أريد أن أستفسر عن حديث : (إن كان الشؤم في شئ ففي المرأه والسكن والدابة) ، أولا أنا دخلت في كثير من المواقع الدينية ، ومنها موقعكم ، واطلعت على كل ما يتعلق بهذا الحديث ، ومن هذا الفتوى (27192 ) ، لشرح هذا الحديث ، ولكن لم أجد جوابا للسؤال الذي يدور في ذهني ، وهو : هل يقصد الرسول في الحديث الشؤم يعني الشر أي المصائب ، أي هل كلمة الشؤم في الحديث تعني الشر أي المصيبة ؟
فإن كان الجواب نعم ، فلماذا يوجد الشر أو المصائب في الزوجة ولا يوجد في الرجل ؟
فإننا نعرف كثيرا من الرجال السيئين ، ولمذا لم يذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر النساء فقط ؟
حول المراد بالشؤم في حديث ” الشؤم في ثلاثة : الدار والمرأة والفرس “
السؤال: 285144
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الحديث الذي ذكره السائل الكريم حديث صحيح ، متفق عليه .
وقد جاء بعدة ألفاظ ، أشهرها ما يلي :
اللفظ الأول :( إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي الفَرَسِ ، وَالمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ ).
وهذا اللفظ أخرجه البخاري في “صحيحه” (2858) ، ومسلم في “صحيحه” (2225) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنه ، به .
اللفظ الثاني :( إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ ، فَفِي المَرْأَةِ ، وَالفَرَسِ ، وَالمَسْكَنِ ).
وهذا اللفظ أخرجه البخاري في “صحيحه” (2859) ، ومسلم في “صحيحه” (2226) ، من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، به .
ثانيا :
أما معنى الشؤم :
فالشؤم ضد اليمن ، وهما علامتان لما يصيب الإنسان من خير فيسميه ” يمن ” ، وما يصيبه من شر ومكروه ، فيسميه ” شؤم ” . وكل هذا بقدر الله ومشيئته على الحقيقة .
قال الخطابي في “أعلام الحديث” (2/1379) :” اليمن والشؤم علامتان لما يصيب الإنسان من الخير والشر، والنفع والضر، ولا يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة الله وقضائه ” انتهى .
وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بأشياء أبطلها الإسلام ، ومعنى تشاؤمهم أنهم كانوا يعتقدون وصول المكروه من أشياء ، لا تعد سببا شرعيا ولا حسيا لوقوع المكروه .
قال ابن العربي المالكي في “المسالك” (7/545) :” قال علماؤنا : الشؤم هو اعتقاد وصول المكروه إليك ، بسبب يتصل بك ، من ملك أو خلطة ، وتتشاءم به “انتهى .
وقال ابن حجر في “فتح الباري” (1/136) :” الشؤم ، بِالْهَمْز : هُوَ مَا كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ بِهِ .
وَيُقَال لكل مَحْذُور : مشئوم ، ومشأمة ” انتهى .
ثالثا :
وأما ما ورد في السؤال عن معنى الشؤم في الحديث ، ولماذا خص المرأة دون الرجل ، فبيان ذلك كما يلي :
أولا:
لم يقل عالم قط بأن شيئا ما امرأة أو غيرها له دخل بما يحدث من مصائب لأحد ، فإن الله تعالى هو من يقدر الأمور ، ولا دخل لأحد في أقداره ، ولذا فالتشاؤم والتطير بامرأة أو غيرها مما حرمه الإسلام قولا واحدا .
قال الزرقاني في “شرحه على الموطأ” (4/604) :” قَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَسَابِقِهِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ التغابن/14 ، إِشَارَةٌ إِلَى تَخْصِيصِ الشُّؤْمِ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا الْعَدَاوَةُ وَالْفِتْنَةُ ، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِكَعْبِهَا ، وَإِنَّ لَهَا تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ شَيْءٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ ، وَقَدْ أَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى مَنْ نَسَبَ الْمَطَرَ إِلَى النَّوْءِ الْكُفْرَ ، فَكَيْفَ مَنْ نَسَبَ مَا يَقَعُ مِنَ الشَّرِّ إِلَى الْمَرْأَةِ مِمَّا لَيْسَ لَهَا فِيهِ مَدْخَلٌ؟ وَإِنَّمَا يَتَّفِقُ مُوَافِقُ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ ، فَتَنْفِرُ النَّفْسُ مِنْ ذَلِكَ ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتْرُكَهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهَا ” انْتَهَى.
ثانيا : جواب الشق الأول من السؤال ، وهو حول معنى الشؤم الوارد في الحديث.
فنقول :
لما جاءت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بنفي الطيرة وتحريمها ، ثم جاء هذا الحديث ، اختلف أهل العلم في المراد به ، مع اتفاقهم كما بينا أنه لا يجوز التشاؤم والتطير بشيء ألبتة . وجاءت أقوالهم على النحو التالي :
القول الأول :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الشؤم والطيرة في كل شيء ، وأنه لو كان الشؤم حقا وواقعا لكان في هذه الثلاث ، وهو غير واقع ، لا فيها ولا في غيرها .
وقال بهذا الإمام الطبري ، والطحاوي ، وغيرهما .
واستدلوا على ذلك بأن أكثر الروايات الواردة في هذا الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءت بلفظ:
( إنْ كان الشُّؤْمُ في شَيْءٍ فَفِي ثَلاَثَةٍ : في الْفَرَسِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَالْمَرْأَةِ ).
ومن هؤلاء:
سهل بن سعد رضي الله عنه .
أخرجه البخاري في “صحيحه” (2859) ، ومسلم في “صحيحه” (2226) ، من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ ، فَفِي المَرْأَةِ ، وَالفَرَسِ ، وَالمَسْكَنِ ).
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
أخرجه مسلم في “صحيحه” (2226) من حديث جابر ، رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ فَفِي الرَّبْعِ ، وَالْخَادِمِ، وَالْفَرَسِ ).
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه .
أخرجه الإمام أحمد في “مسنده” (1554) ، والطحاوي في “شرح معاني الآثار” (6586) ، من طريق يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنِ الحَضْرَمِيِّ بْنِ لاحِقٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ الطِّيَرَةِ ، فَانْتَهَرَنِي ، وَقَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ فَكَرِهْتُ أَنْ أُحَدِّثَهُ مَنْ حَدَّثَنِي ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( لَا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هَامَ ، إِنْ تَكُنِ الطِّيَرَةُ فِي شَيْءٍ فَفِي الْفَرَسِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ ).
وإسناده صحيح ، وصححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (789) .
أنس بن مالك رضي الله عنه .
أخرجه ابن حبان في “صحيحه” (6123) ، عن أَنَس بْن مَالِكٍ ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( لَا طِيَرَةَ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ، وَإِنْ تَكُ فِي شَيْءٍ ، فَفِي الدَّارِ وَالْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ ) .
وإسناده حسن ، وحسنه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2/417) .
وأما رواية ابن عمر رضي الله عنه ، والتي جاءت بالجزم بلفظ :( إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: فِي الفَرَسِ ، وَالمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ) ، فقد جاء عنه أيضا في “صحيح مسلم” (2225) ، بلفظ :( إِنْ يَكُنْ مِنَ الشُّؤْمِ شَيْءٌ حَقٌّ ، فَفِي الْفَرَسِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالدَّارِ) .
قال الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (2/249) :” بَابٌ بَيَانُ مُشْكِلِ ما رُوِيَ عن رسول اللهِ عليه السلام في إثْبَاتِ الشُّؤْمِ وما رُوِيَ عنه في نَفْيِهِ ..
ثم روى بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ عن رسول اللهِ عليه السلام قال:( إنَّمَا الشُّؤْمُ في ثَلاَثَةٍ : في الْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ ، وَالدَّارِ) .
ثم قال : وقد رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عن النبي عليه السلام في ذلك، ما مَعْنَاهُ خِلاَفُ هذا الْمَعْنَى ، كما حدثنا يَزِيدُ بن سِنَانٍ ، حدثنا سَعِيدُ بن أبي مَرْيَمَ ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بن بِلاَلٍ ، حدثني عُتْبَةُ بن مُسْلِمٍ ، عن حَمْزَةَ بن عبد اللهِ ، عن أبيه ، عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال:( إنْ كان الشُّؤْمُ في شَيْءٍ فَفِي ثَلاَثَةٍ : في الْفَرَسِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَالْمَرْأَةِ ) .
فَكَانَ ما في هذا ، على أَنَّ الشُّؤْمَ : إنْ كان ، كان في هذه الثَّلاَثَةِ الأَشْيَاءِ ؛ لاَ يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ فيها .
وقد وَافَقَ ما في هذا الحديث ما قد رُوِيَ عن جَابِرٍ وَسَهْلِ بن سَعْدٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الْمَعْنَى “. انتهى
وقال الطبري في “تهذيب الآثار” (3/34) :” وأما قوله صلى الله عليه وسلم:( إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس ) : فإنه لم يثبت بذلك صحة الطيرة ، بل إنما أخبر صلى الله عليه وسلم : أن ذلك ، إن كان في شيء ؛ ففي هذه الثلاث .
وذلك إلى النفي أقرب منه إلى الإيجاب ، لأن قول القائل إن كان في هذه الدار أحد فزيد ، غير إثبات منه أن فيها زيدا ، بل ذلك من النفي أن يكون فيها زيد ، أقرب منه إلى الإثبات أن فيها زيدا ” انتهى .
وأجابوا عن رواية عبد الله بن عمر ، والتي جاءت بلفظ :” الشؤم في ثلاثة ” ، بأنه من اختصار وتصرف بعض الرواة ، جمعا بين الروايات .
قال الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1/408) :” والحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم في شيء ، لأن معناه: لو كان الشؤم ثابتا في شيء ما ، لكان في هذه الثلاثة ، لكنه ليس ثابتا في شيء أصلا.
وعليه : فما في بعض الروايات بلفظ ” الشؤم في ثلاثة “. أو ” إنما الشؤم في ثلاثة ” فهو اختصار ، وتصرف من بعض الرواة “انتهى .
ومما يؤكد هذا القول ما رواه ابن ماجه في “سننه” (1993) من حديث مِخْمَرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ:( لَا شُؤْمَ ، وَقَدْ يَكُونُ الْيُمْنُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ ، وَالدَّارِ ).
والحديث صححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1930) .
قال الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (2/253) :” وقد رُوِيَ عنه عليه السلام في نَفْيِ الشُّؤْمِ أَيْضًا ، وَأَنَّ ضِدَّهُ من الْيُمْنِ قد يَكُونُ في هذه الثَّلاَثَةِ الأَشْيَاءِ .. ثم ساق الحديث بسنده “انتهى .
القول الثاني :
أن المقصود بالحديث هو حكاية ما كان عليه أهل الجاهلية ، وليس إثبات الشؤم في هذه الأشياء الثلاث ، أو غيرها .
وممن قال بهذا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، ورجحه ابن قتيبة في “تأويل مختلف الحديث” (ص170) .
فقد روى أحمد في “مسنده” (26034) من طريق أَبِي حَسَّانَ ، قَالَ : ” دَخَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ عَلَى عَائِشَةَ ، فَأَخْبَرَاهَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:( الطِّيَرَةُ فِي الدَّارِ ، وَالْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ ) ، فَغَضِبَتْ فَطَارَتْ شِقَّةٌ مِنْهَا فِي السَّمَاءِ ، وَشِقَّةٌ فِي الْأَرْضِ ، وَقَالَتْ: وَالَّذِي أَنْزَلَ الْفُرْقَانَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَا قَالَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ ، إِنَّمَا قَالَ:( كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ).
والحديث صححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (993) .
قال ابن قتيبة قي “تأويل مختلف الحديث” (ص170) :” وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:( الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ ) ، فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْغَلَطُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَّهُ سَمِعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعِهِ ” انتهى .
القول الثالث :
أن المقصود بالحديث أنه لا شؤم في أي شيء ، وأن من تشاءم بالمرأة أو بالدار أو بالفرس فشؤمه عليه ، عقوبة له على فعله .
قال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (9/436) :” ووجه ذلك أن يكون قوله عليه السلام: (لا طيرة) مخصوصًا بحديث الشؤم ، فكأنه قال: لا طيرة إلا في المرأة والدار والفرس ، لمن التزم الطيرة .
يدل على صحة هذا ما رواه زهير بن معاوية ، عن عتبة بن حميد ، عن عبيد الله بن أبى بكر أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”( لا طيرة ، والطيرة على من تطير ، وإن يكن في شيء ففي الدار والمرأة والفرس ) .
فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها ، وأنها في بعض الأشياء دون بعض ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: الطيرة في الدار والفرس والمرأة ، فنهاهم النبي عليه السلام عن الطيرة ، فلم ينتهوا ، فبقيت في هذه الثلاثة الأشياء التي كانوا يلزمون التطير فيها “. انتهى
القول الرابع :
أن هذا إخبار عما كان عليه الناس يومئذ ، وهو أن هذه الثلاث هي أكثر ما كان يتشاءم به الناس ، فإذا حدث أن تكررت المصائب لإنسان ، لطول ملازمته لشيء من هذه الثلاث أبيح له مفارقته؛ لا إثباتا للطيرة والشؤم، وإنما يفارقه حفاظا على قلبه من الاعتقاد الباطل والظن الفاسد .
قال القرطبي في “المفهم” (18/104) :” هذه الثلاثة أكثر ما يتشاءم الناس بها لملازمتهم إياها ، فمن وقع في نفسه شيء من ذلك، فقد أباح الشرع له أن يتركه ، ويستبدل به غيره، مما تطيب به نفسه ، ويسكن له خاطره .
ولم يُلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه ، أو مع امرأة يكرهها ؛ بل قد فسح له في ترك ذلك كله ، لكن مع اعتقاد أن الله تعالى هو الفعَّال لما يريد ، وليس لشيء من هذه الأشياء أثر في الوجود “. انتهى
وقال الخطابي في “معالم السنن” (4/236) :” وأما قوله :” إن تكن الطيرة في شيء ففي المرأة والفرس والدار ” : فإن معناه إبطال مذهبهم في التطير بالسوانح والبوارح ، من الطير والظباء ونحوها ، إلاّ أنه يقول : إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها ، أو امرأة يكره صحبتها ، أو فرس لا يعجبه ارتباطه ، فليفارقها ؛ بأن يتنقل عن الدار ، ويبيع الفرس .
وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه . وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره “. انتهى
القول الخامس
أن يكون معنى الشؤم هنا : الشقاء والتعاسة الحاصلة للمسلم من مسكن لضيقه ، أو لأذى جيرانه ، ومن امرأة لسوء خلقها ، وسلاطة لسانها ، أو سوء طباعها ، أو إسرافها ، ومن مركب لا يغزى عليه في سبيل الله ، أو غير ذلول لا يستعمل إلا بصعوبة ، ونحو ذلك .
وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن حبان في “صحيحه” (4032) ، من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ ) .
والحديث صححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (282)
وكذلك الحديث الذي أخرجه الحاكم في “المستدرك” (2684) ، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( ثَلَاثٌ مِنَ السَّعَادَةِ ، وَثَلَاثٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ ، فَمِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا تُعْجِبُكَ ، وَتَغِيبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِيَّةً فَتُلْحِقُكَ بِأَصْحَابِكَ ، وَالدَّارُ تَكُونُ وَاسِعَةً كَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ ، وَمِنَ الشَّقَاوَةِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا فَتَسُوءُكَ ، وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ ، وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا ، فَإِنْ ضَرَبْتَهَا أَتْعَبَتْكَ ، وَإِنْ تَرْكَبْهَا لَمْ تُلْحِقْكَ بِأَصْحَابِكَ ، وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ ).
والحديث حسنه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1047) .
قال القاضي عياض في “إكمال المعلم” (7/151) :” وقد يكون الشؤم هنا على غير المفهوم منه من معنى التطير ، لكن بمعنى قلة الموافقة وسوء الطباع ، كما جاء فى الحديث الآخر:( سعادة ابن آدم فى ثلاثة ، وشقوة ابن آدم فى ثلاثة: فمن سعادته: المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب الصالح . ومن شقاوته: المسكن السوء ، والمرأة السوء ، والمركب السوء ) . انتهى
وقال القاري في “مرقاة المفاتيح” (7/2899) :” الشُّؤْمُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ الَّتِي سَبَبُهَا مَا فِي الْأَشْيَاءِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوِ الطَّبْعِ ، كَمَا قِيلَ: شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا ، وَكَذَا شُبْهَةٌ فِي سُكْنَاهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ ، وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَغَلَاءُ مَهْرِهَا ، وَنَحْوُهَا مَنْ حَمَلَهَا الزَّوْجُ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِأَرْبَابِ التَّقْوَى ، وَشُؤْمُ الْفُرْسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا أَوْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا افْتِخَارًا وَخُيَلَاءَ ، وَقِيلَ: حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا ، أَوِ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا ، أَوْ فَرَسٌ لَا تُعْجِبُهُ ، فَلْيُفَارِقْهَا بِأَنْ يَنْتَقِلَ عَنِ الدَّارِ ، وَيُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ ، وَيَبِيعَ الْفَرَسَ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ مَا عَدَّهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ … وَحَاصِلُهُ أَنَّ تَغْيِيرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيَّةِ ، بَلْ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ تَشَبُّهٌ بِالتَّطَيُّرِ ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ “. انتهى
القول السادس :
أن الخير والشر بيد الله وحده ، إلا أن الله تعالى قد يجعل بفضله بعض الأعيان مباركة ، فيسعد من قاربها ، ويجعل بحكمته بعض الأعيان مشئومة فيشقى من جاورها ، فأرشده حينئذ بالمفارقة حتى لا يفسد اعتقاده فيظن أن لشيء ما دخل في أقدار الله تعالى .
قال النووي في “شرح مسلم” (14/220) :” وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَإِنَّ الدَّارَ قَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى سُكْنَاهَا سَبَبًا لِلضَّرَرِ أَوِ الْهَلَاكِ ، وَكَذَا اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، أَوِ الْفَرَسِ ، أَوِ الْخَادِمِ ، قَدْ يَحْصُلُ الْهَلَاكُ عِنْدَهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى “. انتهى
وقال ابن القيم في “مفتاح دار السعادة” (2/257) :” فإخباره بالشؤم أَنه يكون فِي هَذِه الثَّلَاثَة لَيْسَ فِيهِ إِثْبَات الطَّيرَة الَّتِي نفاها ، وَإِنَّمَا غَايَته إِن الله سُبْحَانَهُ قد يخلق مِنْهَا أعيانا مشئومة على من قاربها وسكنها ، وأعيانا مباركة لَا يلْحق من قاربها مِنْهَا شُؤْم وَلَا شَرّ ، وَهَذَا كَمَا يعْطى سُبْحَانَهُ الْوَالِدين ولدا مُبَارَكًا يريان الْخَيْر على وَجهه ، وَيُعْطى غَيرهمَا ولدا مشئوما نذلا يريان الشَّرّ على وَجهه ، وَكَذَلِكَ مَا يعطاه العَبْد ولَايَة أَو غَيرهَا ، فَكَذَلِك الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفرس ، وَالله سُبْحَانَهُ خَالق الْخَيْر وَالشَّر والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هَذِه الْأَعْيَان سعودا مباركة ، وَيقْضى سَعَادَة من قارنها ، وَحُصُول الْيمن لَهُ وَالْبركَة ، ويخلق بعض ذَلِك نحوسا يتنحس بهَا من قارنها ، وكل ذَلِك بِقَضَائِهِ وَقدره ، كَمَا خلق سَائِر الْأَسْبَاب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة ، فَكَمَا خلق الْمسك وَغَيره من حَامِل الْأَرْوَاح الطّيبَة ولذذ بهَا من قارنها من النَّاس ، وَخلق ضدها وَجعلهَا سَببا لإيذاء من قارنها من النَّاس ، وَالْفرق بَين هذَيْن النَّوْعَيْنِ يدْرك بالحس ، فَكَذَلِك فِي الديار وَالنِّسَاء وَالْخَيْل ، فَهَذَا لون ، والطيرة الشركية لون آخر “. انتهى
وأما الجواب عن الشق الثاني ، وهو عن العلة في تخصيص المرأة دون الرجل بالذكر في الحديث ؟
فجواب ذلك : أن التخصيص هنا ليس المراد به حصر الوجود في هذه الثلاث ، وإنما هذا حصر عادة ، أي عادة ما يكون الضرر الذي ينغص حياة العبد من هذه الثلاث ، وذلك لطول الملازمة .
قال الخطابي في “أعلام الحديث” (2/1379) :” وإنما هذه الأشياء محال وظروف جعلت مواقع لأقضيته ، ليس لها بأنفسها وطباعها فعل ولا تأثير في شيء ، إلا أنها لما كانت أعم الأشياء التي يقتنيها الناس ، وكان الإنسان في غالب أحواله لا يستغني عن دار يسكنها ، وزوجة يعاشرها ، وفرس يرتبطه ، وكان لا يخلو من عارض مكروه في زمانه ودهره ، أضيف اليمن والشؤم إليها إضافة مكان ومحل ، وهما صادران عن مشيئة الله سبحانه ” انتهى .
وقال ابن العربي في “المسالك” (7/539) :” حصر الشؤم في الدار والمرأة والفرس وذلك حصر عادة لا خلقه ، فإن الشؤم قد يكون بين اثنين في الصحبة ، وقد يكون في السفر ، وقد يكون في الثوب يتخذه العبد ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إذا لبس أحدكم ثوبا جديدا فليقل اللهم إنا نسألك من خير ما صنع له ) ” انتهى .
وقال القرطبي في “المفهم” (18/104) :” فإنَّ قيل : فهذا يجري في كل متطير به ، فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر ؟ فالجواب : ما نبَّهنا عليه من أن هذه ضروريَّة في الوجود ، ولا بدَّ للإنسان منها ، ومن ملازمتها غالبًا . فأكثر ما يقع التشاؤم بها ؛ فخصَّها بالذكر لذلك ” انتهى .
وقال ابن القيم في “إعلام الموقعين” (6/561) :” وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-:( إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة ) ، تحقيق لحصول الشؤم فيها ، وليس نفيًا لحصوله من غيرها كقوله صلى اللَّه عليه وسلم:( إن كان في شيء تتداوون به شفاء ففي شرطة مِحْجم ، أو شربة عسل أو لذعة بنار ، ولا أُحبُّ الكيّ )، ذكره البخاري ” انتهى .
وقال الشيخ زكريا الأنصاري في “منحة الباري بشرح صحيح البخاري” (9/7) :” الحصر في الثلاثة نسبي بالنظر إلى الأعم الأغلب فيما يحتاج إليه لا حقيقي ، وإلا فالشؤم لا يختص بها ” انتهى .
وقال الكوراني الشافعي في “الكوثر الجاري” (5/440) :” فإن قلت: قد تكون هذه الأشياء في غير هذه المذكورات فما وجه الحصر؟ قلت: هذه الأشياء ألزم للإنسان من غيرها ، وضررها أكثر من ضرر غيرها فالحصر إضافي “انتهى.
وختاما : فإن الإجماع منعقد على حرمة التطير بأي شيء ، سواء كان امرأة أو غير ذلك ، ثم كما رأيت فالعلماء مختلفون في توجيه الحديث ، وغاية ما هنالك أنه قد يوافق قدر الله بوقوع المصائب بعض الأعيان ، فحينئذ يشرع للمسلم أن يفارقها ليسلم قلبه من الاعتقاد الفاسد ، ثم ذكر هذه الثلاثة ليس المراد به حصر الوقوع ، وإنما هذا ذكر ما جرت به العادة الغالبة ، وعلى هذا فيدخل فيه كل شيء حصل من جراءه مكروه متكرر إما طبعا أو شرعا ، سواء كان رجلا أو امرأة أو بيتا أو صاحبا أو غير ذلك .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب