إني سمعت في أحد الدروس لشيخ كبير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه ؛ وهو معاذ، أن لا يبكي ، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: ( لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ لَلْبُكَاءُ ، أَوْ إِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ) فهل هذا الحديث صحيح ؟ وكيف نوفق بين هذا وبين حزن يعقوب عليه السلام حتى أبيضت عيناه من الحزن ؟ و كيف نوفق بين هذا وبين حزن الرسول على موت ابنه إبراهيم ؟
الجمع بين حديث:” لا تبك يا معاذ ، إن البكاء من الشيطان ” ، مع ثبوت بكائه صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم .
السؤال: 305053
ملخص الجواب
يحمل حديث معاذ رضي الله عنه ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له : على أنه ربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه الجزع ، وهذا جاء في الرواية أنه بكى جزعا ، أو وربما رفع صوته أثناء البكاء ، وبهذا تجتمع الأدلة كلها .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
أما الحديث الذي أورده السائل فهو حديث صحيح .
أخرجه أحمد في “مسنده” (22054) ، والطبراني في “المعجم الكبير” (20/121) ، والبزار في “مسنده” (2647) ، من طريق صفوان بن عمرو ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : ” أَنَّهُ لَمَّا بَعَثَهُ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: يَا مُعَاذُ ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي ، وَلَعَلَّكَ أَنَّ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي ، فَبَكَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ جَزَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ .
وإسناده صحيح ، رجاله ثقات .
قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (9/22) :” رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادَيْنِ .. وَرِجَالُ الْإِسْنَادَيْنِ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ ، وَعَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، وَهُمَا ثِقَتَانِ “. انتهى ، وصححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2497). وصححه أيضا: الشيخ مقبل الوادعي، كما في “الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين “(1108)، وقال محققو مسند أحمد ، ط الرسالة : “إسناده صحيح” .
ثانيا:
الحديث يدل بظاهره على النهي عن البكاء ، إلا أنه بعد جمع الأدلة الواردة في المسألة يتبين أن مطلق البكاء عند فقد الأحبة : لا يحرم ، وإنما المحرم البكاء مع رفع الصوت ، وكذلك النياحة ، وما صاحبه من تسخط على أقدار الله .
وبيان ذلك كما يلي :
أولا : جاءت الأحاديث الصحيحة التي تدل على بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند فقده أحبته ، ومن ذلك :
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم عليه السلام .
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1303) ، ومسلم في “صحيحه” (2315) ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: ” دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ ، فَقَبَّلَهُ ، وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ .
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت ابن بنته زينب رضي الله عنها .
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1284) ، من حديث أسامة بن زيد ، قال : ” أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ ، فَأْتِنَا ، فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلَهُ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ ، وَلْتَحْتَسِبْ ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمَعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ – قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ كَأَنَّهَا شَنٌّ – فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ .
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند علمه باستشهاد جعفر وزيد وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم .
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (2798) ، من حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ ، وَقَالَ: مَا يَسُرُّنَا أَنَّهُمْ عِنْدَنَا ، قَالَ أَيُّوبُ أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ .
بكاؤه صلى الله عليه وسلم عند موت عثمان بن مظعون .
والحديث أخرجه ابن ماجه في “سننه” (1456) ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ: ” قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى دُمُوعِهِ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ “.
والحديث صححه الشيخ الألباني في “صحيح ابن ماجه” (1191) .
ثانيا : ثبت في بعض الأحاديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البكاء ، ففهمه بعض الصحابة أنه نهي عن مطلق البكاء ، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لا يحرم منه إلا ما كان جزعا ، أو تسخطا على قدر الله ، أو ما صاحبه نياحة ونحو ذلك .
ومن الأدلة على ذلك ما يلي :
الحديث الأول :
ما أخرجه أحمد في “مسنده” (21779) ، من حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ: ” أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَيْمَةَ ابْنَةِ زَيْنَبَ وَنَفْسُهَا تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى ، وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَتَبْكِي ، أَوَلَمْ تَنْهَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ .
والحديث صححه الشيخ الألباني في “التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان” (3148) .
الحديث الثاني :
ما أخرجه الترمذي في “سننه” (1005) ، من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: ” أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ البُكَاءِ؟ قَالَ: لاَ ، وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ ، خَمْشِ وُجُوهٍ ، وَشَقِّ جُيُوبٍ ، وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ .
والحديث حسنه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (2157) .
فمما سبق يتبين: أن مطلق البكاء عند فراق الأحبة ونحو ذلك لا يحرم ، بل هو رحمة من الله تعالى ، وأن الذي من الشيطان إنما هو النياحة ، ورفع الصوت بالبكاء ، والتسخط على أقدار الله تعالى .
وعلى هذا جماهير أهل العلم سلفا وخلفا .
قال الخطابي في “أعلام الحديث” (1/681) :” وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم واستعباره بالدموع: يدل على أن النهي عن البكاء : إنما وقع عن رفع الصوت به ، والصياح على الميت ، والتأبين بالقول المنكر “. انتهى
وقال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (3/275) :” وكل حديث أتى فيه النهى عن البكاء: فمعناه النياحة عند العلماء “. انتهى
وقال ابن عبد البر في “التمهيد” (19/203) :” وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ ، مَا لَمْ يُخْلَطْ ذَلِكَ بِنَدْبِهِ ، وَبِنِيَاحَةٍ ، وَشَقِّ جَيْبٍ ، وَنَشْرِ شَعْرٍ ، وَخَمْشِ وَجْهٍ “. انتهى.
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” (15/75) :” قَوْلُهُ ( فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى آخِرِهِ ) : فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْحُزْنِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخَالِفُ الرِّضَا بِالْقَدَرِ، بَلْ هِيَ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ .
وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ : النَّدْبُ وَالنِّيَاحَةُ وَالْوَيْلُ وَالثُّبُورُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا “. انتهى
وقال ابن القيم في “عدة الصابرين” (ص102) :” فهذه اثنا عشرة حجة ، تدل على عدم كراهة البكاء، فتعين حمل أحاديث النهى على البكاء الذى معه ندب ونياحة ” انتهى.
ولأجل ما قدمنا من معنى البكاء المنهي عنه ، والبكاء الذي فيه رخصة وتوسعة ، قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن البنا، الساعاتي، رحمه الله، في الجمع بين الحديث المذكور، وأحاديث الرخصة في البكاء:
” لعله بكى بصراخ وصوت ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
أما البكاء من غير صراخ وصوت : فمن الرحمة ، وهو جائز . ولهذا بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم بغير صوت ، وقال : ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب)، وسن لأمته الحمد والاسترجاع والرضا.
وقد جاء عند ابن سعد ، عن بُكير بن عبد الله بن الأشج ، مرسلاً ، بسند صحيح : (البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان)” انتهى، من “الفتح الرباني” (21/215).
والخلاصة:
يحمل حديث معاذ رضي الله عنه ، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم له : على أنه ربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في بكائه الجزع ، وهذا جاء في الرواية أنه بكى جزعا ، أو وربما رفع صوته أثناء البكاء ، وبهذا تجتمع الأدلة كلها .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب