هل يوجد تعارض بين الحديثين الآتيين :
1-عن عائشة قالت: ” استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة: وأنا معه في البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس ابن العشيرة ، ثم أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة: فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فلما خرج الرجل، قلت: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت ، ثم لم تنشب أن ضحكت معه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره ).
2-حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه).
حيث يروج المشككون أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم متناقض، ويقولون: إنه قال لعائشة عن الرجل المذكور فى الحديث الأول أنه بئس ابن العشيرة ، وقام بذمه أمام عائشة، لكن عندما دخل عليه نفس الرجل ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم فى وجهه ، ويقولون: إن محمدا كان بوجهين ، فذم الرجل أمام عائشة، ولكن ضحك فى وجهه عندما دخل عليه ، وهذا يناقض الحديث الثاني.
أرجو أن تردوا على هذه الشبهة.
التوفيق بين حديث ” بئس أخو العشيرة ” وحديث في ” ذم ذي الوجهين
السؤال: 254388
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
إذا كان أحد الطاعنين من أصحاب الشبهات لا يفرق بين “المداراة” من جهة ، وبين “المداهنة أو النفاق” من جهة أخرى، فهذه مشكلته المعرفية ، وليست إشكالية في السنة النبوية، ولا في الأخلاق الرسالية الشريفة التي تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذو الوجهين – الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ) رواه البخاري (7179) ، ومسلم (2526) – هو الذي يغش كلا الطرفين، فيوهمهم ويكذب عليهم بلسان حاله ومقاله ، أنه يحب منفعتهم ، ويتلهف لعونهم ومحبتهم ، ويسعى لأجلهم ، ولكنه في حقيقة الأمر يطلب ضرهم ، ويبحث عن كل ما يسوؤهم، ويضمر لهم كل سوء، ويمكر بهم الدوائر، وذلك لحساب نفسه، أو لحساب قوم آخرين.
وهذا الخلق السيئ لا يمكن لأحد من الطاعنين إثبات نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أي دليل عليه، بل الأدلة كلها جاءت بتحريم هذا السلوك، وذم كل خلق يقوم على هذا الوجه من النفاق.
أما المُداري فهو الذي لا ينطق بباطل، ولا يكذب، ولا يغش من يحادثه ويداريه، ولا يشاركه في سوء خلقه وعمله، ولا يظهر له موافقته على باطله، وإنما يسكت عنه في أحيان، ويجامله بالبشاشة والمعاملة الحسنة فقط، دون أدنى تنازل أو غش أو سعي في أذية، لعله يؤثر فيه بعد ذلك ، ويستمع لنصحه، أو لعله يتقي شره ويجتنب أذيته، ولكن دون وقوع في أي مشاركة في الإثم والعدوان.
والمداراة هي ما صدرت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة الوارد في السؤال: ” أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: ( بِئْسَ أَخُو العَشِيرَة ِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ ) ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) .
رواه البخاري (6032) ، ومسلم (2591) .
فهو صلى الله عليه وسلم لم ينطق بباطل مع هذا الرجل الذي دخل عليه ، فلم يمدحه، ولم يثن عليه ، ولم يشاركه في سوء أخلاقه، ولم يؤيده على شيء من مسالكه، وإنما داراه بالبشاشة وطلاقة الوجه – المعهودة عنه عليه الصلاة والسلام على الدوام–، لعله يؤثر في قلبه بعد ذلك إذا سمع نصحه وتذكيره ، فيخلصه من نفاقه وسوء أفعاله.
وهذا الفرق عظيم في الفلسفة الأخلاقية لدى جميع الناس، ولدى جميع المختصين بعلوم الأخلاق ومنظومتها، وقرره علماء الإسلام من قديم الزمان. كما سبق بيانه في الفتوى رقم: (84124).
فمن لم يدرك هذا الفرق ، فهو كمن يساوي بين البخل والاقتصاد، وبين الجبن والحكمة، وبين الخوف والحذر. وما ذلك إلا بسبب ضعف المعرفة التي يتمكن الإنسان من خلالها أن يميز بين الأمور المشتبهة .
يقول القاضي عياض رحمه الله – في شرح حديث (بئس ابن العشيرة)-:
“هذا من المداراة، وهو بذل الدنيا لصلاح الدنيا والدين. وهى مباحة مستحسنة فى بعض الأحوال، خلاف المداهنة المذمومة المحرمة، وهو بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبى عليه الصلاة والسلام هنا بذل له من دنياه حسن عشيرته، ولا سيما كلمته وطلاقة وجهه، ولم يمدحه بقول، ولا رُوي ذلك فى حديث، فيكون خلاف قوله فيه لعائشة.
فلا يعترض على هذا بالمداهنة، ولا بحديث ذى الوجهين، والنبى عليه الصلاة والسلام منزه عن هذا كله، وحديثه أصل فى المداراة وغيبة أهل الفسوق والكفار وأهل البدع والمجاهرة” .
انتهى من ” إكمال المعلم بفوائد مسلم” (8/ 62) .
ويقول أيضا رحمه الله:
“وقوله: (مَن شر الناس ذو الوجهين): تقدم الكلام فيه، وهو بيِّنٌ، وهذا فيما ليس طريقه الإصلاح والخير، بل فى الباطل والكذب ، وتزيينه لكل طائفة عملها، وتقبيحه عند الأخرى، وذم كل واحدة عند الأخرى ، بخلاف المداراة والإصلاح المرغب فيه ، وإنما يأتى لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل لها الجميل عنها” .
انتهى من “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (8/ 76) .
ويقول ابن الملقن رحمه الله – في شرح حديث (إن من شر الناس ذا الوجهين)-:
” لا ينبغي لمؤمن أن يثني على سلطان أو غيره في وجهه ، وهو عنده مستحق للذم ، ولا يقول بحضرته خلاف ما يقوله إذا خرج من عنده ؛ لأن ذلك نفاق، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما، وقال فيه عليه السلام: (شر الناس ذو الوجهين)؛ لأنه يظهر لأهل الباطل الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ؛ ليرضي كل فريق منهم ، ويريد أنه منهم، وهذِه المداهنة المحرمة على المؤمنين.
فإن قلت: إن حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة يعارضان قوله عليه السلام للذي يستأذن عليه: (بئس ابن العشيرة) ثم يلقاه بوجه طلق وترحيب.
قلت: لا تعارض؛ لأنه عليه السلام لم يقل خلاف ما قاله عنه ، بل أبقاه على التجريح عند السامع ، ثم تفضل عليه بحسن اللقاء والترحيب ، لما كان يلزمه عليه السلام من الاستئلاف، وكان يلزمه التعريف لخاصته بأهل التخليط ، والتهمة بالنفاق .
وقد قيل: إن تلقيه له بالبشر إنما كان لاتقاء شره، وليكف بذلك أذاه عن المسلمين، فإنما قصد بالوجهين جميعًا إلى نفع المسلمين ؛ بأن عرفهم بسوء حاله ، وبأن كفاهم ببشره له أذاه وشره .
وذو الوجهين بخلاف هذا؛ لأنه لا يقول الشيء بالحضرة، وقد قال ضده في غير الحضرة، وهذا تناقض. فالذي فعله عليه السلام محكم مبين ، لا تناقض فيه؛ لأنه لم يقل لابن العشيرة عند لقائه : إنه فاضل ولا صالح؛ بخلاف ما قال فيه في غير وجهه” .
انتهى من “التوضيح لشرح الجامع الصحيح” (32/ 534) .
ويقول المناوي رحمه الله:
“(ذو الوجهين في الدنيا) قال النووي: وهو الذي يأتي كل طائفة بما تحب ، فيظهر لها أنه منها، ومخالف لضدها، وصنيعه خداع ليطلع على أحوال الطائفتين … فإن ذلك أصل من أصول النفاق، يكون مع قوم ، وفي حال ، على صفة، ومع آخرين بخلافهما، والمؤمن ليس إلا على حالة واحدة في الحق ، لا يخاف في الله لومة لائم، إلا إن كان ثمة ما يوجب مداراة ، لنحو اتقاء شر، أو تأليف، أو إصلاح بين الناس …
وبما تقرر عرف أنه لا تدافع بين هذا وبين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيمن استأذن عليه : (بئس أخو العشيرة) فلما دخل ألان له القول. وقول علي: إنا لنبش في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم” انتهى من “فيض القدير” (3/ 568) .
وأخيرا ، النصيحة لجميع شباب المسلمين أن يشتغلوا بما ينفعهم من العلم النافع والعمل الصالح، بعيدا عن الانشغال بالشبهات ومنتدياتها ومواقعها، فطريق الشبهات طريق لا نهاية له سوى الحيرة والقلق والاضطراب ، ولا يشرع التصدي لها ، إلا للعالم أو طالب العلم المتمكن من فهم العلوم وتحقيق مسائلها ومناهج البحث فيها، وما حال من ينطلق في بحر الشبهات ، إلا كحال من ينطلق في ماء البحر حقيقة ، وهو لا يحسن العوم والسباحة.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة