0 / 0

المقصود بالحديث الصحيح الذي ليس عليه العمل ، وكيف يكون صحيحا وليس عليه العمل ؟

السؤال: 270890

إذا ثبتت صحة الحديث ، ولم ير فيه علة ، أو نسخ ، أو ماشابه من القوادح في السند ، أو المتن ، فهل يجوز إهماله وعدم العمل به ؟
وقد تخالف بعض المذاهب أحاديث في الصحيحين ، فيقولون : حديث ليس عليه عمل ، فما معنى ذلك وما حكمه ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :

قد تواترت الأدلة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووجوب تقديم قوله على قول غيره ، فقال الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . النساء/65 ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الحجرات/1 .

والانقياد للسنة واجب محتم ، فلا تعارض السنة الصحيحة بقول أحد كائنا من كان ، قال الزهري :  سَلِّمُوا لِلسُّنَّةَ وَلَا تُعَارِضُوهَا . كذا في “الفقيه والمتفقه” (1/385) للخطيب البغدادي بإسناد صحيح .

وهكذا كان دأب الأئمة جميعا لا يقدمون شيئا على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ يقول سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ ، وَسَأَلَهُ ، رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَقَالَ: يُرْوَى فِيهَا كَذَا وَكَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ؟ فَرَأَيْتُ الشَّافِعِيَّ أَرْعَدَ وَانْتَقَصَ ، فَقَالَ: يَا هَذَا ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ، إِذَا رَوَيْتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ؟ نَعَمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، نَعَمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ . كذا في “الفقيه والمتفقه” للخطيب (1/389) .

ثانيا :

يجب التنبه إلى أنه لا يجوز لأي أحد الهجوم على النص النبوي ثم الاستنباط منه والاحتجاج به دون جمع باقي الأدلة في المسألة محل البحث ، وذلك لأن الوارد المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم منه الصحيح ومنه الضعيف ، والصحيح أنواع ، فمنه ما هو محكم لم ينسخ ، ومنه ما هو منسوخ ، ومنه ما هو عام بقي على عمومه ، ومنه ما دخله التخصيص ، ومنه العام المخصوص ، ومنه كذلك ما انعقد الإجماع على عدم العمل به ، وهذا ما عناه السائل بالذكر .

فمن الأحاديث الصحيحة ما انعقد الإجماع على ترك العمل بها ، أي اتفق الصحابة أو التابعون على ترك العمل بها ، وما كان كذلك فلا يجوز العمل به إن تحقق الإجماع ، وهذا منهج متفق عليه بين أهل العلم .

فقد نقل القاضي عياض في “ترتيب المدارك” (1/45) :” قال مالك: وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث ، وتبلغهم عن غيرهم ، فيقولون : ما نجهل هذا ؛ ولكن مضى العمل على غيره “. انتهى .

وقال ابن رجب في رسالته “فضل علم السلف على علم الخلف” (ص83) :”فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث : فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان ، إذا كان معمولا به عند الصحابة ومن بعدهم ، أو عند طائفة منهم .

فأما ما اتفق على تركه : فلا يجوز العمل به ، لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به “. انتهى .

أي ما كان للصحابة ومن بعدهم أن يتفقوا على ترك العمل بحديث ما ، إلا عن علم بلغهم .

ولذا فإنه من الخطر العظيم الإقدام على الحديث دون معرفة وجهه ، وخارجه ، وتفقه السلف والماضين من أهل العلم فيه .

والحديث ، الذي لا يكون عليه العمل ، مع صحته سندا : يعد من قبيل الشاذ الغريب المطروح. قال ابن رجب في “شرح علل الترمذي” (2/624) :” ومن جملة الغرائب المنكرة : الأحاديث الشاذة المطرحة ، وهي نوعان:

  • ما هو شاذ الاسناد ، وسيذكر الترمذي فيما بعد بعض أمثلته.
  • وما هو شاذ المتن، كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها ، أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها “. انتهى

ولذا كان العمل بالحديث قيدا مهما في الأخذ به ، فهذا ابن القاسم سئل كما في “المدونة الكبرى” (2/117) في أثناء جوابه عن النكاح بلا ولي  :” قُلْتُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ أَلَيْسَ قَدْ عَقَدَتْ عَائِشَةُ النِّكَاحَ؟

قَالَ: لَا نَعْرِفُ مَا تَفْسِيرُهُ ؛ إلَّا أَنَّا نَظُنُّ أَنَّهَا قَدْ وَكَّلَتْ مَنْ عَقَدَ نِكَاحَهَا .

 قُلْتُ: أَلَيْسَ ، وَإِنْ هِيَ وَكَّلَتْ ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَاسِدًا ، وَإِنْ أَجَازَهُ وَالِدُ الْجَارِيَةِ؟

قَالَ: قَدْ جَاءَ هَذَا ، وَهَذَا حَدِيثٌ ؛ لَوْ كَانَ صَحِبَهُ عَمَلٌ ، حَتَّى يَصِلَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَنْهُ حَمَلْنَا وَأَدْرَكْنَا ، وَعَمَّنْ أَدْرَكُوا ؛ لَكَانَ الْأَخْذُ حَقًّا ، وَلَكِنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، مِمَّا لَا يَصْحَبُهُ عَمَلٌ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَفِيمَا جَاءَ عَنْهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ) ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ حَدَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَقَطَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ .

وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَشْيَاءُ ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَنِدْ ، وَلَمْ يَقْوَ ، وَعُمِلَ بِغَيْرِهَا ، وَأَخَذَ عَامَّةُ النَّاسِ وَالصَّحَابَةُ بِغَيْرِهَا ؛ فَبَقِيَ غَيْرَ مُكَذَّبٍ بِهِ ، وَلَا مَعْمُولٍ بِهِ .

وَعُمِلَ بِغَيْرِهِ ، مِمَّا صَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ ، وَأَخَذَ بِهِ تَابِعُو النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَأُخِذَ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ تَكْذِيبٍ وَلَا رَدٍّ لِمَا جَاءَ وَرُوِيَ .

فَيُتْرَكُ مَا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَا يُكَذَّبُ بِهِ . وَيُعْمَلُ بِمَا عُمِلَ بِهِ ، وَيُصَدَّقُ بِهِ .

وَالْعَمَلُ الَّذِي ثَبَتَ ، وَصَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ : قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِوَلِيٍّ ” ، وَقَوْلُ عُمَرَ لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَأَنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيٍّ “. انتهى

فتأمل كيف علق الأمر على العمل ، فقال : فيترك ما ترك العمل به ، ولا يكذب به ، ويعمل بما عمل به ، ويصدق به .

وهذا منهج مطرد بين العلماء ، وعلى ذلك أمثلة كثيرة ، منها :

مثال (1) حديث سلمة بن المحبِّق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته : إن كان استكرهها، فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها. وإن طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها”.

فهذا الحديث علق عليه الإمام الخطابي في “معالم السنن” (3/331) فقال :” لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به ، وفيه أمور تخالف الأصول ، منها إيجاب المثل في الحيوان ، ومنها استجلاب المُلك بالزنا ، ومنها إسقاط الحد عن البدن، وايجاب العقوبة في المال .

وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء ، وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية “. انتهى

مثال (2) حديث :” من قتل عبده قتلناه ” : هذا الحديث أورده ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (1/342) ثم قال : ” وقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره ، وقد أجمعوا على أنَّه لا قصاص بين العبيدِ والأحرار في الأطراف ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديث مطَّرَحٌ لا يُعمل به “. انتهى

مثال (3) حديث عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ ، إِذْ حِضْتُ ، فَانْسَلَلْتُ ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي ، قَالَ: أَنُفِسْتِ قُلْتُ: نَعَمْ ، فَدَعَانِي ، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ “.

فقد علق ابن رجب في “فتح الباري” (2/24) في أثناء شرحه لهذا الحديث فقال:” وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث ، في أن الحائض والنفاس مدتهما واحدة ، وأن أكثر النفاس ، كأكثر الحيض ، وَهوَ قول لَم يسبق إليه ، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه “. انتهى

ثالثا :

قد يقول قائل ما هو الشيء الذي عارض الحديث فجعله لا يحتج به مع صحته ؟

والجواب : إنه الإجماع الثابت أن الصحابة ومن بعدهم تركوا العمل به ، وهذا إجماع ، وما كان لهم مع سعة علمهم ودينهم وورعهم أن يتركوا العمل بالحديث المعين ، إلا لعلة أخرى راجحة ، قد تكون في الحديث نفسه ، أو في غيره ، والأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يجوز أن تتفق الأمة على ترك الحق ، وهذا هو وجه الاستدلال في هذه القضية .

قال الإمام الشاطبي رحمه الله في “الموافقات” (3/252 ، 280 ) :” كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، دَائِمًا ، أَوْ أَكْثَرِيًّا ، أَوْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا ، أَوْ فِي وَقْتٍ مَا ، أَوْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ …

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَارِيَةٌ هُنَا بِالْأَوْلَى .

وَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمُوا : لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلَاءِ .

فَعَمَلُ الْأَوَّلِينَ – كَيْفَ كَانَ – مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا الْمَفْهُومِ ، وَمُعَارِضٌ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ تَرْكَ الْعَمَلِ؛ فَمَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ : مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ ؛ وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ .

وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَة ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ وَالْأَمْرُ الْمُعْتَبَرُ ، وَهُوَ الْهُدَى ، وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ ؛ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ ، وَهَذَا كافٍ “.  انتهى .

وقال الجويني في “البرهان” (2/761) إن تحققنا بلوغ الخبر طائفة من أئمة الصحابة ، وكان الخبر نصا لا يطرق إليه تأويل ، ثم ألفيناهم يقضون بخلافه ، مع ذكره والعلم به = فلسنا نرى التعلق بالخبر ، إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب ، وترك المبالاة ، أو العلم بكونه منسوخا ، وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال .

وقد أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول ؛ فيتعين حمل عملهم، مع الذكر والإحاطة بالخبر، على العلم بورود النسخ .

وليس ما ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر ، وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ، فكأنا تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث .

وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر : غض من قدره عليه السلام ، وحط من منصبه ، وقد قدمنا في كتاب الإجماع : أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ، ولكن إجماع  أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه عن حجة “. انتهى

رابعا :

يجب التنبه إلى أمر مهم ، متعلق بتحقق الإجماع على ترك العمل ، إذ إنه كثيرا ما يُنقل الإجماع على أمر ما ويكون الإجماع منتقدا ، ويثبت أن الحديث معمول به ، وأن غاية الأمر عند من نقل الإجماع ، هو عدم العلم بالمخالف .

وهذا ابن حزم قد صنف كتاب مراتب الإجماع ، وهو من أقوى الكتب في بابه كما هو معلوم ، إلا أنه قد تتبعه شيخ الإسلام ، فوافقه على كثير وعارضه في بعضها .

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “نقد مراتب الإجماع” (ص302) :” وقد ذكر رحمه الله تعالى إجماعاتٍ من هذا الجنس في هذا الكتاب ، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرف انتقاضها ، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه ، لا نعلم فيه نزاعا .

وإنما المقصود : أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء ، وتبرزه في ذلك على غيره ، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه = يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة ، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع .

وسبب ذلك: دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به ، ودعوى أنَّ الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره .

فهاتان قضيتان لا بد لمن ادعاهما من التناقض ، إذا احتج بالإجماع “. انتهى

خامسا :

فإن قال قائل : فإن لم يكن قد جرى العمل بهذا الحديث فلماذا رواه أهل السنن ؟

وجواب ذلك ما ذكره القاضي عياض في “ترتيب المدارك” (1/45) عن ابن الماجشون أحد أكابر علماء المالكية ، فقال :” قال ابن المعذَّل : سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون : لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليُعْلَم أنا على علم تركناه “. انتهى

سادسا :

يتعلق بهذه المسألة خطأ شائع عند بعض طلاب العلم، من العمل بالحديث فور ثبوته عندهم حتى لو لم يقفوا على عمل أحد من أهل العلم به قبلهم ، وهذا غلط .

فهذا الإمام الذهبي ذكر في “سير أعلام النبلاء” (16/405) في ترجمة الدَّارَكِي عَبْد العَزِيْزِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ قال :” قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ ، وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى ، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُوْلُ: وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِكَذَا وَكَذَا ، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ .

قُلْتُ ( أي الذهبي ) : هَذَا جَيِّدٌ . لَكِنْ بِشَرْطِ :

أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ ، أَوْ سُفْيَانَ ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ

وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ .

وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ.

أَمَّا مَنْ أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ ، وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ : فَلاَ .

كَخَبَرِ:” فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ ” ، وَكَحَدِيْثِ :” لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ “. انتهى

وختاما : رحم الله الإمام أحمد بن حنبل عندما قال ناصحا أحد طلابه :” إِيَّاكَ أَنْ تَتَكلّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيْهَا إِمَامٌ “. انظر “سير أعلام النبلاء” (11/296) .

والله أعلم .  

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android