إذا ثبتت صحة الحديث ، ولم ير فيه علة ، أو نسخ ، أو ماشابه من القوادح في السند ، أو المتن ، فهل يجوز إهماله وعدم العمل به ؟
وقد تخالف بعض المذاهب أحاديث في الصحيحين ، فيقولون : حديث ليس عليه عمل ، فما معنى ذلك وما حكمه ؟
المقصود بالحديث الصحيح الذي ليس عليه العمل ، وكيف يكون صحيحا وليس عليه العمل ؟
السؤال: 270890
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
قد تواترت الأدلة على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووجوب تقديم قوله على قول غيره ، فقال الله تعالى : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . النساء/65 ، وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الحجرات/1 .
والانقياد للسنة واجب محتم ، فلا تعارض السنة الصحيحة بقول أحد كائنا من كان ، قال الزهري : سَلِّمُوا لِلسُّنَّةَ وَلَا تُعَارِضُوهَا . كذا في “الفقيه والمتفقه” (1/385) للخطيب البغدادي بإسناد صحيح .
وهكذا كان دأب الأئمة جميعا لا يقدمون شيئا على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ يقول سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ ، وَسَأَلَهُ ، رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَقَالَ: يُرْوَى فِيهَا كَذَا وَكَذَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تَقُولُ بِهِ؟ فَرَأَيْتُ الشَّافِعِيَّ أَرْعَدَ وَانْتَقَصَ ، فَقَالَ: يَا هَذَا ، أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي ، وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ، إِذَا رَوَيْتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَلَمْ أَقُلْ بِهِ؟ نَعَمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، نَعَمْ عَلَى السَّمْعِ وَالْبَصَرِ . كذا في “الفقيه والمتفقه” للخطيب (1/389) .
ثانيا :
يجب التنبه إلى أنه لا يجوز لأي أحد الهجوم على النص النبوي ثم الاستنباط منه والاحتجاج به دون جمع باقي الأدلة في المسألة محل البحث ، وذلك لأن الوارد المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم منه الصحيح ومنه الضعيف ، والصحيح أنواع ، فمنه ما هو محكم لم ينسخ ، ومنه ما هو منسوخ ، ومنه ما هو عام بقي على عمومه ، ومنه ما دخله التخصيص ، ومنه العام المخصوص ، ومنه كذلك ما انعقد الإجماع على عدم العمل به ، وهذا ما عناه السائل بالذكر .
فمن الأحاديث الصحيحة ما انعقد الإجماع على ترك العمل بها ، أي اتفق الصحابة أو التابعون على ترك العمل بها ، وما كان كذلك فلا يجوز العمل به إن تحقق الإجماع ، وهذا منهج متفق عليه بين أهل العلم .
فقد نقل القاضي عياض في “ترتيب المدارك” (1/45) :” قال مالك: وقد كان رجال من أهل العلم من التابعين يحدثون بالأحاديث ، وتبلغهم عن غيرهم ، فيقولون : ما نجهل هذا ؛ ولكن مضى العمل على غيره “. انتهى .
وقال ابن رجب في رسالته “فضل علم السلف على علم الخلف” (ص83) :”فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث : فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان ، إذا كان معمولا به عند الصحابة ومن بعدهم ، أو عند طائفة منهم .
فأما ما اتفق على تركه : فلا يجوز العمل به ، لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به “. انتهى .
أي ما كان للصحابة ومن بعدهم أن يتفقوا على ترك العمل بحديث ما ، إلا عن علم بلغهم .
ولذا فإنه من الخطر العظيم الإقدام على الحديث دون معرفة وجهه ، وخارجه ، وتفقه السلف والماضين من أهل العلم فيه .
والحديث ، الذي لا يكون عليه العمل ، مع صحته سندا : يعد من قبيل الشاذ الغريب المطروح. قال ابن رجب في “شرح علل الترمذي” (2/624) :” ومن جملة الغرائب المنكرة : الأحاديث الشاذة المطرحة ، وهي نوعان:
- ما هو شاذ الاسناد ، وسيذكر الترمذي فيما بعد بعض أمثلته.
- وما هو شاذ المتن، كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها ، أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها “. انتهى
ولذا كان العمل بالحديث قيدا مهما في الأخذ به ، فهذا ابن القاسم سئل كما في “المدونة الكبرى” (2/117) في أثناء جوابه عن النكاح بلا ولي :” قُلْتُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ حِينَ زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ أَلَيْسَ قَدْ عَقَدَتْ عَائِشَةُ النِّكَاحَ؟
قَالَ: لَا نَعْرِفُ مَا تَفْسِيرُهُ ؛ إلَّا أَنَّا نَظُنُّ أَنَّهَا قَدْ وَكَّلَتْ مَنْ عَقَدَ نِكَاحَهَا .
قُلْتُ: أَلَيْسَ ، وَإِنْ هِيَ وَكَّلَتْ ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَاسِدًا ، وَإِنْ أَجَازَهُ وَالِدُ الْجَارِيَةِ؟
قَالَ: قَدْ جَاءَ هَذَا ، وَهَذَا حَدِيثٌ ؛ لَوْ كَانَ صَحِبَهُ عَمَلٌ ، حَتَّى يَصِلَ ذَلِكَ إلَى مَنْ عَنْهُ حَمَلْنَا وَأَدْرَكْنَا ، وَعَمَّنْ أَدْرَكُوا ؛ لَكَانَ الْأَخْذُ حَقًّا ، وَلَكِنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، مِمَّا لَا يَصْحَبُهُ عَمَلٌ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – فِي الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَفِيمَا جَاءَ عَنْهُ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ) ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ حَدَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَقَطَعَهُ عَلَى الْإِيمَانِ .
وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَشْيَاءُ ، ثُمَّ لَمْ يَسْتَنِدْ ، وَلَمْ يَقْوَ ، وَعُمِلَ بِغَيْرِهَا ، وَأَخَذَ عَامَّةُ النَّاسِ وَالصَّحَابَةُ بِغَيْرِهَا ؛ فَبَقِيَ غَيْرَ مُكَذَّبٍ بِهِ ، وَلَا مَعْمُولٍ بِهِ .
وَعُمِلَ بِغَيْرِهِ ، مِمَّا صَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ ، وَأَخَذَ بِهِ تَابِعُو النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَأُخِذَ مِنْ التَّابِعِينَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ تَكْذِيبٍ وَلَا رَدٍّ لِمَا جَاءَ وَرُوِيَ .
فَيُتْرَكُ مَا تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَا يُكَذَّبُ بِهِ . وَيُعْمَلُ بِمَا عُمِلَ بِهِ ، وَيُصَدَّقُ بِهِ .
وَالْعَمَلُ الَّذِي ثَبَتَ ، وَصَحِبَتْهُ الْأَعْمَالُ : قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:” لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِوَلِيٍّ ” ، وَقَوْلُ عُمَرَ لَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَأَنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيٍّ “. انتهى
فتأمل كيف علق الأمر على العمل ، فقال : فيترك ما ترك العمل به ، ولا يكذب به ، ويعمل بما عمل به ، ويصدق به .
وهذا منهج مطرد بين العلماء ، وعلى ذلك أمثلة كثيرة ، منها :
مثال (1) حديث سلمة بن المحبِّق : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل وقع على جارية امرأته : إن كان استكرهها، فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها. وإن طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها”.
فهذا الحديث علق عليه الإمام الخطابي في “معالم السنن” (3/331) فقال :” لا أعلم أحداً من الفقهاء يقول به ، وفيه أمور تخالف الأصول ، منها إيجاب المثل في الحيوان ، ومنها استجلاب المُلك بالزنا ، ومنها إسقاط الحد عن البدن، وايجاب العقوبة في المال .
وهذه كلها أمور منكرة لا تخرج على مذهب أحد من الفقهاء ، وخليق أن يكون الحديث منسوخاً إن كان له أصل في الرواية “. انتهى
مثال (2) حديث :” من قتل عبده قتلناه ” : هذا الحديث أورده ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” (1/342) ثم قال : ” وقد طعن فيه الإمام أحمد وغيره ، وقد أجمعوا على أنَّه لا قصاص بين العبيدِ والأحرار في الأطراف ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديث مطَّرَحٌ لا يُعمل به “. انتهى
مثال (3) حديث عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ ، إِذْ حِضْتُ ، فَانْسَلَلْتُ ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي ، قَالَ: أَنُفِسْتِ قُلْتُ: نَعَمْ ، فَدَعَانِي ، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ “.
فقد علق ابن رجب في “فتح الباري” (2/24) في أثناء شرحه لهذا الحديث فقال:” وقد اعتمد ابن حزم على هَذا الحديث ، في أن الحائض والنفاس مدتهما واحدة ، وأن أكثر النفاس ، كأكثر الحيض ، وَهوَ قول لَم يسبق إليه ، ولو كانَ هَذا الاستنباط حقاً لما خفي علي أئمة الإسلام كلهم إلى زمنه “. انتهى
ثالثا :
قد يقول قائل ما هو الشيء الذي عارض الحديث فجعله لا يحتج به مع صحته ؟
والجواب : إنه الإجماع الثابت أن الصحابة ومن بعدهم تركوا العمل به ، وهذا إجماع ، وما كان لهم مع سعة علمهم ودينهم وورعهم أن يتركوا العمل بالحديث المعين ، إلا لعلة أخرى راجحة ، قد تكون في الحديث نفسه ، أو في غيره ، والأمة لا تجتمع على ضلالة ، ولا يجوز أن تتفق الأمة على ترك الحق ، وهذا هو وجه الاستدلال في هذه القضية .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في “الموافقات” (3/252 ، 280 ) :” كُلُّ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، دَائِمًا ، أَوْ أَكْثَرِيًّا ، أَوْ لَا يَكُونُ مَعْمُولًا بِهِ إِلَّا قَلِيلًا ، أَوْ فِي وَقْتٍ مَا ، أَوْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ …
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَثْبُتَ عَنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهِ عَلَى حَالٍ ؛ فَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا قَبْلَهُ ، وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ جَارِيَةٌ هُنَا بِالْأَوْلَى .
وَمَا تَوَهَّمَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مَا زَعَمُوا : لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ ؛ إِذْ لَوْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لَمْ يَعْزُبْ عَنْ فَهْمِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، ثُمَّ يَفْهَمُهُ هَؤُلَاءِ .
فَعَمَلُ الْأَوَّلِينَ – كَيْفَ كَانَ – مُصَادِمٌ لِمُقْتَضَى هَذَا الْمَفْهُومِ ، وَمُعَارِضٌ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ تَرْكَ الْعَمَلِ؛ فَمَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ : مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأَوَّلِينَ ؛ وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ ؛ فَهُوَ مُخْطِئٌ .
وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَة ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ؛ فَهُوَ السُّنَّةُ وَالْأَمْرُ الْمُعْتَبَرُ ، وَهُوَ الْهُدَى ، وَلَيْسَ ثَمَّ إِلَّا صَوَابٌ أَوْ خَطَأٌ ؛ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ السَّلَفَ الْأَوَّلِينَ فَهُوَ عَلَى خَطَأٍ ، وَهَذَا كافٍ “. انتهى .
وقال الجويني في “البرهان” (2/761) إن تحققنا بلوغ الخبر طائفة من أئمة الصحابة ، وكان الخبر نصا لا يطرق إليه تأويل ، ثم ألفيناهم يقضون بخلافه ، مع ذكره والعلم به = فلسنا نرى التعلق بالخبر ، إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة والإضراب ، وترك المبالاة ، أو العلم بكونه منسوخا ، وليس بين هذين التقديرين لاحتمال ثالث مجال .
وقد أجمع المسلمون قاطبة على وجوب اعتقاد تبرئتهم عن القسم الأول ؛ فيتعين حمل عملهم، مع الذكر والإحاطة بالخبر، على العلم بورود النسخ .
وليس ما ذكرنا تقديما لأقضيتهم على الخبر ، وإنما هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن من الصواب ، فكأنا تعلقنا بالإجماع في معارضة الحديث .
وليس في تطريق إمكان النسخ إلى الخبر : غض من قدره عليه السلام ، وحط من منصبه ، وقد قدمنا في كتاب الإجماع : أن الإجماع في نفسه ليس بحجة ، ولكن إجماع أهله يشعر بصدر ما أجمعوا عليه عن حجة “. انتهى
رابعا :
يجب التنبه إلى أمر مهم ، متعلق بتحقق الإجماع على ترك العمل ، إذ إنه كثيرا ما يُنقل الإجماع على أمر ما ويكون الإجماع منتقدا ، ويثبت أن الحديث معمول به ، وأن غاية الأمر عند من نقل الإجماع ، هو عدم العلم بالمخالف .
وهذا ابن حزم قد صنف كتاب مراتب الإجماع ، وهو من أقوى الكتب في بابه كما هو معلوم ، إلا أنه قد تتبعه شيخ الإسلام ، فوافقه على كثير وعارضه في بعضها .
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “نقد مراتب الإجماع” (ص302) :” وقد ذكر رحمه الله تعالى إجماعاتٍ من هذا الجنس في هذا الكتاب ، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرف انتقاضها ، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه ، لا نعلم فيه نزاعا .
وإنما المقصود : أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء ، وتبرزه في ذلك على غيره ، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه = يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة ، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع .
وسبب ذلك: دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به ، ودعوى أنَّ الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره .
فهاتان قضيتان لا بد لمن ادعاهما من التناقض ، إذا احتج بالإجماع “. انتهى
خامسا :
فإن قال قائل : فإن لم يكن قد جرى العمل بهذا الحديث فلماذا رواه أهل السنن ؟
وجواب ذلك ما ذكره القاضي عياض في “ترتيب المدارك” (1/45) عن ابن الماجشون أحد أكابر علماء المالكية ، فقال :” قال ابن المعذَّل : سمعت إنساناً سأل ابن الماجشون : لمَ رويتم الحديث ثم تركتموه؟ قال: ليُعْلَم أنا على علم تركناه “. انتهى
سادسا :
يتعلق بهذه المسألة خطأ شائع عند بعض طلاب العلم، من العمل بالحديث فور ثبوته عندهم حتى لو لم يقفوا على عمل أحد من أهل العلم به قبلهم ، وهذا غلط .
فهذا الإمام الذهبي ذكر في “سير أعلام النبلاء” (16/405) في ترجمة الدَّارَكِي عَبْد العَزِيْزِ بن عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدٍ قال :” قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ يُتَّهَمُ بِالاِعْتِزَالِ ، وَكَانَ رُبَّمَا يَخْتَارُ فِي الفَتْوَى ، فيُقَال لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَقُوْلُ: وَيْحَكمْ! حَدَّثَ فُلاَنٌ عَنْ فُلاَنٍ ، عَنْ رَسُوْلِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِكَذَا وَكَذَا ، وَالأَخْذُ بِالحَدِيْثِ أَوْلَى مِنَ الأَخْذِ بِقَولِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيْفَةَ .
قُلْتُ ( أي الذهبي ) : هَذَا جَيِّدٌ . لَكِنْ بِشَرْطِ :
أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ بِذَلِكَ الحَدِيْثِ إِمَامٌ مِنْ نُظَرَاءِ الإِمَامَيْنِ مِثْلُ مَالِكٍ ، أَوْ سُفْيَانَ ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ
وَبأَنْ يَكُونَ الحَدِيْثُ ثَابِتاً سَالِماً مِنْ عِلَّةٍ .
وَبأَنْ لاَ يَكُونَ حُجَّةُ أَبِي حَنِيْفَةَ وَالشَّافِعِيِّ حَدِيْثاً صحيحاً معَارضاً للآخَرِ.
أَمَّا مَنْ أَخَذَ بِحَدِيْثٍ صَحِيْحٍ ، وَقَدْ تنكَّبَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ الاِجتهَادِ : فَلاَ .
كَخَبَرِ:” فَإِنْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ ” ، وَكَحَدِيْثِ :” لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ ، فَتُقْطَعُ يَدُهُ “. انتهى
وختاما : رحم الله الإمام أحمد بن حنبل عندما قال ناصحا أحد طلابه :” إِيَّاكَ أَنْ تَتَكلّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيْهَا إِمَامٌ “. انظر “سير أعلام النبلاء” (11/296) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب