تنزيل
0 / 0

هل جملة (لو أن لابن آدم واديان…) كانت آية من القرآن؟

السؤال: 308757

أرجو الجواب بدقة حول حديث عن عمر رضي الله عنه أثناء خلافته وهو: "جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه يسأله، فجعل عمر ينظر إلى رأسه مرة، وإلى رجليه أخرى، هل يرى عليه من البؤس، ثم قال له عمر: كم مالك؟ قال: أربعون من الإبل، قال ابن عباس: قلت صدق الله ورسوله، لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، فقال عمر: ما هذا؟ قلت: هكذا أقرأنيها أبي، قال: فمر بنا إليه، قال: فجاء إلى أبي، فقال عمر: ما يقول هذا؟ قال أبي: هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أفأثبتها في المصحف؟ قال: نعم". السؤال الذي وجدته في منتديات النصارى والشيعة هو: أين هي الآية الآن مادام تم تثبيتها في المصحف، وفي عهد الخليفة عمر، أي بعد وفاة النبي عليه السلام حيث لم يعد هناك نسخ؟ ثم كيف يبقى القرآن ناقصا في عهد أبي بكر رضي الله عنه حتى جاء عهد عمر، وتم تثبيت الآية؟ كيف أن كل المسلمين لم يعرفوها، فقط شخص أو اثنان هما من يعرفانها، علما أن القران أبلغه الرسول عليه السلام للناس بشكل علني، وجماعي، وينتشر بينهم في حينه؟

ملخص الجواب

الصحابة جميعا مجمعون على المصحف الذي بين أيدينا، وهو المصحف العثماني، بما فيهم أبي بن كعب رضي الله عنه، وكل ما ورد من قراءات شاذة تخالف الرسم العثماني فهي ليست من القرآن، وهذا بإجماع الصحابة قاطبة، وذلك تصديق حفظ الله لكتابه المنزل.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

إن الله تكفل بحفظ كتابه، فنقلته الأمة من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، كما أنزله الله، دون زيادة أو نقصان.

ولا يزال أعداء الإسلام يلقون الشبهات حول القرآن وجمعه، حتى يتشكك ضعاف الإيمان في أصل الديانة، وهو كتاب الله، فلا يبقى لهم بعدُ من إسلامهم شيئا.

والشبهة تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، لكنها متهافتة زائلة، ما أن يأتيها الحق حتى يسحقها ويدمغها.

وحتى يتضح الأمر، ويزول الإشكال فيما أورده السائل، يكون الجواب في النقاط التالية:

النقطة الأولى:

نزل القرآن على سبعة أحرف، وكانت الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يشاء الله أن ينسخ بعض الآيات، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، فيحفظونه ويكتبونه، وربما علم بعضهم بما نُسخ، وبعضهم لم يعلم.

وكانت الأحرف السبعة رخصة وتيسيرا على الأمة، وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن كل عام مرة، فلما كانت تلك السنة التي توفي فيها النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين، وكانت تلك هي العرضة الأخيرة، والتي كان فيها ما استقر عليه كتاب الله دون المنسوخ منه.

وهذه العرضة شهدها زيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

فقد روى أحمد في "مسنده" (3422)، من طريق الأعمش، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:" أَيُّ الْقِرَاءَتَيْنِ تَعُدُّونَ أَوَّلَ؟ قَالُوا: قِرَاءَةَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَا، بَلْ هِيَ الْآخِرَةُ، كَانَ يُعْرَضُ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، فَشَهِدَهُ عَبْدُ اللهِ، فَعَلِمَ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَمَا بُدِّلَ".

وإسناده صحيح. صححه ابن حجر في " فتح البار"(9/44) .

وقال البغوي في "شرح السنة" (4/525):" قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: قَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الَّذِي تَوَفَّاهُ اللَّهُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ قِرَاءَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، لأَنَّهُ كَتَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، وَشَهِدَ الْعَرْضَةَ الأَخِيرَةَ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ، وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمْعِهِ، وَوَلاهُ عُثْمَانُ كِتْبَةَ الْمَصَاحِفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ".

وبقي بعض الصحابة ممن لم تبلغهم العرضة الأخيرة يحفظون عن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات المنسوخة تلاوة، ويقرأون ببعض الحروف السبعة، ولم يمنعهم الصديق ولا عمر الفاروق من ذلك.

النقطة الثانية: مرَّ جمع القرآن بمرحلتين، الأولى كانت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، خشية ضياع القرآن بعد وقعة اليمامة، واستشهاد كثير من حفظة القرآن.

ثم كانت المرحلة الثانية والجمع الثاني أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت خشية افتراق الأمة في كتاب الله، حيث بقي بعض الصحابة يقرأ ببعض الأحرف السبعة، وربما تلا بعض الآيات التي لم يبلغه نسخها، فاستشار عثمان الصحابة فاتفقوا جميعا على كتابة المصحف على العرضة الأخيرة دون ما سواها، فكان إجماعا منهم على ذلك دون مخالف.

وقد أخرج أبو بكر بن أبي داود في "المصاحف" (ص96)، بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَغْلُوا فِي عُثْمَانَ وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا فِي الْمَصَاحِفِ وَإِحْرَاقِ الْمَصَاحِفِ، فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا جَمِيعًا، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ، وَهَذَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، قُلْنَا: فَمَا تَرَى؟ قَالَ: نَرَى أَنْ نَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ، فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافٌ، قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ قَالَ: فَقِيلَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْصَحُ، وَأَيُّ النَّاسِ أَقْرَأُ؟ قَالُوا: أَفْصَحُ النَّاسِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَقْرَأُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لِيَكْتُبْ أَحَدُهُمَا وَيُمْل الْآخَرُ. فَفَعَلَا وَجُمِعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ ". قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ لَوْ وُلِّيتُ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ".

وإسناده صحيح، صححه ابن حجر في "فتح الباري" (9/18).

وقد كان كتابة المصاحف على العرضة الأخيرة باتفاق الصحابة بما فيهم أبي بن كعب رضي الله عنه، والذي ورد ذكره في محل السؤال.

فقد روى ابن أبي داود في المصاحف (ص104) بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال:" كَانَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ حَتَّى يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: كَفَرْتُ بِمَا تَقُولُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَجَمَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرَّبْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي بَيْتِ عُمَرَ فِيهَا الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُهُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ أَفْلَحَ، أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لَهُمْ فَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَّرُوهُ، فَسَأَلْتُ: لِمَ تُؤَخِّرُونَهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي قَالَ مُحَمَّدٌ فَظَنَنْتُ فِيهِ ظَنًّا، فَلَا تَجْعَلُوهُ أَنْتُمْ يَقِينًا، ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ أَخَّرُوهُ حَتَّى يَنْظُرُوا آخِرَهُمْ عَهْدًا بِالْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ، فَيَكْتُبُوهُ عَلَى قَوْلِهِ".

قال ابن الجزري في "منجد المقرئين" (ص23):" أجمع الصحابة على كتابة القرآن العظيم على العرضة الأخيرة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عام قبض، وعلى ما أنزل الله تعالى دون ما أذن فيه، وعلى ما صح مستفاضا عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، إذ لم تكن الأحرف السبعة واجبة على الأمة، وإنما كان ذلك جائزا لهم مرخصا فيه، وقد جعل إليهم الاختيار في أي حرف اختاروه. قالوا: فلما رأى الصحابة أن الأمة تتفرق وتختلف وتتقاتل إذا لم يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل محظور. قلت: فكتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واستفاض دون ما كان قبل ذلك مما كان بطريق الشذوذ والآحاد من زيادة، وإبدال وتقديم وتأخير وغير ذلك، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة كالإمالة والتفخيم والإدغام والهمز والحركات وأضداد ذلك مما هو في باقي الأحرف السبعة غير لغة قريش، وكالغيب والجمع والتثنية، وغير ذلك من أضداده مما تحتمله العرضة الأخيرة، إذ هو موجودة في لغة قريش وفي غيرها، ووجهوا بها إلى الأمصار، فأجمع الناس عليها " انتهى.

وقال شيخ الإسلام في "الصارم المسلول" (ص126):" وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمرا معتادا، ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل رمضان، وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم، وهو الذي جمع عثمان والصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس " انتهى.

النقطة الثالثة:

وهي عن المسألة الواردة في السؤال، فجوابها تفريعا على ما سبق:

أن هذا الحديث: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ .

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله، ونقله الصحابة كونه قولا له عليه الصلاة والسلام، وهذا ثابت بلا نزاع.

وقد رُوي عن جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.

أخرجه البخاري في "صحيحه" (6436)، من حديث ابن عباس، وفي "صحيحه" أيضا (6438)، من حديث الزبير، ومسلم في "صحيحه" (1048) من حديث أنس، كلهم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنما الخلاف في أصله، هل كان آية ثم نسخت تلاوتها، وهذا قول الجمهور من أهل العلم، أم كان حديثا قدسيا، أم هو قول للنبي صلى الله عليه وسلم من أصل الأمر، ظنه بعض الصحابة آية ثم تبين لهم خلاف ذلك، مع إجماعهم على كونها ليست من كتاب الله المحفوظ، والمكتوب بإجماع الصحابة بما فيهم أبي بن كعب رضي الله عنه.

والذي أدى للخلاف بين أهل العلم في هذه المسألة اختلاف الروايات الواردة فيها، فقد جاءت بعض الروايات تدل على كونها آية كانت تتلى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخت، وبعض الروايات تدل على تردد بعض الصحابة في ماهيتها، وبعض الروايات تدل احتمالا على كونها حديثا قدسيا، وبيان هذه الروايات كما يلي:

أولا الروايات التي تدل على كونها كانت آية تتلى ثم نسخت:

رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:

أخرجها مسلم في "صحيحه" (1050)، من طريق أبي الأسود، قَالَ: " بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً، كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً، كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ، فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ، فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

قال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/93):" وقوله: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها. وهذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على ما نقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، والثاني: عكسه، وهو: نسخ التلاوة وبقاء الحكم، والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى، فإنهما رُفِعَ حُكمَهُما وتلاوتُهما. وهذا النحو من النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: مَا نَنسَخ مِن آيَةٍ أَو نُنسِهَا ؛ على قراءة من قرأها بضم النون، وكسر السين. وكذلك قوله تعالى: سَنُقرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وهاتان السورتان مما قد شاء الله تعالى أن يُنسِيَه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء ؛ إذ كل ذلك ممكن.

ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء، فإن ذلك باطل ؛ بدليل قوله تعالى: إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف، من غير زيادة ولا نقصان، كما قررناه في أصول الفقه " انتهى.

رواية زيد بن أرقم رضي الله عنه:

أخرجها أحمد في "مسنده" (19280)، والطبراني في "المعجم الكبير" (5/184)، من طريق يُوسُف بْن صُهَيْبٍ، قال ثنا حَبِيبُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ:  "كُنَّا نَقْرَأُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ لَتَمَنَّى الثَّالِثُ، وَلَا يَمْلَأُ بَطْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ.

وإسناده صحيح، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2910).

رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه:

أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (588)، من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنا نقرأ " لو أن لابن آدم مِلء واد مالا، لأحب إليه مثله، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".

وإسناده صحيح، وقد صرح ابن جريج وأبو الزبير بالتحديث.

رواية بريدة بن الحصيب رضي الله عنه:

أخرجه الروياني في "مسنده" (44)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (5/276)، والبزار في "مسنده" (4433)، من طريق صبيح أبي العلاء، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ:  لَوْ أُعْطِيَ ابْنُ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ  .

والحديث ضعيف، فيه " صبيح أبو العلاء "، قال فيه البخاري كما في "المؤتلف والمختلف" للدارقطني (2/99):" في هذا الشيخ نظر " انتهى، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان ذكره في "الثقات" (3438).

ومع ذلك حسنه السخاوي في "الأجوبة المرضية" (1/181)، وجود إسناده الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2911).

وأما الروايات التي تدل على تردد بعض الصحابة في كونها آية أم لا، فقد ورد ذلك عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما:

أما رواية ابن عباس فأخرجها البخاري في "صحيحه" (6437)، ومسلم في "صحيحه" (1049)، من حديث عبد الله بن عباس قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالًا لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلاَ يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:" فَلاَ أَدْرِي مِنَ القُرْآنِ هُوَ أَمْ لاَ ".

وأما رواية أنس، فأخرجها مسلم في "صحيحه" (1048)، من حديث أنس، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ  ، قال أنس:" فَلَا أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ ".

وأما الروايات التي تدل احتمالا على كونها حديثا قدسيا، فمنها ما أخرجه أحمد في "مسنده" (21906)، والطبراني في "المعجم الكبير" (3/247)، من طريق زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَيُحَدِّثُنَا فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّ اللهَ قَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ، لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ .

والحديث حسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1639).

قال ابن حجر في "فتح الباري" (11/258):" وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ مِمَّا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ جَزْمًا وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ مُسْتَمِرًّا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الِاحْتِمَالَ مَا أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى قَالَ قَرَأْتُ سُورَةً نَحْوَ بَرَاءَةٌ فَغِبْتُ وَحَفِظْتُ مِنْهَا وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا ". انتهى.

فمما سبق يتبين صحة الآثار التي تدل على كونها كانت آية تتلى، ثم نُسخت.

وأما تردد بعض الصحابة فيها، فلكون سورة التكاثر من السور المكية، وهي التي قطعت الاحتمال بعد نزولها عند من تردد في كونها آية، فالظاهر أنه خفي على بعضهم كونها كانت آية من كتاب الله ثم نُسخت.

قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" (4/442):" قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ . فَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ .

وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مَلِيحٌ غَابَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، فَجَهِلُوا وَجَهَّلُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ ". انتهى.

أما أُبي بن كعب رضي الله عنه، فقد قدمنا أنه كان من الجمع الذين اختارهم عثمان رضي الله عنه لكتابة المصحف، وكُتب على ما نُقل بموافقته، لكن جاءت عنه بعض الروايات بخصوص الآية، يظن الظان أنها تعارض ما نقله الصحابة لكتاب الله، وليس الأمر كذلك، وبيانه كما يلي:

هناك روايتان تصلحان للحجة، لكن إحداهما صريحة في كون أُبي بن كعب تلقاها من النبي صلى الله عليه وسلم على أنها قرآن، والأخرى غير صريحة.

أما الأولى:

 أخرجها الترمذي في "سننه" (3793)، والحاكم في "المستدرك" (3962)، من طريق شُعْبَة، عَنْ عَاصِمٍ، قَال: سَمِعْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:( إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ لاَ الْيَهُودِيَّةُ، وَلاَ النَّصْرَانِيَّةُ، مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: وَلَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانِيًا لاَبْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ ).

وإسنادها حسن لأجل عاصم بن أبي النجود، وجود إسنادها ابن حجر في "فتح الباري" (11/257)، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2908).

وأما الثانية:

فأخرجها البخاري في "صحيحه" (6440)، والطبري في "تفسيره" (24/599)، واللفظ له، من طريق أنس، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ:  "كُنَّا نَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْقُرْآنِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ، لَتَمَنَّى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ إِلَى آخِرِهَا ).

وقد اختلف أهل العلم في تفسير قول أُبي بن كعب رضي الله عنه، فمنهم من يرى أنهم كانوا يعتقدونه من القرآن، ثم نُسخ بنزول سورة التكاثر.

ومنهم من يرى أن الأمر قد اشتبه عليهم ابتداء في هذا الحديث: هل هو من القرآن أم لا، حتى نزلت سورة التكاثر، فعلموا أنه لم يكن قرآنا.

قال ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/67):" وَهَذَا الحَدِيث: مِمَّا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن، ثمَّ نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، وَهَذَا معنى قَول أبي: كُنَّا نرى هَذَا من الْقُرْآن. وَقَوله حَتَّى نزلت: أَلْهَاكُم التكاثر أَي أَنَّهَا أَثْبَتَت هَذَا الْمَعْنى ". انتهى.

وقال ابن حجر في "فتح الباري" (11/257):" قَوْلُهُ كُنَّا نُرَى، بِضَمِّ النُّونِ أَوَّله؛ أَيْ نَظُنُّ، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا؛ مِنَ الرَّأْيِ، أَيْ: نَعْتَقِدُ…

وَوَجْهُ ظَنِّهِمْ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْقُرْآنِ: مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ ذَمِّ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ وَالتَّقْرِيعِ بِالْمَوْتِ الَّذِي يَقْطَعُ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ؛ عَلِمُوا أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ شَرَحَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا، وَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لَمَّا نَزَلَتْ: ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ) ؛ فَاسْتَمَرَّتْ تِلَاوَتُهَا، فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِتِلَاوَةِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فِيهِ وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُنْسَخْ، إِذْ نَسْخُ التِّلَاوَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، كَنَسْخِ الْحُكْمِ.

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ.

قُلْتُ يُؤَيِّدُ مَا رَدَّهُ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَقَرَأَ عَلَيْهِ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ أُبَيٍّ الْمَذْكُورِ آنِفًا: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُبَيٌّ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكُنْ، وَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي آخِرِ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، احْتَمَلَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ بَقِيَّةَ السُّورَةِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ أَنْ يَسْتَفْصِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، حَتَّى نزلت الهاكم التكاثر، فانتفى الِاحْتِمَالُ ". انتهى.

وقال الشيخ زكريا الأنصاري في "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" (9/435):" ( كنا نرى) أي: نعتقد ( هذا ) أي: الحديث ( حتى نزلت أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) أي: السورة التي هي متضمنة معنى الحديث، في ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال، والتقريع بالموت، فلما نزلت هذه السورة، وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه: علموا أن الحديث من كلامه صلى اللَّه عليه وسلم، وأنه ليس قرآنًا، وبذلك علم أن الآية ليست ناسخة له ؛ لأن شرط النسخ التعارض، ولا تعارض ". انتهى.

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في "النظر الفسيح عند مضائق الأنظار في الجامع الصحيح" (ص244):" وقوله: كنا نرى إن ذلك صريح في أنهم ظنوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولم يكن حاصلًا لهم بخبر، ولا بما يقوم مقامه من قراءته مع القرآن في الصلاة أو نحو ذلك، ويحتمل أنهم ظنوا ذلك ؛ لأنهم سمعوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يُكثر من ذكرها حتى إن عبد الله بن عباس – وهو من صغار الأصحاب، ولم يكن كثير الملازمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – لصغره – حدَّث أنه سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فيظهر أن تكرر سماعهم ذلك من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع عدم وجود ما هو بمعناه في القرآن؛ أوجب ظنهم أنه من القرآن.

وقوله:« حتى نزلت أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ » غاية لقوله: ( نَرَى )، أي فعند نزولها زال ذلك الظن، وثبت أن ما ظنوه قرآنًا ليس من القرآن.

ولعل وجه ذلك أنهم لما سمعوا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ : أدركوا بلوغ تلك الآية حدَّ الإعجاز في البلاغة، بما فيها من إيجاز وغيره، فتفطنوا لخلو قوله: لو أن لابن آدم واديًا من ذهب… إلخ، عن مثل ذلك الإعجاز بظهور موازنته بما هو بمعناه، فإن التفاوت بين المتماثلات من وجوه التمييز، فكان قوله: لولا أن لابن آدم واديًا من ذهب… إلخ، كلامًا تمكن معارضته، فعلموا أنه ليس بقرآن..

ويحتمل أنهم لما سمعوا أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ واهتدوا للفرق بين الكلامين في البلاغة، استثبتوا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك ؛ فأخبرهم بأنه ليس بقرآن ". انتهى.

أما الروايات الأخرى الواردة عن أبي بن كعب، وأنه اختلف مع عمر رضي الله عنه لأجل هذه الآية ؛ فجميعها لا تثبت من ناحية الإسناد، ولو ثبت معناها فلا إشكال فيها كما سيأتي.

أما الرواية الأولى:

فأخرجها أحمد في "مسنده" (21111)، وابن حبان في "صحيحه" (3237)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي" (2/954)، وحفص بن عمر في "قراءات النبي صلى الله عليه وسلم" (59)، جميعا من طريق أبي معاوية الضرير، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَى رَأْسِهِ مَرَّةً، وَإِلَى رِجْلَيْهِ أُخْرَى، هَلْ يَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْبُؤْسِ شَيْئًا؟ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ مَالُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ مِنَ الْإِبِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُلْتُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبً لَابْتَغَى الثَّالِثَ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا أُبَيٌّ، قَالَ: فَمَرَّ بِنَا إِلَيْهِ. قَالَ: فَجَاءَ إِلَى أُبَيٍّ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ أُبَيٌّ: هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )..

إلى هنا تتفق ألفاظ الروايات في المصادر الثلاث، ولم يزد ابن حبان وحفص بن عمر عن ذلك شيئا، ثم حدث الاختلاف:

عند أحمد قَالَ: "أَفَأُثْبِتُهَا ؟، قَالَ: نَعَمْ. فَأَثْبَتَهَا".

وعند أبي يعلى:( قلت: إذًا أثبتها في المصحف؟ قال: نعم ).

وإسناده فيه علة، وهي أنه من رواية أبي معاوية الضرير، وهو مضطرب في غير حديث الأعمش.

قال أحمد بن حنبل كما في "العلل" (1/378):" أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير فِي غير حَدِيث الْأَعْمَش مُضْطَرب لَا يحفظها حفظا جيدا ". انتهى.

وقال أبو داود كما في "سؤالات الآجري" (ص147):" أَبُو معاوية إِذَا جَاز حَدِيثَ الأَعْمَش كثُر خَطؤه ". انتهى.

وقال ابن نمير كما في "تاريخ بغداد" (3/134):" كان أبو معاوية لا يضبط شيئا من حديثه ضبطه لحديث الأعمش، كان يضطرب في غيره اضطرابا شديدا ". انتهى.

ثم هو مدلس كما قال الدارقطني، نقله عنه ابن حجر في "طبقات المدلسين" (61).

وله متابعة لا يُفرح بها، من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، أوردها ابن حجر في "إتحاف المهرة" (1/229)، وعزاها إلى "صحيح أبي عوانة"، فقال:" وَعَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحِمَّانِيِّ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، نَحْوَهُ ". انتهى.، ولم نقف عليه في المطبوع منه.

وآفة هذا الطرق " يحيى بن عبد الحميد الحماني "، قال فيه أحمد بن حنبل كما في "الجرح والتعديل" (9/170):" كان يكذب جهارا.. يسرق الأحاديث ويلتقطها ". انتهى.، وقال الذهبي في "المغني في الضعفاء" (7006):" منكر الحديث ". انتهى.

وله طريق آخر معلول، أورده ابن أبي حاتم في "العلل" (1739)، فقال:" وسألتُ أَبِي عَنْ حديثٍ رَوَاهُ أشعَثُ بْنُ هِلالٍ الجُرْجاني مِنْ حِفْظه، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأعمَش، عَنْ حَبيب، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى عُمَرَ يُريدُ أَنْ يسألَهُ، فَجَعَلَ عمرُ يَنظرُ إِلَى رَأْسِهِ مرَّة، وَإِلَى رجلَيه أُخرَى مما يَرَى عليه من البُؤْسَى  فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ لكَ مِن إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ ؛ قَالَ: كَمْ؟ قَالَ: أربعونَ ؛ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: صَدَقَ اللَّهُ ورسولُه: لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثً، ولاَ يُشْبِعُ بَطْنَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، ويَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ، فَقَالَ عُمَرُ: عمَّنْ هَذَا؟ فقلتُ: عَنْ أُبَيّ، فَقَالَ: مُرَّ بنا نأتي أُبَيًّ، فَأَتَيْنَاهُ فأخبرَهُ أُبَيٌّ بِذَلِكَ، فَقَالَ: هكذا أقرأَنيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: أَكْتُبُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ ؛ قَالَ: فَكَتَبَهَا؟

قَالَ أَبِي: هَذَا خطأٌ ؛ إِنَّمَا هُوَ: أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الشَّيباني، عَنْ يزيدَ بْنِ الأصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ". انتهى.

الرواية الثانية:

أخرجها أحمد في "مسنده" (21110)، من طريق مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبِ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: أَكَلَتْنَا الضَّبُعُ، قَالَ مِسْعَرٌ: يَعْنِي السَّنَةَ، قَالَ: فَسَأَلَهُ عُمَرُ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَمَا زَالَ يَنْسُبُهُ حَتَّى عَرَفَهُ، فَإِذَا هُوَ مُوسِرٌ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَنَّ لِامْرِئٍ وَادِيًا أَوْ وَادِيَيْنِ، لَابْتَغَى إِلَيْهِمَا ثَالِثًا . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ . فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ أُبَيٍّ، قَالَ: فَإِذَا كَانَ بِالْغَدَاةِ، فَاغْدُ عَلَيَّ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ: وَمَا لَكَ وَلِلْكَلَامِ عِنْدَ عُمَرَ، وَخَشِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَكُونَ أُبَيٌّ نَسِيَ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنَّ أُبَيًّا عَسَى أَنْ لَا يَكُونَ نَسِيَ. فَغَدَا إِلَى عُمَرَ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ، فَانْطَلَقَا إِلَى أُبَيٍّ، فَخَرَجَ أُبَيٌّ عَلَيْهِمَا وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَصَابَنِي مَذْيٌ، فَغَسَلْتُ ذَكَرِي، أَوْ فَرْجِي ، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَ يُجْزِئُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَصَدَّقَهُ ).

وإسناده ضعيف لا يثبت.

فيه أبو حبيب بن يعلى بن أمية: قال الخزرجي في "خلاصة تهذيب الكمال" (ص 447):" مجهول ". انتهى.

وفيه " مصعب بن شيبة "، ضعيف، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (4/120):" قال أبو حاتم: لا يحمدونه، وقال غيره: ثقة، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال أحمد: أحاديثه مناكير ". انتهى.، بل قال فيه النسائي كما في "تهذيب الكمال" (28/32):" منكر الحديث ". انتهى.

الرواية الثالثة:

أخرجها المستغفري في "فضائل القرآن" (365)، من طريق معاذ بن معاذ، عن ابن عون، قال حدثني رجل من أهل الكوفة، عن جده أبي الذيال قال:( كان ابن عباس رضي الله عنه يغمز قدمي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ ابن عباس رضي الله عنه لو أن لابن آدم واديين مالا لابتغى واديا ثالثا، فلا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب ، فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أقرأنيه أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: أبو المنذر؟ قال: نعم، قال: فدخل عمر رضي الله عنه ومعه ابن عباس رضي الله عنه وكان أبي شاكيا فقال عمر رضي الله عنه: كيف أنت يا أبا المنذر؟ كيف أنت أصلحك الله؟ ثم قال عمر: شيء أقرأنيه ابن أخيك عنك. فقال أبي: ما هذا، ألا تكذبوا علي. قال: فقرأ ابن عباس رضي الله عنه لو أن لابن آدم واديين مالا لابتغى واديا ثالثا، فلا يملأ بطن ابن أدم إلا التراب فقال أبي: كنا نقرأها. فقال عمر: فما تأمر؟ قال: لا آمرك، ولاَ أنهاك ).

وإسناده ضعيف، فيه رجل لم يسم، وأبو الذيال، مجهول، ترجم له ابن منده في "فتح الباب في الكنى والألقاب" (2722)، والذهبي في "المقتنى في سرد الكنى" (2122)، ولم يذكرا فيه شيئا.

 الرواية الرابعة:

أخرجها ابن أبي شبة في "تاريخ المدينة" (2/706)، من طريق عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي قَبِيصَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: " قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أُبَيًّا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَمْ تَكْتُبُوهَا. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْأَلَنَّ أُبَيًّا، فَإِنْ أَنْكَرَ لَتُنْكِرَنِّي، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى أُبَيٍّ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُبَيًّا تُرِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ فَدَخَلَا عَلَى أُبَيٍّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّا تَرَكْنَا آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَمْ نَكْتُبْهَا. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ ذَهَبًا ابْتَغَى إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَاللَّهُ يَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ" قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفَتَكْتُبُهَا؟ قَالَ: لَا آمُرُكَ قَالَ: أَفَتَدَعُهَا؟ قَالَ: لَا أَنْهَاكَ. قَالَ: كَانَ إِثْبَاتُكَ أَوْلَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ؟".

وإسناده واه، فيه " أبو قبيصة سكين بن يزيد "، هكذا سماه الدولابي في "الكنى والأسماء" (3/923)، وهو منكر الحديث، قال ذلك فيه الإمام البخاري، نقله عنه ابن حجر في "لسان الميزان" (3526)، قال:" وَقال البُخاري: سكين بن يزيد منكر الحديث يكنى أبا قبيصة ". انتهى.

فهذه الروايات مع ضعفها إلا أنها تتفق في أصل القصة، وتختلف في جواب أُبي بن كعب لعمر، وجواب عمر رضي الله عنه له، فلا يصلح مثل هذا للاحتجاج به في مورد النزاع.

 ولو سلمنا جدلا أن أبي بن كعب كان يقرأ بها، ويعتقد أنها من الآيات التي لم تنسخ حتى أيام عمر بن الخطاب، فهذا لا إشكال فيه من وجهين:

الأول: أنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان على علم أن أبي بن كعب كان ربما لم يصله أن بعض الآيات منسوخة، وأنه ربما قرأ بها، لكنه لا يأخذ بقوله.

فقد روى البخاري في "صحيحه" (4481)، من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:( أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ، وَأَقْضَانَا عَلِيٌّ، وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ قَوْلِ أُبَيٍّ، وَذَاكَ أَنَّ أُبَيًّا يَقُولُ: لاَ أَدَعُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا البقرة/106 ).

قال ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/66):" وَقَوله: وَإِنَّا لندع من قَول أُبي. يَعْنِي: من قِرَاءَته، وَقد بَين السَّبَب فِي ذَلِك وَهُوَ أَن الْعَمَل على الْعرض الْأَخير، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض الْقُرْآن على جِبْرِيل، وَعرضه عَلَيْهِ قبل مَوته مرَّتَيْنِ".

وقال ابن الملقن في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (22/38):" وقول أُبي: ( لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) إنما ذلك أن يسمع شيئًا ثم يسمع غيره، ثم يقرأ تلك السورة فلا يذكر فيها ما سمع، ويواظب على ذلك ويقول: إن الآية قد نسخت، فيتعلق أُبي بما سمع، ويأخذ هؤلاء بالنسخ، ولعله لا يخبره بالنسخ إلا واحد ". انتهى.

الثاني: أنه وإن استمر أبي بن كعب في قراءة بعض الآيات المنسوخة ظنا منه أنه لم تنسخ، فإنه أقر مع الصحابة بعد ذلك بإثبات القرآن العظيم في المصحف الإمام، والذي كان على العرضة الأخيرة، والتي نسخت ما سواها كما قدمنا في الرواية التي أخرجها ابن أبي داود في المصاحف (ص104) بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: " كَانَ الرَّجُلُ يَقْرَأُ حَتَّى يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: كَفَرْتُ بِمَا تَقُولُ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، فَجَمَعَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرَّبْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي بَيْتِ عُمَرَ فِيهَا الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُهُمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ أَفْلَحَ، أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لَهُمْ، فَرُبَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ فَأَخَّرُوهُ، فَسَأَلْتُ: لِمَ تُؤَخِّرُونَهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ مُحَمَّدٌ فَظَنَنْتُ فِيهِ ظَنًّا، فَلَا تَجْعَلُوهُ أَنْتُمْ يَقِينًا، ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ أَخَّرُوهُ حَتَّى يَنْظُرُوا آخِرَهُمْ عَهْدًا بِالْعَرْضَةِ الْآخِرَةِ فَيَكْتُبُوهُ عَلَى قَوْلِهِ".

وختاما:

ننصح أخانا السائل وجميع المسلمين ألا يردوا مواطن ومواقع الشبهات، فإن الفتن خطافة، والقلوب ضعيفة.

وعليك أخي الكريم بطلب العلم من مظانه حتى يصير قلبك كالزجاجة، ترى الحق بصفائها، وترد الباطل بصلابتها.

والله أعلم.

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android