هل يغفر الله لمن وقع في ذنب النميمة إذا تاب ؟ وهل يوجد تعارض بين ذلك وبين قول الرسول صلي الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة نمام ؟
حول حديث ” لا يدخل الجنة نمام” ، وهل للنمام توبة ؟
السؤال: 291186
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
النميمة نقل الكلام ونحوه على وجه الإفساد .
قال النووي في “شرح صحيح مسلم” (16/159) :” هِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ ، عَلَى جِهَةِ الْإِفْسَادِ ” انتهى .
ومما لا شك فيه أن النميمة من كبائر الذنوب ، وفاعلها من شرار الناس .
وقد جاء في التحذير منها أحاديث كثيرة صحيحة ، منها ما يلي :
ما رواه البخاري في “صحيحه” (216) ، مسلم في “صحيحه” (292) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ” مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ المَدِينَةِ ، أَوْ مَكَّةَ ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُعَذَّبَانِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قَالَ: بَلَى ، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ .
ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا .
وقد بوب البخاري على هذا الحديث فقال :” النَّمِيمَةُ مِنَ الكَبَائِرِ “.
ومنها ما رواه الإمام أحمد في “مسنده” (27599) ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ .
والحديث حسنه الشيخ الألباني في “صحيح الأدب المفرد” (246) .
ومن أشد هذه الأحاديث ما ذكره السائل الكريم ، وهو ما رواه البخاري في “صحيحه” (6056) ، ومسلم في “صحيحه” (105) ، من حديث حذيفة رضي الله عنه ، قال : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ .
وعند مسلم بلفظ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ .
وهذا الحديث لا يتعارض مع ما عليه أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا ، إذا تاب منها العبد وأناب .
فإن العبد المسلم إذا أذنب ، ثم تاب إلى الله : تاب الله عليه ، وغفر له .
قال الله تعالى : وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ الأعراف/153.
حتى كبائر الذنوب ، بل والشرك بالله ، إذا تاب منه العبد ، وصحت توبته بتركه ما عليه من الشرك أو من هذه الكبيرة ، مع ندمه وعزمه ألا يعود ، فإن الله يقبل توبته ، ويغفر له ، ما دام أن هذه التوبة كانت قبل الموت .
قال الله تعالى : قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ الزمر/53-54 .
وقال تعالى : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا الفرقان/68- 71.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، قَالَ: نَعَمْ , تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ ، فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ , قَالَ: وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى ” .
أخرجه الطبراني في “المعجم الكبير” (7/314) ، وصححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (3391) .
والنميمة مع عظم جُرمها ، إلا أن العبد إذا تاب منها ، تاب الله عليه .
وأما معنى الحديث الذي أورده السائل :( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ ) :
فليس هذا في حق من تاب منها ، وأناب إلى رب العالمين ؛ بل الوعيد في الحديث في حق من مات ولم يتب من النميمة ؛ فإن هذا هو الذي يقال فيه “نمام” ، وهو الذي يتناوله الوعيد الوارد في الحديث ، كما هو حال أهل الكبائر ، وعصاة الموحدين .
وقد قيل في معنى الحديث ، أيضا : إن المراد أنه لا يدخل الجنة ابتداء ، بل قد يعذبه الله على ما فعل ثم يكون مآله الجنة إن كان من أهل التوحيد .
ومن أهل العلم من حمل الحديث على من فعل النميمة مستحلا لها .
قال ابن الجوزي في “كشف المشكل” (1/323) :” فَكَأَن المُرَاد: لَا يدْخل الْجنَّة ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يدْخل النَّار ، وعَلى هَذَا تَفْسِير قَوْله: ” لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات ” . انتهى
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” (2/113) :” وأما قوله صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الْجَنَّةَ نَمَّامٌ ) : فَفِيهِ التَّأْوِيلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ فِي نَظَائِرِهِ : أَحَدُهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ ، وَالثَّانِي لَا يَدْخُلُهَا دُخُولَ الْفَائِزِينَ ” انتهى .
ومن السلف والأئمة : من كان يترك أحاديث الوعيد كما هي ، ولا يتعرض لها بتأويل ، خشية أن تهون المعاصي في نفوس الناس ، بل يتركون أحاديث الوعيد على وجهها ، مع ما تقرر في أصول الاعتقاد من حال عصاة الموحدين ، وأنهم لا يدخلون النار على سبيل التأبيد ، ولا يحرمون من الجنة على سبيل التأبيد أيضا ؛ بل لا بد للموحد من الخروج من النار ، إن عذب بها ، ولا بد له أيضا من دخول الجنة ، وإن حرم منها ما شاء الله له .
جاء في “فتاوى اللجنة الدائمة” رقم (16362) :
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة نمام ) ؟
فكان الجواب :
هذا الحديث من أحاديث الوعيد التي تجرى على ظاهرها ولا تؤول ، وهو يدل على تحريم النميمة ، وذم من تخلق بهذا الخلق الذميم .
ومن المعلوم أن كل ذنب دون الشرك بالله تحت مشيئة الله ، إن شاء سبحانه غفر لصاحبه لما مات عليه من التوحيد والإيمان ، وإن شاء عذبه على قدر معاصيه ، ثم مآله إلى الجنة برحمة الله تعالى ، إذا كان مات على التوحيد والإيمان بالله تعالى ، كما دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، خلافا للخوارج والمعتزلة .
وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
الشيخ عبد العزيز بن باز ( الرئيس ) ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ( نائب الرئيس ) ، الشيخ عبد الله بن غديان ( عضو ) ، الشيخ صالح الفوزان (عضو) ، الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (عضو) .
انتهى من “فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء”.
إلا أنه يجب أن يُعلم أن للتوبة الصحيحة شروطا ، لا تصح إلا بها .
فالذنب إما أن يكون بين العبد وربه وليس لآدمي فيه حق ، أو يكون متعلقا بحق آدمي ، ومنه النميمة .
فإن كان من النوع الأول فيشترط لصحة التوبة ثلاثة شروط : الإقلاع عن الذنب لله ، والندم ، والعزم على عدم العود .
وإن كانت متعلقة بحق آدمي ، أضيف إلى ما سبق الخروج عن تلك المظلمة .
قال النووي في “الأذكار” (346) :” والتوبة من حقوق الله تعالى يشترط فيها ثلاثة أشياء : أن يقلع عن المعصية في الحال ، وأن يندم على فعلها ، وأن يعزم ألا يعود إليها ، والتوبة من حقوق الآدميين يشترط فيها هذه الثلاثة ، ورابع : وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو طلب عفوه عنها والإبراء منها “. انتهى
وقال العراقي في “طرح التثريب” (8/238) :” وَالْأَكْثَرُونَ جَمَعُوا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَقَالُوا إنَّ لِلتَّوْبَةِ أَرْكَانًا : الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى…. فَيُزَادُ فِي التَّوْبَةِ رُكْنٌ رَابِعٌ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ …
ثُمَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ ، إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِآدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ خَامِسٍ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ تِلْكَ الْمَظْلِمَة “. انتهى .
وحتى يخرج العبد من ذنب النميمة عليه إصلاح ما أفسد إن أمكن ، مع استحلال صاحب الحق.
فقد ذكر ابن مفلح في “الآداب الشرعية” (1/80) في توبة المغتاب والنمام :” وَأَنْ يَسْتَحِلَّ مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِهِمَا “. انتهى .
فإن كان يترتب على استحلاله من صاحب الحق مفسدة، لم يستحله ، واستغفر لصاحب الحق .
قال السفاريني في “شرح منظومة الآداب” (1/88) :” فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا ( أي من الغيبة والنميمة ) وَاسْتِحْلالُ مَنْ اغْتَابَهُ أَوْ بَهَتَهُ أَوْ جَبَهَهُ بِأَنْ وَاجَهَهُ بِمَا يَكْرَهُ ، أَوْ نَمَّ عَلَيْهِ ، مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ فِتْنَةٌ ، فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ “. انتهى
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (6308) ، ورقم : (218351) ، ورقم : (258708) .
ومما سبق يتبين أن رحمة الله واسعة ، لا يمنعها عمن ندم وتاب وأناب وأصلح ، فهو سبحانه الغفور التواب الرحيم.
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة