ألقى أحد النصارى شبهة يقولون فيها : إن الرسول قال : إن اجساد الانبياء لا تتعفن ، ثم قالوا : إن رسول الاسلام قد تعفن جسده ، مستشهدين بروايتين هما: 1- أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء أخبرني عوف عن الحسن قال : ” لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتمر أصحابه فقالوا : تربصوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم لعله عرج به ، قال : فتربصوا حتى ربا بطنه ، فقال أبو بكر من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ” ، وهذه الرواية تم تخريجها بعدة طرق ..لكن كلها ضعيفة ، وفيها علل بإذن الله ، فلا بأس من تلك الرواية . 2-وفي حديث عكرمة : ” توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين فحبس بقية يومه وليلته والغد، حتى دفن ليلة الثلاثاء ، وقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، والله لا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم ، فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما توعد ويقول، فقام العباس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وإنه لبشر ، وإنه يأسن كما يأسن البشر، أي قوم، فادفنوا صاحبكم ” ، وذكرت تلك الرواية باسناد آخر وهو : أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري عن أبيه عن صالح بن كيسان عن بن شهاب أخبرني أنس بن مالك قال : ” لما توفي رسول…. ” ……. أرجو الرد على تلك الشبهة من حيث تضعيف الروايتين الخاصتين بأسون جسد النبى أو بتوضيحهما .
حول شبهة تعفن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموت.
السؤال: 282133
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
من المعلوم أن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث ، ومن أشهرها :
ما أخرجه أحمد في “مسنده” (16162) ، وأبو داود في “سننه” (1047) ، والنسائي في “سننه” (1374) ، من حديث أوس بن أوس قال: قال رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلم : إن مِنْ أفضل أيامِكُم يومَ الجُمعة: فيه خُلِقَ آدَمُ ، وفيه قُبِضَ ، وفيه النَّفْخةُ ، وفيه الصَعقةُ ، فأكثروا على مِن الصلاةِ فيه ، فإن صلاتكم معروضة علىّ قال: قالوا: يا رسولَ الله ، وكيفَ تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أرَمْتَ؟ يقولون: بَلِيت ، فقال: إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء .
والحديث صححه الإمام النووي في “خلاصة الأحكام” (1441) ، وابن القيم في “جلاء الأفهام” (ص81) ، والشيخ الألباني في “صحيح أبي داود” (962) .
قال القاضي عياض في “إكمال المعلم” (7/218) :” ولم يقم دليل على فناء جسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بل جاء في بعض الأخبار ما يدل على بقياه صلوات الله عليه ” انتهى .
وقال ابن القيم في “الروح” (ص44) :” وَمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ : أَن جسده فِي الأَرْض طري مَطَرا ، وَقد سَأَلَهُ الصَّحَابَة كَيفَ تعرض صَلَاتنَا عَلَيْك وَقد أرمت ؟ فَقَالَ : إِن الله حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء ” انتهى .
وهذا الحكم وهو المنع من أن تأكل الأرض أجساد الأنبياء حكم خاص بهم دون البشر ، فإنه ما من إنسان إلا ويبلى جسده كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في “صحيحه” (4935) ، ومسلم في “صحيحه” (1955) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى ، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ .
قال ابن عبد البر في “التمهيد” (18/173) في شرح هذا الحديث:
” وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَعُمُومُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَنُو آدَمَ كُلُّهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءً .
إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُهُمْ ، وَحَسْبُكَ مَا جَاءَ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا ؟
وَهَذَا يَدُلُّ : عَلَى أَنَّ هَذَا لَفْظُ عُمُومٍ ، وَيَدْخُلُهُ الْخُصُوصُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
فَكَأَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَنْ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ ، فَإِنَّهُ لَا تَأْكُلُ مِنْهُ عَجْبَ الذَّنَبِ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ لَا تَأْكُلَ الْأَرْضُ عَجْبَ الذَّنَبِ ، جَازَ أَنْ لَا تَأْكُلَ الشُّهَدَاءَ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ حُكْمُ اللَّهِ وَحِكْمَتُهُ ، وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ إِلَّا مَا شَاءَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ .
وَإِنَّمَا نَعْرِفُ مِنْ هَذَا مَا عَرَفْنَا بِهِ ، وَنُسَلِّمُ لَهُ إِذْ جَهِلْنَا عِلَّتَهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ ، وَلَكِنَّهُ قَوْلُ مَنْ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” انتهى .
ثانيا :
أما ما ذكره السائل من ورود بعض الأحاديث التي تعارض ذلك ، فجواب ذلك كما يلي :
أولا : من الناحية الحديثية : كلا الحديثين لا يصح ، وبيان ذلك كما يلي :
الحديث الأول : وله طريقان :
الطريق الأول :
أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (2/271) من طريق عَبْد الْوَهَّابِ بْن عَطَاءٍ ، قال أَخْبَرَنِي عَوْفٌ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ: ” لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم ائْتَمَرَ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: تَرَبَّصُوا بِنَبِيِّكُمْ صلّى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ عُرِجَ بِهِ ، قَالَ: فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى رَبَا بَطْنُهُ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:” مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ”.
وإسناده مرسل ضعيف ، فإن الحسن البصري من التابعين ، ومراسيل الحسن البصري من أضعف المراسيل عند المحققين من أهل العلم .
قال الإمام أحمد :” وليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن ” انتهى من “شرح علل الترمذي” لابن رجب (ص195) .
الطريق الثاني :
أخرجه ابن عدي في “الكامل” (7/48) ، وابن عساكر في “تاريخ دمشق” (63/100) ، من طريق وَكِيعٌ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ عَبد اللَّهِ الْبَهِيِّ ، قال :” إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ لَمْ يدفن حتى ربا بطنه وأنتنت خَنْصَرَاهُ “.
والحديث بهذا الإسناد منقطع ، منكر .
فإن عبد الله البهي من التابعين ، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يشهد وفاته ، ولم يذكر من حدثه بذلك .
ثم إن أهل العلم مختلفون في توثيقه حتى قال فيه أبو حاتم :” لا يحتج بحديثه ، وهو مضطرب الحديث ” انتهى من “العلل” لابن أبي حاتم (2/48) .
ثم إن متن الأثر منكر ، وقد صان الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل شين أو عيب في نفسه ، أو جسده الشريف ، حيا وميتا ، صلى الله عليه وسلم ، وشرَّف وكرَّم .
وهذا الحديث لما حدث به وكيع بن الجراح حدثت له بسببه محنة كاد أن يقتل فيها ، وقد أنكر عليه أهل العلم تحديثه بهذا الحديث المنكر .
قال الإمام الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (7/570) :” فَهَذِهِ زَلَّةُ عَالِمٍ ، فَمَا لِوَكِيْعٍ وَلِرِوَايَةِ هَذَا الخَبَرِ المُنْكَرِ ، المُنْقَطِعِ الإِسْنَادِ! كَادَتْ نَفْسُهُ أَنْ تَذْهَبَ غَلَطاً ” انتهى .
وهذا هو المقطوع به من حاله صلى الله عليه وسلم بعد موته : طيبه ميتا ، كما كان طيبا حيا .
روى البخاري (3667) في خبر موته صلى الله عليه وسلم :
” فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ ” فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا ” .
الحديث الثاني :
أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (2/266) ، والدارمي في “سننه” (48) من طريق حماد بن زيد ، وعبد الرزاق في “مصنفه” (5/433)من طريق معمر ، كلاهما عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: ” تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَحُبِسَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتَهُ وَالْغَدَ حَتَّى دُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ ، وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى . فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى، وَاللَّهِ لَا يَمُوتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أَقْوَامٍ وَأَلْسِنَتَهُمْ ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَزْبَدَ شِدْقَاهُ مِمَّا يُوعِدُ وَيَقُولُ.
فَقَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ ، وَإِنَّهُ لَبَشَرٌ ، وَإِنَّهُ يَأْسُنُ كَمَا يَأْسُنُ الْبَشَرُ، أَيْ قَوْمِ ؛ فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ ” .
وإسناده منقطع ، حيث إن عكرمة لم يدرك العباس رضي الله عنه .
وأما ما ذكره السائل أن هذا الحديث روي من طريق يَعْقُوب بْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عن أنس ، فهذا خطأ .
وإنما الصواب أن الذي روي من هذا الطريق هو ما رواه أنس قال : ” لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم بَكَى النَّاسُ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيبًا فَقَالَ: لَا أَسْمَعَنَّ أَحَدًا يَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ , وَلَكِنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْهِ كَمَا أُرْسِلَ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً , وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَقْطَعَ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلُهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَاتَ ” .
أخرجه ابن سعد في “الطبقات” (2/266) .
ولم يذكر أنس في هذه الرواية شيئا يتعلق بالجسد الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم .
ثانيا : من ناحية المعنى :
في الرواية الأولى : لو سلمنا بصحتها – وهي لم تصح كما بينا – فيكون معناها حدوث ما قد يحدث للأحياء ، وليس معناه تعفن أو نحو ذلك ، حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك .
هذا مع أن طروء ذلك التغير على النبي صلى الله عليه وسلم : شيء ، وأكل الأرض لجسده الشريف شيء آخر ، وهو الذي أخبر أنه لا يقع للأنبياء .
فكيف إذا كان طيبا حيا وميتا ، صلى الله عليه وسلم ، وما صح أنه ناله شيء من ذلك قط ؟!
قال الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (7/570) :” فَهَذِهِ زَلَّةُ عَالِمٍ ، فَمَا لِوَكِيْعٍ وَلِرِوَايَةِ هَذَا الخَبَرِ المُنْكَرِ ، المُنْقَطِعِ الإِسْنَادِ! كَادَتْ نَفْسُهُ أَنْ تَذْهَبَ غَلَطاً ، وَالقَائِمُوْنَ عَلَيْهِ مَعْذُوْرُوْنَ ، بَلْ مَأْجُورُوْنَ ، فَإِنَّهُم تَخَيَّلُوا مِنْ إِشَاعَةِ هَذَا الخَبَرِ المَرْدُوْدِ ، غَضّاً مَا لِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يُوْهِمُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ إِذَا تَأَمَّلتَه فَلاَ بَأْسَ – إِنْ شَاءَ اللهُ – بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الحَيَّ قَدْ يَرْبُو جَوْفُهُ ، وَتَستَرخِي مَفَاصِلُهُ ، وَذَلِكَ تَفَرُّعٌ مِنَ الأَمرَاضِ ، وَأَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ.
وإنما المحذور أن تُجَوِّزَ عَلَيْهِ تَغَيُّرَ سَائِرِ مَوْتَى الآدَمِيِّينَ وَرَائِحَتِهِم ، وَأَكْلَ الأَرْضِ لأَجْسَادِهِم .
وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَمُفَارِقٌ لِسَائِرِ أُمَّتِهِ فِي ذَلِكَ ، فَلاَ يَبْلَى ، وَلاَ تَأْكلُ الأَرْضُ جَسَدَهُ ، وَلاَ يَتَغَيَّرُ رِيْحُهُ ، بَلْ هُوَ الآنَ – وَمَا زَالَ – أَطْيَبَ رِيْحاً مِنَ المِسْكِ ، وَهُوَ حَيٌّ فِي لَحْدِهِ، حَيَاةَ مِثْلِهِ فِي البَرزَخِ الَّتِي هِيَ أَكمَلُ مِنْ حَيَاةِ سَائِرِ النَّبِيِّينَ ، وَحَيَاتُهُم بِلاَ رَيْبٍ أَتَمُّ وَأَشرَفُ مِنْ حَيَاةِ الشُّهدَاءِ الَّذِيْنَ هُم بِنَصِّ الكِتَابِ: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ آل عمران/169 .
وَهَؤُلاَءِ حَيَاتُهُم الآنَ الَّتِي فِي عَالِمِ البَرْزَخِ حَقٌّ ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ حَيَاةَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلاَ حَيَاةَ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَهُم شِبْهٌ بِحَيَاةِ أَهْلِ الكَهْفِ.
وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ آدَمَ وَمُوْسَى لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ مُوْسَى ، وَحَجَّهُ آدَمُ بِالعِلْمِ السَّابِقِ ، كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا حَقّاً ، وَهُمَا فِي عَالِمِ البَرْزَخِ ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَخبَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ ، وَمُوْسَى ، وَإِبْرَاهِيْمَ ، وَإِدْرِيْسَ ، وَعِيْسَى ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِم ، وَطَالَتْ مُحَاوَرَتُهُ مع مُوْسَى .
هَذَا كُلُّه حَقٌّ ، وَالَّذِي مِنْهُم لَمْ يَذُقِ المَوْتَ بَعْدُ ، هُوَ عِيْسَى – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – .
فَقَدْ تَبَرْهَنَ لَكَ أَنَّ نَبِيَّنَا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَا زَالَ طَيِّباً مُطَيَّباً ، وَأنَّ الأَرْضَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا أَكلُ أَجْسَادِ الأَنْبِيَاءِ ، وَهَذَا شَيْءٌ سَبِيْلُهُ التَّوقِيْفُ .
وَمَا عَنَّفَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لَمَّا قَالُوا لَهُ بِلاَ عِلْمٍ: وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْتَ؟! يَعْنِي: قَدْ بَلِيتَ.
فَقَالَ:” إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ”. انتهى .
وفي الرواية الثانية :
لو صحت الرواية عن العباس – وهي لم تصح كما بينا – ، فإنها من قول العباس ورأيه ، ولعله لم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء .
قال الصالحي في “سبل الهدى والرشاد” (12/274) :” قال الحافظ ابن حجر فيما وجد بخطه: وهذا الذي قاله العباس لم ينقله عن توقيف بل اجتهادا على العادة ولا يستلزم أن يقع ذلك “. انتهى
ثم قد يكون المعنى هو التغير اليسير الذي قد يحدث للميت عندما تفارقه الروح ، وليس معناه التعفن أو ما شابهه مما يحدث في بني آدم ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم طيب حيا وميتا .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز في “مجموع فتاوى ابن باز” (26/107) :” أما قول العباس فلا أعلم إلى يومي هذا صحته ، ولم أتتبع أسانيده .
ولو فرضنا صحة قول العباس ، فإنه لا ينافي ما جاء به هذا الحديث من تحريم أجساد الأنبياء على الأرض ؛ لأنه قد يعتري الجسد ما يعتريه من التغيير ، وهو باق لم تأكله الأرض ، فإن الله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى ، فإذا وضع في القبر ، أمكن أن تزول هذه الرائحة على فرض صحة أثر العباس ، ويبقى الجسد سليما طريا ، وليس في الشرع ولا في العقل ما يمنع ذلك “. انتهى
وفي سنن ابن ماجه (1467) وغيره ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ” لَمَّا غَسَّلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ يَلْتَمِسُ مِنْهُ مَا يُلْتَمَسُ مِنَ الْمَيِّتِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، فَقَالَ: بِأَبِي الطَّيِّبُ، طِبْتَ حَيًّا، وَطِبْتَ مَيِّتًا ” .
قال البوصيري : “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات” ، وصححه الألباني وغيره .
وفي لفظ : ” غَسَّلْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، وَكَانَ طَيِّبًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَمَيِّتًا “.
أخرجه الحاكم في “المستدرك” 1339) ، والبيهقي في “السنن الكبرى” (6865) .
والاثر صححه أيضا النووي في “خلاصة الأحكام” (3323) ، وابن الملقن في “البدر المنير” (5/200) ، والشيخ الألباني في “أحكام الجنائز” (ص50) .
وختاما :
فقد تبين مما سبق أن جسد النبي صلى الله عليه وسلم طيب حيا وميتا ، وأن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، وأن ما روي مما يخالف ذلك لا يصح سندا ، ومنكر متنا ، والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب