جاء في “صحيح ابن حبان” ج (11/227) وغيره من الكتب زيادة عن قصة الحديبية التي في “البخاري” وفيها قول عمر رضي الله عنه “والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ” فهل شك عمر في نبوة النبي ؟ أم في أمر النبي ؟ أم في ماذا؟ وهل هذا يقدح فيه ؟ مع إن الله سبحانه وتعالى قد قال :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ؟
حول شبهة أن عمر رضي الله عنه شك في الدين يوم الحديبية
السؤال: 294924
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
من المعلوم المقرر في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : أن محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دين وإيمان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان .
وقد أراد قوم أن يطعنوا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ليطعنوا بذلك في دين الله ، والله متم نوره ولو كره المشركون .
ومعلوم أن خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هم خلفاؤه الأربعة ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، رضي الله عنهم أجمعين .
وقد حاول أهل الضلالة الطعن في الصحابة عموما ، وفي أبي بكر وعمر خصوصا ، فافتروا عليهم الأكاذيب ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وحملوا الروايات ما لم تحتمل ، فكشف الله كذبهم ، وأبان عوارهم .
ثانيا :
من الشبه الباطلة ، والأكاذيب المفتراة على الفاروق ، المحدث الملهم ، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : ما ذكر في السؤال .
حيث زعم أهل الزيغ والضلالة : أنه شك في دين الله يوم الحديبية ، والشك في الدين كفر ، حاشاه أن يفعل وهو الفاروق رضي الله عنه .
وحتى يتضح كذب هذه الفرية ، نقول وبالله التوفيق :
أن ما نقلوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كذب مفترى ، أو خطأ فاحش ، وذلك لما يلي :
أولا :
رويت هذه الجملة المنكرة في رواية عبد الرزاق لحديث صلح الحديبية ، ولا تصح لما يلي:
هذا الطريق اختُلف فيه على عبد الرزاق :
فرواه عبد الله بن محمد الجعفي المسندي ، كما عند البخاري في “صحيحه” (2731) ، وأحمد بن حنبل كما في “المسند” (18928)، ، فروياه عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ومروان ، ولم يذكرا فيه هذه الجملة عن عمر .
وخالفهما ( إسحاق بن إبراهيم الدبري ) كما في “مصنف عبد الرزاق” (9720) ، و ( محمد بن المتوكل بن أبي السري ) كما عند ابن حبان في “صحيحه” (4872) ، فروياه عن عبد الرزاق بإثبات هذه الجملة عن عمر .
وهذه الزيادة هنا منكرة ، لا تثبت :
فإسحاق بن إبراهيم الدبري قد تكلم أهل العلم فيما انفرد به عن عبد الرزاق .
قال الذهبي في “ميزان الاعتدال” (1/181) :” قال ابن عدي: استصغر في عبد الرزاق .
قلت ( أي الذهبي ): ما كان الرجل صاحب حديث ، وإنما أسمعه أبوه ، واعتنى به ، سمع من عبد الرزاق تصانيفه ، وهو ابن سبع سنين أو نحوها ، لكن روى عن عبد الرزاق أحاديث منكرة ، فوقع التردد فيها ، هل هي منه ، فانفرد بها ، أو هي معروفة مما تفرد به عبد الرزاق …
قال : وفي مرويات الحافظ أبي بكر بن الخير الإشبيلي : كتاب الحروف الذي أخطأ فيها الدبري وصحفها في مصنف عبد الرزاق “. انتهى
وقد يكون ذلك من عبد الرزاق نفسه ، فإنه اختلط في آخر عمره ، ومعلوم أن إسحاق بن إبراهيم الدبري أخذ عنه في آخر عمره .
قال ابن الصلاح في “مقدمته” (ص248) :” عبد الرزاق بن همام: ذكر أحمد بن حنبل أنه عمي في آخر عمره ، فكان يلقن ، فيتلقن ؛ فسماع من سمع منه بعد ما عمي : لا شيء . قال النسائي : فيه نظر لمن كتب عنه بآخرة .
قلت ( أي ابن اصلاح ) : قد وجدت فيما روي عن ( الطبراني ) عن ( إسحاق بن إبراهيم الدبري ) عن ( عبد الرزاق ) : أحاديث استنكرتها جدا ، فأحلت أمرها على ذلك ؛ فإن سماع ( الدبري ) منه متأخر جدا “. انتهى
وأما محمد بن المتوكل بن أبي السري ، فهو لين الحديث .
قال أبو حاتم كما في “الجرح والتعديل” (8/105) :” لين الحديث “. انتهى ، وقال ابن عدي كما في “تاريخ دمشق” (55/232) :” كثير الغلط ” . انتهى ، وقال الذهبي في “ميزان الاعتدال” (4/24) : ” ولمحمد هذا أحاديث تستنكر “. انتهى
وقد خالفهما اثنان من كبار الأئمة الثقات :
الأول : وهو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان الجعفي المسندي ، فهو إمام حجة متقن ثبت ، قال الذهبي في “تذكرة الحفاظ” (2/59) :” قال أبو حاتم: صدوق ، وقال الحاكم: هو إمام في الحديث في عصره بما وراء النهر بلا مدافعة “. انتهى
والثاني : أحمد بن حنبل ، وهو الإمام الحجة ، وكفى به ثقة وضبطا .
فإذا كان الأمر كذلك ، فتقدم رواية أحمد بن حنبل وعبد الله بن محمد الجعفي على غيرهما ، وهذا واضح ، لا لبس فيه ، إن شاء الله .
ثانيا :
أنه قد تابع محمد بن إسحاق معمرا في هذه الرواية ، ولم يذكر فيه هذه الجملة المنكرة .
أخرج هذه الرواية أحمد بن حنبل في “مسنده” (18910) ، من طريق محمد بن إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ به .
وإسناده حسن ، وهو يقوي طريق معمر الذي لم يذكر فيه هذه الجملة المنكرة .
ثالثا :
أنه قد روى هذه القصة سهل بن حنيف أيضا من طريق آخر ، وذكر فيه مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر فيه هذه الجملة المنكرة .
أخرجه البخاري في “صحيحه” (3182) ، ومسلم في “صحيحه” (1785) ، من طريق حَبِيب بْن أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: ” حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ ، قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا ، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَسْنَا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا ، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟
فَقَالَ: يَا ابْنَ الخَطَّابِ ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا .
فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا !!
فَنَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ “.
رابعا :
أن ابن أبي شيبة روى في “مصنفه” (36855) ، من طريق عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأَنْصَارِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ , قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ .. وساق قصة الحديبية ، ومراجعة عمر ، ولم يذكر فيه كذلك هذه الجملة المنكرة .
وهذا مع كونه مرسلا ، إلا أنه يُعد متابعة لمن لم يذكر هذه الجملة المنكرة عن عمر .
خامسا :
أن عمر نفسه قد ذكر أنه في هذه القصة ما شك ، بل هو يشهد أن محمدا رسول الله ، وذك كما في الرواية التي أخرجها أحمد في “المسند” (18910) ، من طريق مُحَمَّد بْن إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، قَالَا … وفيه :
” فَلَمَّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْكِتَابُ ، وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَوَلَيْسَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا ؟!
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ حَيْثُ كَانَ ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ.
قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا أَشْهَدُ .
ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: ” بَلَى “، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الذِّلَّةَ فِي دِينِنَا؟
فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي .
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ ، مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ ، مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ ؛ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا” .
وموضع الشاهد فيه أن أبا بكر قال : فإني أشهد أنه رسول الله ، قال عمر : وأنا أشهد .
سادسا :
أن عمر نفسه قد صرح في رواية عنه ، أنه لما قال ما قال من مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان قصده بذلك الحق ، ولم يدخر جهدا في ذلك .
وهذه الرواية أخرجها الطبراني في “المعجم الكبير” (1/72) ، من طريق عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ:” اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيِي ، اجْتِهَادًا ، فَوَاللهِ مَا آلُو عَنِ الْحَقِّ وَذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ ، وَالْكِتَابُ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ مَكَّةَ ، فَقَالَ: اكْتُبُوا بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فَقَالُوا: تَرَانَا قَدْ صَدَّقْنَاكَ بِمَا تَقُولُ؟ وَلَكِنَّكَ تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللهُمَّ ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَيْتُ ، حَتَّى قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَرَانِي أَرْضَى وَتَأبَى أَنْتَ؟ قَالَ: فَرَضِيتُ”.
وإسنادها صحيح ، قال ابن كثير في “مسند الفاروق” (683) :” هذا حديث حسن، وإسناد جيد”. انتهى .
فقوله :” فوالله ما آلو عن الحق ” : أي ما أقصر عن الحق ولا أدخر جهدا في سبيله .
ومنه قول الصلتان العبدي كما في “أمالي القالي” (2/141) :
فاقسم لا آلو عَنِ الحق بينهم … فإن أنا لم أعدل فقل أنت ظالع “. انتهى
قال ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” (1/128) :” قال الخليل: يقال ما آلوْتُ عن الجُهْدِ في حاجتك .. أي لم نَدَعْ جُهْدا. قال أبو زيد: يقال ألَوْتُ في الشيء آلو، إذا قصرت فيه “. انتهى
سابعا :
أن أهل العلم ذكروا أن مراجعة عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ، لم تكن عن شك في الدين والرسالة ، وإنما أراد أن يستكشف ما خفي عنه ، من حكمة قبول هذه الشروط الجائرة على المسلمين ، وذلك لما عرف عنه من قوته في دين الله عز وجل .
قال القاضي عياض في “إكمال المعلم” (6/155) :” ولم يكن ما كان من عمر – رضى الله عنه – وسؤاله له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما سأله عنه شكاً من عمر ، ولا ريباً ، بل كشفاً لما خفي عنه من ذلك ، وحثاً على إذلال الكفر ، وحرصاً على ظهور المسلمين ، بما كان عليه من القوة والعزة في دين الله “. انتهى
ثامنا : أننا لو سلمنا جدلا بأن هذه اللفظة محفوظة في قصة الحديبية ؛ فذلك الشك المذكور في الحديث ، له عند أهل العلم تفسيران :
الأول : أنه شك في وجود المصلحة من قبول هذا الصلح .
قال ابن حجر في “فتح الباري” (5/346) :
” وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا ) : فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الشَّكِّ فِي الدِّينِ : فَوَاضِح .
وَقد وَقع فِي رِوَايَة ابن إِسْحَاقَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَالَ لَهُ الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ عُمَرُ : وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ .
وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الشَّكِّ ، فِي وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ وَعَدَمِهَا : فَمَرْدُودٌ “. انتهى
الثاني : أنه لو ثبت وقوع الشك منه ، فهذا لم يكن شكا وريبا يقدح في أصل التصديق ، وإنما كان من قبيل الخاطر الذي يعرض ثم لم يلبث أن زال سريعا ، وهذا لا يؤاخذ به المرء ، ولا يطعن في إيمانه ، بخلاف الشك المستقر في النفس .
قال السهيلي في “الروض الأنف” (6/490) : ” ( وَمَا شَكَكْت مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا تِلْكَ السّاعَةَ ) : وَفِي هَذَا : أَنّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَشُكّ ، ثُمّ يُجَدّدُ النّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْحَقّ ، فَيَذْهَبُ شَكّهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ: هُوَ شَيْءٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ ، ثُمّ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ولكن ليطمئنّ قلبي ) .
وَلَوْلَا الْخُرُوجُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي هَذَا الكتاب ، لَذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي ) ، وَذَكَرْنَا النّكْتَةَ الْعُظْمَى فِي ذَلِكَ ، وَلَعَلّنَا أَنْ نَلْقَى لَهَا مَوْضِعًا ، فَنَذْكُرَهَا.
وَالشّكّ الّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ وابن عباس : مالا يُصِرّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ، وَإِنّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الّتِي قَالَ فِيهَا عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ إبْلِيسَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي رَدّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ “. انتهى
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (15/178) : ” وَمَعْلُومٌ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ مُؤْمِنًا، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ، وَلَكِنْ طَلَبَ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ، كَمَا قَالَ: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .
فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ : سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكًّ…
كَذَلِكَ الْوَعْدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا: يَكُونُ الشَّخْصُ مُؤْمِنًا بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ ، فَلَا يَطْمَئِنُّ، فَيَكُونُ فَوَاتُ الِاطْمِئْنَانِ ، ظَنًّا أَنَّهُ قَدْ كُذِّبَ .
فَالشَّكُّ مَظِنَّةُ أَنَّهُ يَكُونُ : مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَقْدَحُ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ … } “. انتهى
وكل هذا على فرض وقوع الشك وثبوت اللفظ ، وقد بينا أن اللفظ لم يثبت ، والحمد لله .
والثابت أن عمر رضي الله عنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلح ، وراجع أبا بكر ، ثم ندم على ذلك ، حتى قال كما في رواية ابن إسحاق عند أحمد في “المسند” (18910) : ” مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ ، مِنَ الَّذِي صَنَعْتُ ، مَخَافَةَ كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ ، حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا “.
ثم إن عمر رضي الله عنه بشر غير معصوم ، وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في حياته ، ومات وهو عنه راض .
فقد روى البخاري في “صحيحه” (3679) ، ومسلم في “صحيحه” (2394) ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الجَنَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَسَمِعْتُ خَشَفَةً ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا بِلاَلٌ ، وَرَأَيْتُ قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لِعُمَرَ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ . فَقَالَ عُمَرُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ .
وثبت في “صحيح البخاري” (3683) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه :( إِيهًا يَا ابْنَ الخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ ، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ ) .
وأثنى صلى الله عليه وسلم على قوة إيمانه فقال كما في “صحيح البخاري” (3690) : بَيْنَمَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا الذِّئْبُ ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً فَطَلَبَهَا حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي ؟
فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ !!
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَمَا ثَمَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ .
والحاصل:
أن هذه الجملة التي أوردها السائل ، أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه الشك في دين الله ، كلمة منكرة شاذة ، لم تثبت في الحديث الصحيح ، عن صلح الحديبية .
وإنما راجع عمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، على وجه المصلحة فيما وقع ؛ ثم إنه ندم على ذلك ، وعمل لأجل ذلك أعمالا .
وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة والجنة ، ومات وهو عنه راض ، فرضي الله عن عمر ، وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، آمين .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب