أنا أقر إقرارا تاما بعدالة جميع الصحابة ، وأعلم أن الصحابي هو من لقي النبي مؤمنا به ، ومات على الإسلام ، وأعرف أن الله تعالى مدح الصحابة في كتابه ، وكذالك الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث تقبل رواية الصحابي ولو كان مجهولا ، كأن يقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وهذا لأن الصحابة كلهم عدول ، ولكن حصل عندي بعض الإشكال في الفهم ، فأحببت أن يطمأن قلبي ؛ لاعتقادي بجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أنه كان في زمن النبي منافقون لا يعلمهم إلا الله تعالى ، وأعلم رسوله بذلك ، وأظن أن الرسول أخبر حذيفة بن اليمان ، وأن الله تعالى أنزل قوله : ( إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ) ، وهذه الأية كما وصلني أنها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فهل الوليد فاسق ؟ وهل الوليد لقي النبي مؤمنا به ، يعني هل هو صحابي عدل ؟
حول مفهوم عدالة الصحابة ، وهل يقدح فيها وجود المنافقين ، ومن أتى بمفسق كالوليد بن عقبة ؟
السؤال: 271569
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً :
أصح ما قيل في تعريف الصحابي ، هو ما اختاره الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/158) حيث قال :" وأصحّ ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابيّ: من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به ، ومات على الإسلام "انتهى .
وبناءً على هذا ؛ فالمنافقون نفاقا أكبر، في حقيقة الأمر : ليسوا من الصحابة ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والصحابة جميعا عدول لتعديل الله لهم ، وتعديل النبي صلى الله عليه وسلم لهم ، حيث قال الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/100 ، وقال الله تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) البقرة/143.
وقال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) آل عمران/110 .
وأول من يدخل من ذلك هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه خير الأمة ، وخير الناس ، كما تواتر الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد انعقد إجماع العلماء على ذلك .
قال ابن الصلاح في "علوم الحديث" (ص171) :" إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة. ومن لابس الفتن منهم : فكذلك ؛ بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع ، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر ، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة " انتهى .
وقال ابن عبد البر رحمه الله : "فهم خير القرون ، وخير أمة أخرجت للناس ، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته ، ولا تزكية أفضل من ذلك ، ولا تعديل أكمل منها" انتهى من "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1/3) .
وقال النووي رحمه الله : "الصحابة كلهم عدول، من لابس الفتنة وغيرهم، بإجماع من يعتد به" .
"التقريب والتيسير" (ص92) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "اتفق أهل السنة على أن الجميع – أي الصحابة- عدول ، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة" انتهى من "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/10).
ثانيا :
ليس المقصود بعدالة الصحابة أنهم معصومون من الذنوب ، فهذا لم يقل به أحد من العلماء ، فقد تقع من بعضهم الهفوات والزلات ، الصغائر أو الكبائر ، ولكن المقصود بعدالتهم هو تمام الثقة بأقوالهم وأخبارهم ، فلا يتعمدون الكذب في شهادتهم ، ولا في أخبارهم ، ولا يتعمدون الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المرداوي في "التحبير شرح التحرير" (4/1994) :" لَيْسَ المُرَاد بكونهم عُدُولًا الْعِصْمَة لَهُم ، واستحالة الْمعْصِيَة عَلَيْهِم ، إِنَّمَا المُرَاد أَن لَا نتكلف الْبَحْث عَن عدالتهم ، وَلَا طلب التَّزْكِيَة فيهم "انتهى .
وقال الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" (ص46) :" عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم ، وإخباره عن طهارتهم ، واختياره لهم في نص القرآن فمن ذلك …"
ثم ساق عددا من الأدلة ثم قال : " والأخبار في هذا المعنى تتسع ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن ، وجميع ذلك يقتضى طهارة الصحابة ، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم ، مع تعديل الله تعالى لهم ، المطلع على بواطنهم : إلى تعديل أحد من الخلق له ؛ فهو على هذه الصفة ، إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يَحتمل إلا قصد المعصية ، والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة ؛ وقد برأهم الله من ذلك ، ورفع أقدارهم عنه .
على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها ، من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطعَ على عدالتهم ، والاعتقاد لنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم ، أبد الآبدين .
هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " ( 1/306-307): "الصحابة يقع من أحدهم هنات، ولهم ذنوب، وليسوا معصومين .
لكنهم : لا يتعمدون الكذب، ولم يتعمد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا هتك الله ستره" انتهى .
وقال الدكتور عماد الشربيني في كتابه "عدالـة الصحابـة رضى الله عنهم في ضوء القرآن الكريم السنة النبوية ودفع الشبهات" :
"ومعنى عدالة الصحابة : " أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما اتصفوا به من قوة الإيمان، والتزام التقوى، والمروءة، وسمو الأخلاق والترفع عن سفاسف الأمور0
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي ، أو من السهو أو الغلط ؛ فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم .
ومما ينبغى أن يعلم أن الذين قارفوا إثماً ، ثم حُدُّوا – كان ذلك كفارة لهم – وتابوا ، وحسنت توبتهم .
ويؤكد ما سبق الإمام الأبيارى المالكي (توفي سنة 618ه ) بقوله : وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم ، واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد : قبول روايتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية ، إلا أن يثبت ارتكاب قادح ، ولم يثبت ذلك ولله الحمد !
فنحن على استصحاب ما كانوا عليه فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى يثبت خلافه ، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح ، وما صح فله تأويل صحيح " انتهى .
وينظر: فتح المغيث للسخاوى3/96، والبحر المحيط للزركشى 4/300، وإرشاد الفحول 1/278.
ثالثا :
أما ذكره السائل من وجود بعض المنافقين حول النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقدح ذلك في عدالة الصحابة رضي الله عنهم ، لما يلي :
1- أن المنافقين غير معدودين في الصحابة – كما سبق- . قال ابن حزم في "الإحكام" (5/89) :" أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة ، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها ، أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه ، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر ، حتى ماتوا على ذلك … " انتهى .
2- أن المنافقين كانوا قلة ذليلة معروفة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجد منافق واحد منهم عدّه أهل العلم في الصحابة ، ويدل على ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن صلاة الجماعة :" وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ ". أخرجه مسلم في "صحيحه" (654) ، وقد عُرفوا أكثر وافتضحوا بعد تخلفهم عن غزوة تبوك ، ونزول سورة التوبة في شأنهم ، ولذلك قال كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ ". أخرجه البخاري (4418) ، ومسلم (2769) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" (8/474) :
" ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُنَافِقٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَكْثَرُهُمُ انْكَشَفَ حَالُهُ لَمَّا نَزَلْ فِيهِمُ الْقُرْآنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يعْرِفُ كُلًّا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ ، فَالَّذِينَ بَاشَرُوا ذَلِكَ كَانُوا يَعْرِفُونَهُ.
وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الرَّجُلِ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ ، أَوْ يَهُودِيًّا ، أَوْ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ مُشْرِكًا : أَمْرٌ لَا يَخْفَى مَعَ طُولِ الْمُبَاشَرَةِ ، فَإِنَّهُ مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ ، وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 30] ، وَقَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سُورَةُ مُحَمَّدٍ: 30] .
فَالْمُضْمِرُ لِلْكُفْرِ لَا بُدَّ أَنْ يُعْرَفَ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَأَمَّا بِالسِّيمَا فَقَدْ يُعْرَفُ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 10] " انتهى .
وقال المعلمي اليماني في "الأنوار الكاشفة" (ص278) :" وفي الصحيح في حديث كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا:" فكنت إذا خرجت إلى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم: أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء". وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين في الجملة قبل تبوك ، ثم تأكد ذلك بتخلفه لغير عذر وعدم توبتهم ، ثم نزلت سورة براءة فقشقشتهم .
وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى .
3- أنه لم يرو منافق قط حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال المرداوي في "التحبير شرح التحرير" (4/1995) :" قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة – رَضِي الله عَنْهُم " انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" (8/474) :" وَالصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدِّينِ : كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ ، وَلَمْ يُعَظِّمِ الْمُسْلِمُونَ -وَلِلَّهِ الْحَمْدُ -عَلَى الدِّينِ مُنَافِقًا " انتهى .
رابعا :
أما الوليد بن عقبة فهو صحابي ، بلا خلاف بين أهل العلم ، وهو داخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله عنهم وتحكم لهم بالعدالة .
وأما نزول الآية الكريمة فيه ، ووصفه بأنه "فاسق" : فلم يثبت ذلك ثبوتا بينا :
فمن أهل العلم من يقول بنزولها فيه كابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/1553) ، وغيره .
ومنهم من ينفي ثبوت ذلك ، ومن هؤلاء الرازي في تفسيره "مفاتيح الغيب" (28/98) ، وابن عاشور في "التحرير والتنوير" (26/269) ، ومحب الدين الخطيب في تعليقه على " العواصم من القواصم" لابن العربي (ص102) ، خاصة وأن الآثار الواردة في ذلك لا تخلو من مقال من ناحية الإسناد ، وابن كثير رحمه الله ذكر الأثر في سبب نزول الآية في تفسيره (7/370) ، ولم يعلق عليه بشيء ، غير أنه ذكره في "البداية والنهاية" (11/604) وعلق عليه بقوله : "ذكر ذلك غير واحد من المفسرين ، والله أعلم بصحة ذلك " انتهى .
وفي هذا إشارة إلى أن مثل ذلك الأثر مما لم تعلم صحته ، ولم تشتهر لدى أهل العلم .
والشيخ أحمد شاكر رحمه الله حذف هذا الأثر في اختصاره لتفسير ابن كثير (3/355) ، وفي هذا إشارة منه إلى ضعفه وعدم صحته ، فإنه ذكر في المقدمة (1/11) أنه "حذف كل حديث ضعيف أو معلول" انتهى .
وأما نفس القصة المروية: فليس فيها عند التأمل ما يقتضي وصف الوليد بالفسق !!
وبيان ذلك : أن في الأثر : أنه خرج له بنو المصطلق يتلقونه ، فظن أنهم إنما خرجوا لقتاله فخاف ، ورجع وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وليس في ذلك ما يقتضي وصفه بالفسق ، وإن كان قد أخطأ في ظنه ذلك ، غير أنه لم يتعمد الكذب .
قال الرازي في تفسيره (14/271) :
"ويتأكد بما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد ، لأنه توهم وظن ، فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقًا" انتهى .
ولو افترضنا أن الآية الكريمة نزلت فيه ، وأنه استحق هذا الوصف – وهذا غير مُسَلَّم كما سبق – فيجاب عنه بأنه قد تاب من ذلك ، وحسنت توبته ، كما هو شأن من وقع في شيء من المعاصي من الصحابة رضي الله عنهم ، كما تاب ماعز والغامدية وحسنت توبتهما ، وكما تابت المرأة المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها ، وحسنت توبتها ، وكما تاب أبو لبابة مما فعله مع بني قريظة وحسنت توبته ، وكما تاب كعب بن مالك وصاحباه من تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر وحسنت توبتهم .
فعلى فرض صحة ما قيل ، فيكون الوليد بن عقبة قد تاب من ذلك وحسنت توبته ، ولذلك استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على صدقات بن تغلب ، وولاه عثمان بن عفان رضي الله عنه الكوفة . انظر : "البداية والنهاية" (11/604) .
فلم يكونا رضي الله عنهما يستعملانه ، إلا وهو عندهما قوي أمين عدل غير فاسق .
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله في سياق حديثه عن عدالة الصحابة ، ونفي صفة الفسق عنهم : "وليست الذنوب مسقطةً للعدالة إذا وقعت منها التوبة" انتهى من "العواصم من القواصم" (ص 94).
وقال السخاوي في "فتح المغيث" (3/112) :" وأما الوليد وغيره ممن ذكر بما أشار إليه فقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله : (لا تلعنه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) ، كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنهما قائلا له : ( إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم ، والحدود كفارات ، بل قيل في الوليد بخصوصه : إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق ، وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين" انتهى .
والتوبة ترفع وصف الفسق عمن فعل ما هو أعظم مما نسب إلى الوليد بن عقبة.
قال الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في كتابه "منهج النقد عند المحدثين، نشأته وتاريخه" :
"ولكنه تعالى قال إلى جانب ذلك: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور/4، 5.
ورغم أن العلماء اختلفوا في أن الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة فقط، فلا ترفع التوبة إلا الفسق، ويبقى القاذف مردود الشهادة أبداً مهما تاب، أو يعود إلى الجملة الأخيرة وإلى التي قبلها، فترفع التوبة الفسق، ويعود هو مقبول الشهادة..
لكن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى قبول شهادة القاذف بعد ما يتوب، ويؤيد ذلك تصرفات المحدثين، حيث إنهم قبلوا رواية حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري شاعر رسول صلى الله عليه وسلم . وحمنة بنت جحش الأسدية أخت زينب أم المؤمنين" انتهى .
وحتى واقعة شرب الوليد للخمر ؛ فالثابت في الصحيحين عند البخاري (3696) ، ومسلم (1707) هو واقعة جلده بشهادة اثنين عليه ، أما كونه شرب أم لا فهذه قضية أخرى .
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن بعضا من أهل الكوفة قد افتروا عليه كذبا أنه شرب الخمر وشهدوا عليه زورا .
ومعلوم أن أهل الكوفة طعنوا حتى في سعد بن أبي وقاص حتى قالوا : لا يحسن الصلاة فكيف بالوليد ؟!
قال ابن خلدون في تاريخه "ديوان المبتدأ والخبر" (1/269) :" فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار ، وما زالت الشّناعات تنمو ، ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان "انتهى .
وعلى هذا ؛ فذلك أيضا غير مقطوع به .
وعلى فرض ثبوت ذلك منه ، فالمقصود بالعدالة كما سبق قبول شهادة الصحابة وروايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث إنهم عندهم من الخوف من الله ما يمنعهم من تعمد الكذب .
والوليد بن عقبة لم يتعمد الكذب في شيء من الروايات ، بل ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا ، رواه الإمام أحمد في مسنده ، والإسناد إلى الوليد ضعيف لا يصح ، أي : يصح أن يقال : لم يرو الوليد عن النبي صلى الله عليه وسلم أي حديث ، وذلك كافٍ في الجزم بأنه لم يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو معنى العدالة كما سبق .
قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (4/1556) :" لم يرو الوليد بْن عُقْبَةَ سنة يحتاج فِيهَا إليه " انتهى .
ونختم بهذا الكلام الجيد للعلامة المعلمي ، قال في "الأنوار الكاشفة" (ص 271) عن الوليد بن عقبة :
"هذا الرجل أشدّ ما يشنِّع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه، ووليِّ نعمته ؛ عثمان؟ …
وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ، ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟
هالنا أننا لا نجد له روايةً البتة، اللهم إلا أنه رُوِيَ عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له: أبو موسى عبد الله الهَمْداني عن الوليد بن عقبة قال: "لما فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم، فجيء بي إليه وأنا مطيَّب بالخَلُوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلَّقتني بالخَلُوق، فلم يمسني من أجل الخَلُوق" .
هذا جميع ما وجدناه عن الوليد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وأنت إذا تفقَّدْتَ السند وجدتَه غير صحيح لجهالة الهَمْداني .
وإذا تأملت المتن لم تجده منكرًا ، ولا فيه ما يمكن أن يُتّهم فيه الوليد، بل الأمر بالعكس فإنه لم يذكر أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعا له، وذكر أنه لم يمسح رأسه…
أفلا ترى معي في هذا دلالة واضحة على أنه كان بين القوم وبين الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حِجْرٌ محجور؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "رده على الإخنائي" (ص 163) :
"فلا يعرف مِن الصحابة مَنْ كان يتعمَّد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان فيهم من له ذنوب، لكن هذا الباب مما عصمهم الله فيه".
ثم قال المعلمي :
إن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكّك في عدالته من الصحابة اعتبار ما ثبت أنهم حدَّثوا به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن صحابيّ آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم، مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له" انتهى .
وبهذا يتبين أن ثبوت عدالة الصحابة أمر مقطوع به .
وأنه لا يطعن فيها ما نسب للوليد بن عقبة ، لأن في ثبوت ذلك شكا .
ولأن العدالة لا يشترط لها العصمة .
ولأن المقصود من العدالة عدم تعمدهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة كلهم كذلك ، حتى من وقع في بعض الذنوب منهم .
فرضي الله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعا ، ووفقنا لمحبتهم واتباعهم .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب