصَّ هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها التي دعاهم إليها ، وتحدَّاهم بها : عقليَّة ، وذلك لما أُوتوُه من فضل العقول ، وزيادة الأفهام ، ولئلا يهلكوا ، فيكون سبيلهم سبيل من هلك من سائر الأمم المسخوط عليهم المقطوع دابرهم ، فلم يبق لهم عين ولا أثرٌ .
والحمد لله على لطفه بنا ، وحسن نظره لنا ، وصلى الله على نبيه المصطفى وعلى آله وسلم كثيراً ” انتهى، من “أعلام السنن، شرح صحيح البخاري” (3/1617-1620) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب