أحد أصدقائي سألني عن حكم حد الردة في الإسلام ، فقلت له : إن المرتد في الإسلام له حكمان ، إن ارتد ولم يحارب الإسلام هذا لا حساب عليه ، وجئت بأدلة من القرآن والسنة سأكتفي بدليل واحد . أما القرآن : قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )المائدة/54 فنلاحظ في الآية الكريمة أنه لم يقل سنقتله ، بل قال : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه . وأما السنة : فالأعرابي الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فبايعه ، ثم أصابه وعك في المدينة فارتد عن الاسلام ، ولم يقتله النبي ، بل نهاه عن الارتداد ، والحديث في البخاري ومسلم . أما الصنف الآخر الذي ارتد عن الإسلام وحارب الإسلام فإنه يستتاب ثلاثة أيام إلى عدة أشهر ، فإن لم يتب يقتل . والأدلة قال تعالى : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا )المائدة /33 . ومن السنة : حينما ارتد عبد الله بن أبي سراح وذهب ليهجو النبي ويحارب الدين ، ماذا فعل النبي النبي أمر باحضاره ، واستتابته ، ثم قتله، وحينما تنبأ الرسول الكريم بحروب الردة ، قال في سورة الفتح : (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) ، فنلاحظ أنه قال : تقاتلونهم ، ولم يقل تقتلونهم ؛ لأن القتال يأتي من المقاتلة على وزن المفاعلة ، أي هناك ردا لحرب أو عدوان ، سوءا كان بالسيف ، أو بمنع الناس من الزكاة ، أو نشر شبهات ، وفي جهاد الطلب نذهب إلى بلد ما وندعوا حاكمها إلى الاسلام ، ونشر الدين في بلاده ، فإن حارب الدين ، ولم يسمح لنا بإيصال الدعوة للناس يقاتل ؛ لأنه حارب الدين ، ومنع الدعوة من أن تصل إلى الناس ، فرجعت إلى موقعكم ، ووجدت أن المرتد يقتل في أي حال ، فأريد أن أعرف هل أنا مخطئ ؟ وجوابي فيه أدلة من الوحيين ، ولم يثبت أن النبي قتل مرتدا لردته أبدا ، ولم أجد في ذلك إلا الضعيف في هذه المسئلة مهمة لي ، ولماذا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن خطل بينما لم يقتل الأعرابي الذي خرج من الإسلام ؟
هل هناك فرق في الحكم بين المرتد المحارب وغير المحارب ؟ ولماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي قال أقلني بيعتي ؟
السؤال: 307788
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
مما ينبغي أن يعلم : أن التكلم في دين الله تعالى أمر عظيم شأنه ، لا يجوز أن يقدم عليه إلا أهل العلم المتحققين به ، المتخصصين فيه ، وليس الأمر في الشريعة بما يراه الناس ، وإنما بما جاء به الشرع .
وما جاء في السؤال من التفريق في حكم المرتد بين كونه محاربا وغير محارب: لم يقل به أحد من أهل العلم ، وهو أيضا ، قول باطل في نفسه ، لما يلي :
أولا : أن قضية قتل المرتد جاءت في الشريعة في غاية الوضوح ، وعليها أدلة صحيحة صريحة لا تأويل فيها ، وعليها عمل الصحابة ، وحكى فيها أهل العلم الإجماع عليها .
ومن هذه الأدلة:
ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (3017) ، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ .
وكذلك منها ما أخرجه البخاري في “صحيحه” (6878) ، ومسلم في “صحيحه” (1676) ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ .
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن وجد رجلا كان يهوديا فأسلم ثم ارتد فقتله معاذ قائلا :” قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ” .
والحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (6923) ، ومسلم في “صحيحه” (1733) ، من حديث أَبِي مُوسَى ، قَالَ: ” أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعِي رَجُلاَنِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ ، فَكِلاَهُمَا سَأَلَ ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى ، أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: قُلْتُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا ، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ العَمَلَ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ ، فَقَالَ: لَنْ ، أَوْ: لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى ، أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ ، إِلَى اليَمَنِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً ، قَالَ: انْزِلْ ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ ، قَالَ: اجْلِسْ ، قَالَ: لاَ أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ “.
وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على قتل المرتد إن كان رجلا ، وإنما اختلفوا في استتابته ، وكذلك إن كان المرتد امرأة ، ولم يفرق أحد من أهل العلم في حكم قتل المرتد بين كونه محاربا أم لا .
قال ابن عبد البرفي “التمهيد” (5/306) :” مَنِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ: حَلَّ دَمُهُ ، وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، وَالْأُمَّةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ ” انتهى .
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم” (12/208) :” ( ثُمَّ ارْتَدَّ ، فَقَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ ) : فِيهِ وُجُوبُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِتَابَتِهِ: هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ ، أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ وَفِي قَدْرِهَا ، وَفِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ “. انتهى
وقال ابن قدامة في “المغني” (9/3) :” وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَمُعَاذٍ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدٍ ، وَغَيْرِهِمْ ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ” انتهى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (277442)
ثانيا :
أما ما ذكر في السؤال ، من أن الله تعالى لم يذكر في آية المائدة حكم قتل المرتد ، فيقال في جوابه:
إن عدم الذكر هنا ، ليس دليلا على عدم قتل المرتد ؛ فإن الله تعالى ذكر المرتد في موضعين من كتابه، بأسلوب الشرط والجزاء ، وغاير في جواب الشرط ، لاختلاف الغرض الذي لأجله جاء أسلوب الشرط .
ففي الآية الأولى قال الله : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ البقرة/217.
وهنا ذكر أن من ارتد حبط عمله في الدنيا والآخرة ، وهو في النار من الخالدين .
وفي الآية الأخرى قال الله : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المائدة/54.
فقد اختلف جواب الشرط في الآية الثانية عن الآية الأولى، لاختلاف الغرض الذي لأجله جاءت الآية.
ففي آية سورة البقرة كان جواب الشرط عن حكم أعمالهم ، وأنها حبطت وفسدت وردت عليهم في الدنيا ، وفي الآخرة هم خالدون في جهنم .
وفي آية سورة المائدة كان جواب الشرط إخبارا عن حدث سيأتي ، وهو أن نفرا ممن أسلموا سيرتدون عن دين الله ، وحينئذ سوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه .
فليس في الآية دليل على انتفاء حكم القتل للمرتد قطعا .
وهذا كما في قوله تعالى : إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ الزمر/7.
مع قوله تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ إبراهيم/7.
فاختلف جواب الشرط في الآيتين، لاختلاف الغرض الذي لأجله سيقت الآية له .
ثالثا:
وأما الحديث الذي أورده السائل مستدلا به على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل الأعرابي الذي ارتد : فهو أيضا لا يصح الاستدلال به ، فليس في الحديث ذكر أن هذا الأعرابي قد ارتد عن الإسلام، وإنما المراد أن الأعرابي بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، وعلى الهجرة ، بحيث يبقى في المدينة ، وكان هذا واجبا في بادئ الأمر ، فلما سكن الأعرابي المدينة : مَرِض ، فأراد أن يعود في هجرته ، ويرجع إلى موطنه ، وليس أن يعود إلى الكفر ، ولذا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ، فلما لما يأذن له ، خرج من المدينة هاربا .
وليس في الحديث أنه ارتد .
وهذا نص الحديث ، حيث أخرجه البخاري في “صحيحه” (1883) ، ومسلم في “صحيحه” (1383) ، من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ” أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ ، فَأَصَابَهُ وَعْكٌ ، فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي ، فَأَبَى ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي ، فَأَبَى ، فَخَرَجَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المَدِينَةُ كَالكِيرِ ، تَنْفِي خَبَثَهَا ، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا .
وهذه أقوال أهل العلم في أن الأعرابي لم يرتد ، وإنما أراد أن يترك المقام في المدينة .
قال المازري في “المعلم بفوائد مسلم” (2/121) :” وقول الأعرابي: ( أقِلْنِي بَيْعَتِي )، يريد: أقلني ما بايعتك عليه من البقاء بالمدينة ” انتهى .
وقال الطحاوي في “شرح مشكل الآثار” (4/427) :” وكان الْوَاجِبُ على الْمُتَبَايِعِينَ على الْهِجْرَةِ، الإِقَامَةَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ ، في حَيَاةِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ ، حتى يَصْرِفَهُمْ هو في حَيَاتِهِ ، ثُمَّ خُلَفَاؤُهُ رضوان الله عليهم من بَعْدِهِ ، فِيمَا يَصْرِفُونَهُمْ فيه ، من غَزْوِ من بَقِيَ على الْكُفْرِ، وَمِنْ حِفْظِ ما عَسَى أَنْ يَفْتَتِحُوهُ من بُلْدَانِ أَهْلِهِ .
وكان رُجُوعُهُمْ إلَى دَارِ أَعْرَابِيَّتِهِمْ : حَرَامًا عليهم، لأَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ عن الْهِجْرَةِ إلَى الأَعْرَابِيَّةِ ، وَمَنْ عَادَ كَذَلِكَ: كان مَلْعُونًا على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .. ” انتهى.
وقال ابن عبد البر في “التمهيد” (12/228) :” وَهَذَا الْأَعْرَابِيُّ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ: كَانَ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ : مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُقَامِ بِدَارِ الْهِجْرَةِ ، فَمِنْ هُنَا أَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِقَالَةِ بَيْعَتِهِ .
وَفِي إِبَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِقَالَةِ الْبَيْعَةِ : دليل على أن من الْعُقُودِ عُقُودًا ، إِلَى الْمَرْءِ عَقْدُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ حَلُّهَا وَلَا نَقْضُهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَقْدًا يَجِبُ عَقْدُهُ ، وَلَا يَحِلُّ نَقْضُهُ ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ فَسْخُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَانَ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ ، فَلَيْسَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فِي النَّقْضِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لِلْإِنْسَانِ عَقْدُهُ ، لَهُ فَسْخُهُ .
وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُقِيله بَيْعَتَهُ ، لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ مُفْتَرَضَةً يَوْمَئِذٍ ، كَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبِيحَ لَهُ شَيْئًا حَظَرَتْهُ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ ، إِذَا دَخَلَ فِيهَا ، وَلَزِمَتْهُ أَحْكَامُهَا ، إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ : فَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لِأَنَّ الْوَحْيَ بَعْدَهُ قَدِ انْقَطَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” انتهى.
وقال ابن العربي في “المسالك في شرح موطأ مالك” (7/175) :” هذا الأعرابيُّ كانت بيعتُهُ لرسول الله – صلّى الله عليه وسلم – والهجرة لوَطَنِهِ والمقام مَعَهُ .
وهذا نوعٌ من البيعات الّتي كان رسول الله – صلّى الله عليه وسلم – يأخذُها على النَّاس ، وكان على النَّاس في ذلك الوقت ، فرضًا ، إذا أسلموا : أنّ ينتقلوا إلى المدينة ؛ إذ لم يكن للإسلام في ذلك الوقت دارٌ غيرها ، ويقيموا معه ، ليصرفهم فيما يحتاج إليه من غزو الكفار ، وحفظ المدينة ممّن أراد بهم سوءًا ، إلى غير ذلك من المعاني .
وهذا الأعرابيُّ كان ممّن بايع رسولَ الله – صلّى الله عليه وسلم – على المُقَامِ بالمدينةِ ، فلمّا لحِقَه من الوَعكِ ما لَحِقَه ، أراد الخروجَ عنها إلى وطنه ، ولم يكن – والله أعلمُ- ممّن رسَخَ الإِسلامُ والإيمانُ في قلبه ، بل كان من الذين قال الله فيهم: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ” انتهى.
وقال ابن بطال في “شرح صحيح البخاري” (8/278) :” إنما لم يُقِله النبى صلى الله عليه وسلم، لأن الهجرة كانت فرضًا ، وكان ارتدادهم عنها من أكبر الكبائر ، ولذلك دعا لهم النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: اللهم أَمْضِ لأصحابى هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم .
وفى هذا من الفقه : أنه من عقد على نفسه أو على غيره ، عقدًا لله : فلا يجوز له حله ؛ لأن في حَله خروجًا إلى معصية الله ، وقد أمر الله بوفاء العقود ” انتهى .
وقال ابن حجر في “فتح الباري” (13/200) :” قَالَ ابن التِّينِ : إِنَّمَا امْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِقَالَتِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، لِأَنَّ الْبَيْعَةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَانَتْ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَّا بِإِذْنٍ ، فَخُرُوجُهُ عِصْيَانٌ .
قَالَ : وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَرْضًا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ مُوَالَاةٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ من شَيْء حَتَّى يهاجروا ) ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ .
فَفِي هَذَا إِشْعَارٌ: بِأَنَّ مُبَايَعَةَ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْح ” انتهى.
فتبين بذلك أن الأعرابي لم يرتد عن الإسلام ، ولم يأت أمرا يَحِل به دمه ، وإنما أتى كبيرة من الكبائر، وهي الرجوع عن هجرته إلى دار الهجرة ، مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، ونقض عهده للنبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى داره .
رابعا : وأما قولك أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مرتدا ، ولذا لا يثبت حكم قتل المرتد فهو خطأ أيضا ، وذلك من وجهين :
الوجه الأول : أنه قد ثبت حكم المرتد بأنه يقتل بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يشترط للدلالة عليه مع القول ثبوت فعله صلى الله عليه وسلم ، حيث إن دلالة القول تكفي لإثبات الحكم ، بل هي أقوى في الدلالة على الحكم من الفعل عند كثير من أهل العلم .
قال المرداوي في “التحبير شرح التحرير” (6/2813) :” التَّحْقِيق: أَن القَوْل أقوى فِي الدّلَالَة على الحكم ، وَالْفِعْل أدل على الْكَيْفِيَّة ” انتهى .
الوجه الثاني : أنه قد ثبت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل وابن أبي السرح ، والعلة الأصلية في قتله إنما كانت ردته ؛ لكنه لم يستتبه لما زاد ابن خطل ، فوق ردته ، من السب وهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
قال النووي في “شرح صحيح مسلم” (9/131) :” قوله (جاءه رجل فقال بن خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ اقْتُلُوهُ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ ارْتَدَّ عن الاسلام ، وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدُمُهُ ، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسُبُّهُ ، وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ” انتهى.
ومما سبق: يتبين أن حكم قتل المرتد ثابت بالسنة الصحيحة ، وعليه إجماع الأمة ، وأن ما أورده السائل من شبهات على التفريق بين المرتد المحارب، وغير المحارب: كلها لا تصح ، والله أعلم .
ويمكنك مراجعة أجوبة هذه الأسئلة :(277442) ، (234071) ، (14231) ، فسوف تجد فيها مزيد إيضاح إن شاء الله .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة