0 / 0

من سنة الله أن الأمم إذا طلبت آية معينة ثم لم تؤمن بها فإن الله يعاجلها بالعذاب

السؤال: 252799

لماذا لم ينزل الله العذاب على قريش بعد تكذيبهم بمعجزة انشقاق القمر ، وكل أمه كذبت معجزة أهلكت ، وحديث ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام : أن الله لم يعطهم معجزة ؛ وهي تحويل الجبال إلى ذهب ؛ لانهم إذا كذبوا سيهلكهم ، فلم يعطهم المعجزة ، فهل هناك تناقض في آية انشقاق القمر مع القرآن ؛ لأنهم لم يهلكوا ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا تعارض – والحمد لله – فيما ذكره السائل .
فإن الله تعالى يعاجل المشركين بالهلاك إذا كذبوا بالآية المعينة التي طلبوها ، أما إذا لم يطلبوا آية معينة ، وإنما طلبوا جنس الآيات ، كما قال فرعون لموسى : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ) .
فإن الله لا يعاجلهم بالإهلاك على تكذيبهم ، بل يمهلهم ويعطيهم الفرصة لعلهم يرجعون عن غيهم .
وقد أشار بعض المفسرين إلى هذا المعنى عند تفسيرهم لقول الله تعالى : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) الإسراء / 59.
قال الطبري في تفسيره (17/476) :
” يقول تعالى ذكره : وما منعنا يا محمد أن نرسل بالآيات التي سألها قومك ، إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذبة ، سألوا ذلك مثل سؤالهم ؛ فلما آتاهم ما سألوا منه ، كذبوا رسلهم ، فلم يصدقوا مع مجيء الآيات ، فعوجلوا ، فلم نرسل إلى قومك بالآيات ، لأنا لو أرسلنا بها إليها ، فكذبوا بها ، سلكنا في تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلها … “
ثم أسند إلى ابن عباس قال : ” سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال ، فيزرعوا ؟
فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم ، لعلنا نجتني منهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا ، كما أهلك من قبلهم ؟
قال : بل تستأني بهم ، فأنزل الله : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) ” انتهى .
وحديث ابن عباس المذكور : رواه أحمد (2333ـ الرسالة) ، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله : “إسناده صحيح” . وقال محققو ط الرسالة : ” إسناده صحيح على شرط الشيخين” .

وقال الشيخ السعدي رحمه الله ، في تفسير قوله تعالى ( وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ) :
” والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم ، وعدم إنظارهم، لأن هذه سنة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها ” .
انتهى من “تفسير السعدي” (ص 251) .
وينظر أيضا : ” تفسير السعدي ” (ص461) .

وأما انشقاق القمر ، فهو آية عظيمة من آيات الله ، لكن المشركين لم يطلبوها بعينها ، بل طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية ، فأراهم القمر شقين ، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة .
روى البخاري (3636) ، ومسلم (43) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْهَدُوا) ” .

وروى البخاري ومسلم أيضا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ” أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً ، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ القَمَرِ” .
وقد بوّب البخاري في صحيحه بتبويب دقيق : ( بَابُ سُؤَالِ المُشْرِكِينَ أَنْ يُرِيَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةً، فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ القَمَرِ) .
فليس في الأحاديث أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يشق لهم القمر شقين، بل سألوا آية غير معينة ؛ ولأجل ذلك لم يكن لزاما أن يحل بهم العذاب لما كذبوا وقالوا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
وأما ما أخرجه أبو نعيم في “دلائل النبوة” من حديث موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن ابن عباس أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ” إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ الْقَمَرَ لَنَا فِرْقَتَيْنِ… ” :
فحديث ضعيف ، لا تقوم به حجة ولا تعارض به الأحاديث الصحيحة .
قال ابن حجر رحمه الله : أخرجه ” أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِل من وَجه ضَعِيف عَن ابن عَبَّاسٍ ” .
انتهى من ” فتح الباري ” (7/182) .

وهناك وجه آخر لدفع التعارض الذي ظنه السائل :
وهو أن الآية التي يعجل الهلاك للمكذبين بها ، إنما هي الآية العامة التي ظهرت لعموم المشركين ، فكذبوا بها ، ولم تكن خاصة بقوم منهم ، أو رآها القليل من الناس .
وقد أشار ابن الجوزي والخطابي رحمها الله إلى هذا المعنى .
قال ابن الجوزي رحمه الله : ” وَاعْلَم أَن انْشِقَاق الْقَمَر من الْآيَات الَّتِي فاق بهَا على الْأَنْبِيَاء، فَلَيْسَ لَهُم مثلهَا؛ لِأَنَّهُ أَمر خَارج عَن الْأُمُور الأرضية.
وَقد اعْترض قوم فَقَالُوا: كَيفَ نقل هَذَا نقل آحَاد والخلق قد رَأَوْهُ؟
فَالْجَوَاب: أن هَذَا أَمر طلبه قوم من أهل مَكَّة ، فَأَرَاهُم تِلْكَ الْآيَة لَيْلًا، وَأكْثر النَّاس نيام وَفِي أسمارهم وأشغالهم .
وَإِنَّمَا رَآهُ الْقَلِيل مِمَّن لم يطْلب، وَلَو ظهر لجَمِيع الْخلق ، ثمَّ لم يُؤمنُوا : لبُغِتوا بِالْعَذَابِ ، كَمَا جرى للأمم المكذبة بِالْآيَاتِ الحسية، قَالَ عز وَجل: (وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ) [الْإِسْرَاء: 59] . الْمَعْنى: كذبُوا فأهلكوا، وَلَو أرسلناها فَكَذَّبْتُمْ ، لأهلكتكم.
والإشارات إِلَى الْآيَات الحسية، كناقة صَالح ” .
انتهى من “كشف المشكل من حديث الصحيحين” لابن الجوزي (1/286) .

وقال الخطابي رحمه الله : ” وقد أنكر هذا الخبر منكرون وقالوا: لو كان له حقيقة لم يجز أن يخفى أمره على عوامِّ الناس ، ولتواترت به الأخبار ، عن قرن إلى قرن ، لأنه أمر ، مصدره عن حسٍّ ومشاهدة ، فالناس فيه شركاء ، وهم مطالبون بفطر العقول ، ومن جهة دواعي النفوس ، بذكر كل أمر عجيب ، ونقل كل خبر غريب ، فلو كان لما روي من ذلك أصلٌ ، لكان قد خُلِّد ذكره في الكتب ، ودوِّن في الصحف ، ولكان أهل السِّير وأهل التنجيم والحفظة على الأزمان ، وأهل العناية بالتاريخ ، يعرفونه ، ولا ينكرونه ، إذ كان لا يجوز الإطباق منهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه وجلاء أمره ؟
والجواب: أن الأمر في هذا خارج عمَّا ذهبوا إليه ، من قياس الأمور النادرة الغريبة إذا ظهرت لعامّة الناس ، واستفاض العلم بها عندهم ، وذلك أن هذا شيءٌ طلبه قوم خاصٌّ من أهل مكة ، على ما رواه أنس بن مالك ، فأراهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ليلاً ، لأن القمر آية الليل ، ولا سلطان له بالنهار ، وأكثر الناس في الليل تنام ومُستكنُّون بأبنية وحجب ، والأيقاظ البارزون منهم في البوادي والصَّحارى ، قد يتفق أن يكونوا في ذلك الوقت مشاغيل بما يُلهيهم من سمر وحديث ، وبما يهمّهم من شغل ومهنة ، ولا يجوز أن يكونوا لا يزالون مقنعي رؤوسهم ، رافعين لها إلى السماء ، مترصِّدين مركز القمر من الفلك ، لا يغفلون عنه ، حتى إذا حدث بجرم القمر حدثٌ من الانشقاق أبصروه في وقت انشقاقه ، قبل التئامه واتِّساقه .
وكثيراً ما يقع للقمر الكسوف ، فلا يشعر به الناس ، حتى يخبرهم الآحاد منهم والأفراد من جماعتهم ، وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مُدْرَك البصر .
ولو أحبّ الله أن تكون معجزات نبيّه عليه السلام أموراً واقعةً تحت الحسِّ ، قائمةً للعيان ، حتى يشترك في معاينته الخاصة والعامة : لفعل ذلك ، ولكنه سبحانه قد جرت سُنَّته بالهلاك والاستئصال في كل أمّة أتاها نبيُّها بآيةٍ عامة ، يُدركها الحسُّ ، فلم يؤمنوا بها .
وخصَّ هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها التي دعاهم إليها ، وتحدَّاهم بها : عقليَّة ، وذلك لما أُوتوُه من فضل العقول ، وزيادة الأفهام ، ولئلا يهلكوا ، فيكون سبيلهم سبيل من هلك من سائر الأمم المسخوط عليهم المقطوع دابرهم ، فلم يبق لهم عين ولا أثرٌ .
والحمد لله على لطفه بنا ، وحسن نظره لنا ، وصلى الله على نبيه المصطفى وعلى آله وسلم كثيراً ” انتهى، من “أعلام السنن، شرح صحيح البخاري” (3/1617-1620) .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android