لدي سؤال عن قصة الغرانيق ، فقد وجدت كلاما في أحدى الفتاوى في هذا الموقع الموقر ، والذي طالما أرجع إليه يفيد بجواز أن يكون النبي قال بنفسه تلك الكلمات المعروفة ، وسؤالي : ألا يتعارض هذا مع قول النبي لعبد الله بن عمرو( اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إالا الحق) ، وأشار إلى فمه الشريف ، فكيف يكون الجمع بينهما لو قلنا : إن النبي هو القائل ؟
هل تتعارض قصة الغرانيق مع قوله صلى الله عليه وسلم: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) ؟
السؤال: 297388
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
قصة الغرانيق مختلف في ثبوتها، وقد صحت عن جماعة من التابعين كسعيد بن جبير وقتادة، وقد رجحنا في جواب السؤال رقم : (177218) أن الذي سمعه المشركون ، كان مما ألقاه الشيطان على مسامعهم، ولم ينطق به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد رجح ذلك غير واحد من أهل العلم ، انظر ” فتح الباري ” (8/440).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بهذا، فلا إشكال فيما ذكر في السؤال ، ولا معارضة مع قوله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ رواه أحمد (6510) ، وأبو داود (3646) ؛ فإن هذا الكلام ، على فرض ثبوت القصة : لم يخرج من فم النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ألقاه الشيطان ، في مسامع أصحابه .
وأما من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بذلك، فإنه يقول: لكنه لم يُقر عليه، بل نسخه الله وأبطله، وكان ذلك دليلا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (10/290): “وهذه العصمة الثابتة للأنبياء : هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة… فلا يستقر في ذلك خطأ ؛ باتفاق المسلمين .
ولكن هل يصدر ما يستدركه الله ، فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟
هذا فيه قولان : والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك .
والذين منعوا ذلك من المتأخرين : طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : ” تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ” ، وقالوا : إن هذا لم يثبت .
ومن علم أنه ثبت ، قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ، ولم يلفظ به الرسول .
ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا ، وقالوا في قوله : ( إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) هو حديث النفس .
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا : هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه ، والقرآن يدل عليه بقوله : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الحج/52-54
فقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث ، والقرآن يوافق ذلك ، فإن نسخ الله لما يُلقي الشيطان ، وإحكامه آياته ، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته ، وتمييز الحق من الباطل ، حتى لا تختلط آياته بغيرها ، وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ، والقاسية قلوبهم ، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس ، لا باطنا في النفس ، والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ ، من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ. وهذا النوع أدل على صدق الرسول ، وبعده عن الهوى ، من ذلك النوع ؛ فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه – وكلاهما من عند الله ، وهو مصدق في ذلك – ؛ فإذا قال عن نفسه : إن الثاني هو الذي من عند الله ، وهو الناسخ ، وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك = كان أدل على اعتماده للصدق ، وقوله الحق ، وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها : ” لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي ، لكتم هذه الآية : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) “؛ ألا ترى أن الذي يُعَظِّمُ نفسَه بالباطل ، يريد أن ينصر كل ما قاله ، ولو كان خطأ ؟
فبيان الرسول : أن الله أحكم آياته ، ونسخ ما ألقاه الشيطان ؛ هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب ، وهذا هو المقصود بالرسالة ، فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب ” انتهى .
ومقصود قوله: اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ : حصول الثقة بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يتحقق بتصويب الله لقوله ، ونسخ ما يدخل في كلامه من خطأ ؛ فإنه لو فرض وقوعه، لم يُقر عليه ، ولم يُضَفْ إلى الدين ما ليس منه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة