قال تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)التوبة/101 . وقوله : (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) محمد/30 . هل هاتان الآيتان تشيران إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم المنافقين الذين كانوا من حوله ؟ فلماذا تدل بعض الروايات والأحاديث وقال بعض أهل العلم أنه كان يعلم بعضهم؟ وقوله تعالى:( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) فكيف حذر منهم الرسول وهو لا يعلمهم ؟ وما داموا من أهل المدينة فهم من الأنصار وهذا يتنافى مع عدالة الصحابة ؟
المنافقون كانوا معروفين بأعيانهم أو بأوصافهم ولم يرووا حديثا واحدا فلا يقدح وجودهم في عدالة الصحابة
السؤال: 294379
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يوجد حوله ، من أهل المدينة وما حولها ، منافقون لا يعلمهم، فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ التوبة/101.
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين بأعيانهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وأطلع الله نبيه على بعضهم الآخر بصفاتهم، كما قال: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ محمد/30.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/ 204): “يخبر تعالى رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، أن في أحياء العرب، ممن حول المدينة منافقين، وفي أهل المدينة أيضا : منافقون مردوا على النفاق ، أي: مرِنُوا واستمروا عليه .
ومنه يقال: شيطان مريد ، ومارد، ويقال: تمرد فلان على الله، أي: عتا وتجبر.
وقوله: لا تعلمهم نحن نعلمهم : لا ينافي قوله تعالى: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول الآية [محمد:30] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يُعرفون بها، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين.
وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا، وإن كان يراه صباحا ومساء، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال:
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، عن رجل، عن جبير بن مطعم، رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة ؟
فقال: لتأتينكم أجوركم ، ولو كنتم في جحر ثعلب .
وأصغى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: “إن في أصحابي منافقين”.
ومعناه: أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له، ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم.
وتقدم في تفسير قوله: وهموا بما لم ينالواالتوبة:/74 أنه عليه السلام أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر ، أو خمسة عشر منافقا، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم، والله أعلم” انتهى.
وحديث جبير المذكور ، قال فيه الحافظ البوصيري : ” رواه أبو داود الطيالسي ، وأَبُو بكر بن أبي شَيْبَة ، وأحمد بن منيع ، وأحمد بن حنبل ، والحارث ، وأَبُو يَعْلَى ، كلهم بسند فيه راوٍ لم يسم.” انتهى، من “إتحاف الخيرة المهرة” (3/243) .
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله: “قوله تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) الآية.
صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب، ومن أهل المدينة ، منافقين ، لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه: (قال وما علمي بما كانوا يعملون) الآية [26 / 112] .
وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين * وما أنا عليكم بحفيظ)ـ.
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين ، كما تقدم في الآيات الماضية، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، بشيء من ذلك، كما هو معلوم” انتهى من “أضواء البيان” (2/ 148).
وقد روى مسلم (2779) عَنْ حذيفة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ .
والمقصود بقوله: “أصحابي” : من ينسب إلى صحبته، كما قال في شأن رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول: “وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلاَ نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ رواه البخاري (3330) ، ومسلم (2584).
قال النووي رحمه الله :
” أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( في أَصْحَابِي ) : فَمَعْنَاهُ : الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إِلَى صُحْبَتِي ، كَمَا قال فى الرواية الثانية : ( فى أمتى ) .
و(سم الْخِيَاطِ) ، بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ، الْفَتْحُ أَشْهَرُ ، وَبِهِ قَرَأَ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ ، وَهُوَ ثَقْبُ الْإِبْرَةِ .
ومعناه : لا يدخلون الجنة أبدا ، كما لا يدخل الْجَمَلُ فِي ثَقْبِ الْإِبْرَةِ أَبَدًا ” انتهى، من “شرح مسلم” (17/125) .
وقال التوربشتي رحمه الله :
” صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم – المعتد بها هي المقترنة بالإيمان، ولا يصح أن تطلق إلا على من صدق في إيمانه، وظهر منه أمارته، دون من أغمض عليهم بالنفاق وإضافتها إليهم لا تجوز إلا على المجاز لتشبههم بالصحابة، وتسترهم بالكلمة، وإدخالهم أنفسهم في غمارهم؛ ولهذا قال في أصحابي، ولم يقل من أصحابي، وذلك مثل قولنا: إبليس كان في الملائكة أي: في زمرتهم ولا يصح أن يقال: كان من الملائكة، فإن الله- سبحانه وتعالى- يقول: كان من الجن ..” انتهى، من “الميسر في شرح مصابيح السنة”، للتوربشتي (4/1296) .
وروى مسلم (2779) عن أبي الطُّفَيْلِ، قَالَ: ” كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ، قَالَ: كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ ، فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ .
وَأَشْهَدُ بِاللهِ ، أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ”.
قال النووي رحمه الله :
” وَهَذِهِ الْعَقَبَةُ لَيْسَتِ العقبة المشهورة بِمِنًى ، الَّتِي كَانَتْ بِهَا بَيْعَةُ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ عَقَبَةٌ عَلَى طَرِيقِ تَبُوكَ ، اجْتَمَعَ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا لِلْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ تَبُوكَ ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ” انتهى من “شرح مسلم” (17/126) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
” هَذَا الحَدِيث يشكل على المبتدئين؛ لِأَن أهل الْعقبَة إِذا أطْلقُوا فَإِنَّمَا يشار بهم إِلَى الْأَنْصَار الْمُبَايِعين لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا من ذَاك، وَإِنَّمَا هَذِه عقبَة فِي طَرِيق تَبُوك، وقف فِيهَا قوم من الْمُنَافِقين ليفتكوا بِهِ .. ” انتهى من “كشف المشكل” (1/392) .
ثم روى بإسناده حديث أبي الطفيل ، وفيه التصريح بأن العقبة كانت في طريق رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك .
قال ابن هبيرة رحمه الله :
” وفيه أيضًا : ما يدل على أن ذوي النفاق ، وكل من في صدره إحنة : فإنه يظهر ذلك في أوقات المضايق، وعند توهم الشدة كما كشف الله عز وجل أمر هؤلاء المنافقين في يوم العقبة” انتهى، من “الإفصاح” (2/233) .
وروى البخاري (4658) زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ” كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الآيَةِ إِلَّا ثَلاَثَةٌ، وَلاَ مِنَ المُنَافِقِينَ إِلَّا أَرْبَعَةٌ “، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّكُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تُخْبِرُونَا فَلاَ نَدْرِي، فَمَا بَالُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُرُونَ بُيُوتَنَا، وَيَسْرِقُونَ أَعْلاَقَنَا؟
قَالَ: “أُولَئِكَ الفُسَّاقُ، أَجَلْ ، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، أَحَدُهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَوْ شَرِبَ المَاءَ البَارِدَ لَمَا وَجَدَ بَرْدَهُ” .
والآية هي قوله تعالى: فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم .
وفي قصة كعب بن مالك رحمه الله وتخلفه عن تبوك، قال: “فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَطُفْتُ فِيهِمْ ، أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ ” أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
قال المعلمي اليماني في “الأنوار الكاشفة” (ص278) :” وفي هذا بيان أن المنافقين قد كانوا معروفين، في الجملة ، قبل تبوك ، ثم تأكد ذلك بتخلفهم لغير عذر وعدم توبتهم ، ثم نزلت سورة براءة فقشقشتهم .
وبهذا يتضح أنهم قد كانوا مشارًا إليهم بأعيانهم ، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ” انتهى .
والمقصود أن المنافقين كانوا قلة، معروفين بأعيانهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولحذيفة من بعده، أو معروفين بأوصافهم، فلو روى واحد منهم حديثا لفضحه حذيفة، وقد صان الله حديث نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلم يرو حديث عن رجل ملموز بالنفاق.
بل نقل ابن الجوزي رحمه الله ، عن الحافظ أبي سليمان الدمشقي ، تسمية هؤلاء الخسمة عشر ، المذكورين في قصة العقبة السابقة . ينظر : “كشف المشكل” (1/393) .
لكن قال التوربشتي رحمه الله :
” وقد اطلعت على أسمائهم في كتب حفاظ الحديث مروية عن حذيفة، غير أني وجدت في بعضها اختلافا فلم أر أن أخاطر بديني فيما لا ضرورة لي.” انتهى، من “شرح المصابيح” (4/1297) .
قال المرداوي في “التحبير شرح التحرير” (4/1995) :” قَالَ الْحَافِظ الْمزي: من الْفَوَائِد أَنه لم يُوجد قطّ رِوَايَة عَمَّن لمز بالنفاق من الصَّحَابَة – رَضِي الله عَنْهُم ” انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في “منهاج السنة النبوية” (8/474) :” وَالصَّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدِّينِ : كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ ، وَلَمْ يُعَظِّمِ الْمُسْلِمُونَ -وَلِلَّهِ الْحَمْدُ -عَلَى الدِّينِ مُنَافِقًا ” انتهى .
فعلم بهذا أن وجود المنافقين لا يقدح في عدالة الصحابة، ولا يتطرق الشك إلى رواة الحديث.
وانظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (271569)
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة