0 / 0

الجمع بين حديث:” لا تبك يا معاذ ، إن البكاء من الشيطان ” ، مع ثبوت بكائه صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم .

السؤال: 305053

إني سمعت في أحد الدروس لشيخ كبير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه ؛ وهو معاذ، أن لا يبكي ، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: ( لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ لَلْبُكَاءُ ، أَوْ إِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ) فهل هذا الحديث صحيح ؟ وكيف نوفق بين هذا وبين حزن يعقوب عليه السلام حتى أبيضت عيناه من الحزن ؟ و كيف نوفق بين هذا وبين حزن الرسول على موت ابنه إبراهيم ؟

ملخص الجواب

يحمل حديث معاذ رضي الله عنه ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له : على أنه ربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه الجزع ، وهذا جاء في الرواية أنه بكى جزعا ، أو وربما رفع صوته أثناء البكاء ، وبهذا تجتمع الأدلة كلها .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

أما الحديث الذي أورده السائل فهو حديث صحيح .

أخرجه أحمد في “مسنده” (22054) ، والطبراني في “المعجم الكبير” (20/121) ، والبزار في “مسنده” (2647) ، من طريق صفوان بن عمرو ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : ”  أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:  يَا مُعَاذُ ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي ، وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي   ، فَبَكَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ جَزَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ  .

وإسناده صحيح ، رجاله ثقات .

قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (9/22) :” رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ .. وَرِجَالُ الْإِسْنَادَيْنِ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ ، وَعَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، وَهُمَا ثِقَتَانِ “. انتهى ، وصححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2497). وصححه أيضا: الشيخ مقبل الوادعي، كما في “الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين “(1108)، وقال محققو مسند أحمد ، ط الرسالة : “إسناده صحيح” .

ثانيا:

الحديث يدل بظاهره على النهي عن البكاء ، إلا أنه بعد جمع الأدلة الواردة في المسألة يتبين أن مطلق البكاء عند فقد الأحبة : لا يحرم ، وإنما المحرم البكاء مع رفع الصوت ، وكذلك النياحة ، وما صاحبه من تسخط على أقدار الله .

وبيان ذلك كما يلي :

أولا : جاءت الأحاديث الصحيحة التي تدل على بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند فقده أحبته ، ومن ذلك :

بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم عليه السلام .

والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1303) ، ومسلم في “صحيحه” (2315) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: ” دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ ، فَقَبَّلَهُ ، وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:  يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ   ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ  .

بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت ابن بنته زينب رضي الله عنها .

والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1284) ، من حديث أسامة بن زيد ، قال : ” أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ ، فَأْتِنَا ، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ ، وَيَقُولُ:   إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ ، وَلْتَحْتَسِبْ   ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ – قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ – فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ:   هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ  .

بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند علمه باستشهاد جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم .

والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (2798) ، من حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:  أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ   ، وَقَالَ:  مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا ،   قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ:  مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ  .

بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت عثمان بن مظعون .

والحديث أخرجه ابن ماجه في “سننه” (1456) ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: ”  قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ “.

والحديث صححه الشيخ الألباني في “صحيح ابن ماجه” (1191) .

ثانيا : ثبت في بعض الأحاديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البكاء ، ففهمه بعض الصحابة أنه نهي عن مطلق البكاء ، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لا يحرم منه إلا ما كان جزعا ، أو تسخطا على قدر الله ، أو ما صاحبه نياحة ونحو ذلك .

ومن الأدلة على ذلك ما يلي :

الحديث الأول :

ما أخرجه أحمد في “مسنده” (21779) ، من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ: ” أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَيْمَةَ ابْنَةِ زَيْنَبَ وَنَفْسُهَا تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى   ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَتَبْكِي ، أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ  .

والحديث صححه الشيخ الألباني في “التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان” (3148) .

الحديث الثاني :

ما أخرجه الترمذي في “سننه” (1005) ، من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: ” أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ البُكَاءِ؟ قَالَ:  لاَ ، وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ ، خَمْشِ وُجُوهٍ ، وَشَقِّ جُيُوبٍ ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ  .

والحديث حسنه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2157) .

فمما سبق يتبين: أن مطلق البكاء عند فراق الأحبة ونحو ذلك لا يحرم ، بل هو رحمة من الله تعالى ، وأن الذي من الشيطان إنما هو النياحة ، ورفع الصوت بالبكاء ، والتسخط على أقدار الله تعالى .

وعلى هذا جماهير أهل العلم سلفا وخلفا .

قال الخطابي في “أعلام الحديث” (1/681) :” وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم واستعباره بالدموع: يدل على أن النهي عن البكاء : إنما وقع عن رفع الصوت به ، والصياح على الميت ، والتأبين بالقول المنكر “. انتهى

وقال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (3/275) :” وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء: فمعناه النياحة عند العلماء “. انتهى

وقال ابن عبد البر في “التمهيد” (19/203) :” وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ ، مَا لَمْ يُخْلَطْ ذَلِكَ بِنَدْبِهِ ، وَبِنِيَاحَةٍ ، وَشَقِّ جَيْبٍ ، وَنَشْرِ شَعْرٍ ، وَخَمْشِ وَجْهٍ “. انتهى.

وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” (15/75) :” قَوْلُهُ ( فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ ) : فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْحُزْنِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخَالِفُ الرِّضَا بِالْقَدَرِ، بَلْ هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ .

وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ : النَّدْبُ وَالنِّيَاحَةُ وَالْوَيْلُ وَالثُّبُورُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا “. انتهى

وقال ابن القيم في “عدة الصابرين” (ص102) :” فهذه اثنا عشرة حجة ، تدل على عدم كراهة البكاء، فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة ” انتهى.

ولأجل ما قدمنا من معنى البكاء المنهي عنه ، والبكاء الذي فيه رخصة وتوسعة ، قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا، الساعاتي، رحمه الله، في الجمع بين الحديث المذكور، وأحاديث الرخصة في البكاء:

” لعله بكى بصراخ وصوت ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

أما البكاء من غير صراخ وصوت : فمن الرحمة ، وهو جائز . ولهذا بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم بغير صوت ، وقال : ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب)، وسن لأمته الحمد والاسترجاع والرضا.

وقد جاء عند ابن سعد ، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج ، مرسلاً ، بسند صحيح : (البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان)” انتهى، من “الفتح الرباني” (21/215).

 والخلاصة:

يحمل حديث معاذ رضي الله عنه ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له : على أنه ربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه الجزع ، وهذا جاء في الرواية أنه بكى جزعا ، أو وربما رفع صوته أثناء البكاء ، وبهذا تجتمع الأدلة كلها .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android