قال تعالى وهو يصف عباد الرحمن : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ………………. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ .. )
السؤال :
لماذا جاءت آية ” ولا يدعون مع الله إلها آخر ” متأخرة ، ولم تأت في البداية في وصف عباد الرحمن ؟ فالتوحيد وعدم الشرك يفترض أن يكون أولا في الترتيب ؟
لماذا تأخرت آية (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) في وصف عباد الرحمن عن غيرها من صفاتهم؟
السؤال: 255651
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
أما الآية الكريمة: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) الفرقان/ 63 ، فالمراد بها أن الله جل جلاله قد مدح عباده هؤلاء بأنهم يمشون على الأرض هونا ؛ يعني : بالحلم والسكينة والوقار ، غير مستكبرين، ولا متجبرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله .
ينظر : “جامع البيان” ، لابن جرير الطبري : (17/ 489).
وأما الآية الأخرى: فيقول تعالى ذكره: والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون في عبادتهم إياه ، ولكنهم يخلصون له العبادة ويفردونه بالطاعة (ولا يقتلون النفس التي حرم الله) [الفرقان: 68] قتلها (إلا بالحق) [الأنعام: 151] إما بكفر بالله بعد إسلامها، أو زنا بعد إحصانها، أو قتل نفس فتقتل بها (ولا يزنون) [الفرقان: 68] فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج (ومن يفعل ذلك) [البقرة: 231] يقول: ومن يأت هذه الأفعال، فدعا مع الله إلها آخر، وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق، وزنى (يلق أثاما) [الفرقان: 68] يقول: يلق من عقاب الله عقوبة ونكالا، كما وصفه ربنا جل ثناؤه، وهو أنه (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) [الفرقان: 69]” “جامع البيان” (17/ 505).
وقد أخرج البخاري (4761)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ قال: ” سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، قلت: ثم أي؟ قال: ( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك )، قلت: ثم أي؟ قال: ( أن تزاني بحليلة جارك )، قال: ونزلت هذه الآية تصديقاً لقول رسول الله (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) “فتح الباري” (8/ 492).
ومناسبة هذه الآية ، أن الله تعالى لما ذكر أهل التذكر والشكور ، أتى بصفة عباد الرحمن الذين هم أهل لذلك، كما ذكر الإمام ابن عطية: ” أن الله تعالى قال لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور” انتهى من ” المحرر الوجيز” (4/ 218).
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله :
“واعلم هذه أن الصلات التي أجريت على عباد الرحمن جاءت على أربعة أقسام:
قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية ، وهي التي ابتدئ بها من قوله تعالى: (الذين يمشون على الأرض هونا إلى قوله سلاما) [الفرقان: 75].
وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك ، وهو الذي من قوله: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) [الفرقان: 68].
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام ، وهو قوله: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) [الفرقان: 64]، وقوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا) [الفرقان: 67] الآية، وقوله: (ولا يقتلون النفس إلى قوله لا يشهدون الزور) [الفرقان: 68- 72] إلخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة ، وهو قوله: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا إلى قوله: للمتقين إماما) [الفرقان: 74] .” انتهى من “التحرير والتنوير” (19/68) .
ثالثًا:
وأما عن المناسبة في تأخير هذه الآية عما قبلها ، فيقول فخر الدين الرازي ، رحمه الله :
” اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل والزنا، ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب ، ثم استثنى من جملتهم التائب ، وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة نزه عباد الرحمن عن الأمور الخفيفة، فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا ؟ أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى؟
الجواب: أن الموصوف بتلك الصفات السالفة ، قد يكون متمسكا بالشرك تدينا، ومُقْدِما على قتل الموءودة تدينا ، وعلى الزنا تدينا، فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن ، حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر .
وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال: المقصود من ذلك : التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين ، وسيرة الكفار، كأنه قال: وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر ، وأنتم تدعون ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأنتم تقتلون الموءودة، ولا يزنون ، وأنتم تزنون” انتهى من ” تفسير الرازي” (24/ 483).
وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله:
” وهنا قد يسأل سائل: أبعد كل هذه الصفات لعباد الرحمن ننفي عنهم هذه الصفة (لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ) [الفرقان: 68] ، وهم مَا اتصفوا بالصفات السابقة إلا لأنهم مؤمنون بالإله الواحد سبحانه؟
قالوا: هذه المسألة عقيدة وأساس ؛ لا بُدَّ للقرآن أن يكررها، ويهتم بالتأكيد عليها ” .
انتهى من ” تفسير الشعراوي” (17/10511) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب