0 / 0

حول حديث تيمم النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام

السؤال: 310423

استشكل علي حديث، عن أبي الجهم الأنصاري رضي الله عنه قال : (أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ) رواه البخاري (رقم/337) ، ومسلم (رقم/369) . فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام حتى تيمم ، وحديث أمنا عائشة رضي الله عنها ( كان يذكر الله على كل احيانه ) ، فهل هناك نسخ للحديث ، وإن كان لا ، فلماذا بعض الفقهاء يجيزون قراءة الجنب للقران؟ فالنبي الكريم لم يرد السلام لأنه على غير طهارة ، فمن باب أولى القران لا يقرأ ألا على طهارة .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

بداية : يجب أن نعلم أن مسائل الشريعة منها ما حصل عليه الإجماع من أهل العلم ، ومنها ما وقع فيه الخلاف السائغ .

وما من عالم من أهل السنة والجماعة إلا وقصد الوصول للحق ، فاجتهد في ضوء ما معه من الأدلة وأدوات الاستنباط ، وهو على كل حال مأجور سواء أصاب الحق أم أخطأه .

وإنما ينشأ الخلاف بين أهل العلم في المسائل الشرعية لأحد أسباب ثلاث :

الأول : إما أن النص لم يبلغه ، لأنه لم يحط أحد قط بنصوص الشريعة .

الثاني : أن يكون وصله النص ، لكن لم يعتقد ثبوته ، أي أنه ضعيف عنده .

الثالث : أن له نص أقوى منه معارض له ، فرجحه عليه بإحدى وجوه الترجيح .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “رفع الملام” (ص8) :” وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ – الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا – يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ . فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ , إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ , فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ . وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ .

وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ .

وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ “. انتهى

ثانيا:

أورد السائل الكريم حديثين ، وظن أن بينهما تعارضا ، خاصة مع قول بعض أهل العلم بجواز قراءة الجنب للقرآن ، والمسألة إنما تؤخذ من مجموع الأدلة ، وهذا بيان الأمر :

أولا : هناك اتفاق بين أهل العلم على أنه يجوز للمحدث حدثا أصغر أو أكبر ، وسواء كان جنبا أو كانت امرأة حائضا ، يجوز له أن يذكر الله تعالى بكل شيء سوى القرآن ، فإن في جواز قراءة الجنب والحائض له خلاف .

قال ابن عبد البر في “الاستذكار” (2/104) :” وَمَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، مَا لَمْ يَكُنْ حَدَثُهُ جَنَابَةً “. انتهى

وقال النووي في “المجموع” (2/69) :” أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمُحْدِثِ “. انتهى

وقال النووي في “المجموع” (2/164) :” أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَارِ وَمَا سِوَى الْقُرْآنِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ ، وَدَلَائِلُهُ مَعَ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَشْهُورَةٌ “. انتهى

ثانيا : بعد اتفاق أهل العلم على جواز ذكر الله للمحدث ، سوى قراءة القرآن ، فقد اختلفوا في معنى الحديث الأول الذي أورده السائل .

وهذا الحديث أخرجه البخاري في “صحيحه” (337) ، من حديث عمير مولى ابن عباس ، قال:” أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ ، فَقَالَ أَبُو الجُهَيْمِ الأَنْصَارِيُّ : أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الجِدَارِ ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ “.

وجاء في معناه حديث آخر .

أخرجه أحمد في “مسنده” (19034) ، من حديث الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ ، أَنَّهُ : ” سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ فَرَدَّ عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ “.

والحديث صححه الشيخ الألباني في “صحيح أبي داود” (13) .

فمن أهل العلم من يرى أن ذكر الله على غير حال الطهارة مكروه أو خلاف الأولى ، وأن هذا الحديث يدل على استحباب الطهارة لمجرد ذكر الله ، حتى لو كان ذلك رد للسلام ونحو ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خشي فوات وقت ردّ السلام؛ تيمم .

ولذا بوب عليه ابن خزيمة في “صحيحه” (1/172) :” بَابُ اسْتِحْبَابِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ لِرَدِّ السَّلَامِ وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا “. انتهى

وقال النووي في “الإيجاز في شرح سنن أبي داود” (ص136) :” قوله – صلى الله عليه وسلم -: “كَرهت أن أذكر الله على غير طهر” ، هذه الكراهة بمعنى ترك الأولى ، وقد سبق في باب كراهة استقبال القبلة : أن الكراهة ثلاثة أقسام، منها: ترك الأولى .

وقد اتفق العلماء على جواز ذكر الله تعالى بالتسبيح والتكبير والتهليل ونحوها ، سوى القرآن ، للمحدث والجنب ، وأنه لا يكره كراهة تنزيه ، ولكنه خلاف الأولى ، فيحمل هذا الحديث عليها “. انتهى

وقال ابن رجب في “فتح الباري” (2/233) :” وقد استدل البخاري بهذا الحديث : على جواز التيمم في الحضر ، إذا لم يجد الماء ، ولكن التيمم هنا لم يكن لما تجب له الطهارة ، بل لما يستحب له “. انتهى

وقال القرطبي في “المفهم” (1/617) :” وهذا الحديث يؤخذ منه: أن حضور سبب الشيء ، كحضور وقته ؛ وذلك أنه لما سلم هذا الرجل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  تعين عليه – صلى الله عليه وسلم – الرد ، وخاف الفوت ، فتيمم .

ويكون هذا حجة لأحد القولين عندنا : أن من خرج إلى جنازة متوضئًا ، فانتقض وضوؤه ؛ أنه يتيمم.

وقد روى أبو داود من حديث المهاجر بن قنفذ: أنه سلم على النبي – صلى الله عليه وسلم –  وهو يبول ، فلم يَرُدّ عليه حتى توضأ ، ثم اعتذر إليه ، فقال: إني كنت كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة “. انتهى

وقال ابن حجر في “فتح الباري” (1/443) :” قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عادما للْمَاء حَال التَّيَمُّم .

قلت : وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيعِ الْبُخَارِيِّ ، لَكِنْ تُعُقِّبَ اسْتِدْلَالُهُ بِهِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ،  بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ إِرَادَةُ ذِكْرِ اللَّهِ لِأَنَّ لَفْظَ السَّلَامِ مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَيَمَّمَ فِي الْحَضَرِ لِرَدِّ السَّلَامِ ، مَعَ جَوَازِهِ بِدُونِ الطَّهَارَةِ ؛ فَمَنْ خَشِيَ فَوْتَ الصَّلَاةِ فِي الْحَضَرِ ، جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، لِعَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ .
وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ رَفْعَ الْحَدَثِ ، وَلَا اسْتِبَاحَةَ مَحْظُورٍ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّشَبُّهَ بِالْمُتَطَهِّرِينَ ، كَمَا يُشْرَعُ الْإِمْسَاكُ فِي رَمَضَانَ لِمَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ .

أَوْ أَرَادَ تَخْفِيفَ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ ، كَمَا يُشْرَعُ تَخْفِيفُ حَدَثِ الْجُنُبِ بِالْوُضُوءِ “. انتهى

وقال ابن الملك في “شرح المصابيح” (1/304) :” وروي: أنه لم يردَّ عليه حتى تَوَضَّأ ، ثم اعتذرَ إليه ، فقال: إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طُهْرٍ”: فيه دليلٌ على أنه يستحبُّ أن يكون ذِكْرُ الله على الوضوء أو التيمم ؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى “. انتهى

ومن أهل العلم من يرى أن هذا الحديث منسوخ ، لأنه كان في أول الإسلام يجب الطهارة لمطلق الذكر ، ثم نُسخ هذا الحكم ، وهذا رجحه الطحاوي رحمه الله .

حيث روى الإمام الطحاوي في “شرح معاني الآثار” (1/88) حديثا من طريق عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ الْفَغْوَاءِ , عَنْ أَبِيهِ قَالَ:” كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَهْرَاقَ الْمَاءَ ، إِنَّمَا نُكَلِّمُهُ فَلَا يُكَلِّمُنَا،  وَنُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْنَا ، حَتَّى نَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ [المائدة: 6] .

ثم قال :” فَأَخْبَرَ عَلْقَمَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّ حُكْمَ الْجُنُبِ كَانَ عِنْدَهُ ، قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ وَأَنْ لَا يَرُدَّ السَّلَامَ ، حَتَّى نَسَخَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَوْجَبَ بِهَا الطَّهَارَةَ عَلَى مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ خَاصَّةً .

فَثَبَتَ بِذَلِكَ : أَنَّ حَدِيثَ أَبِي الْجَهْمِ , وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُهَاجِرِ , مَنْسُوخَةٌ كُلُّهَا , وَأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْحُكْمِ الَّذِي فِيهَا “. انتهى

والراجح : أنه لا نسخ ، لأن الحديث الذي أورده الإمام الطحاوي حديث ضعيف ، في إسناده جابر الجعفي؛ قال الهيثمي في “مجمع الزوائد” (1/276) :” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ ، وَفِيهِ جَابِرٌ الْجُعَفِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ “. انتهى

والأصل الجمع بين الأدلة إن صحت ، وألا نلجأ للنسخ إلا عند تعذر الجمع ، فيقال في ذلك : إن حديث أبي الجهيم ، وكذلك حديث المهاجر بن قنفذ ، يدلان على استحباب التطهر لمجرد الذكر .

بل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو عامر أن يستغفر له ، توضأ ثم دعا له .

والحديث في “صحيح مسلم” (2498) ، وفيه :” فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ ، وَقُلْتُ لَهُ: قَالَ: قُلْ لَهُ: يَسْتَغْفِرْ لِي ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ:  اللهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ  ” .

قال القرطبي في “المفهم” (21/18) :” وقوله : ” فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضَّأ منه ، ثم رفع يديه ” ؛ ظاهر هذا الوضوء : أنه كان للدُّعاء ؛ إذ لم يذكر أنه صلى في ذلك الوقت بذلك الوضوء .

ففيه ما يدلّ على مشروعية الوضوء للدُّعاء ، ولذكر الله ، كما تقدَّم من قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة “. انتهى

ثم إن مجرد تيمم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل رد السلام لا يدل على حرمة رد السلام للمحدث ، وكذلك لا يدل على وجوب الطهارة لمطلق الذكر، كرد السلام ونحوه ؛ فإن فعل مجرد من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والفعل إنما يدل على مشروعية الشيء ، أو استحابه؛ لا يدل بمجرده على الوجوب، ما لم يكن بيانا لأمر واجب.

ثالثا : أما حديث عائشة رضي الله عنها :” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ “

فهو حديث صحيح أخرجه مسلم في “صحيحه” (373).

والحديث احتج به بعض أهل العلم على جواز قراءة القرآن للجنب ، وهي مسألة خلافية .

حيث ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى حرمة قراءة الجنب للقرآن ، وذهب ابن عباس ، واختاره ابن المنذر إلى جواز ذلك .

وحديث عائشة الذي أورده السائل أحد أدلة من جوز قراءة الجنب للقرآن ، لكن عند الجمهور هو مخصوص بأدلة أخرى ، إذ ليس هو الدليل الوحيد في المسألة ، ثم هو ليس صريحا في الدلالة على ذلك .

قال ابن المنذر في “الأوسط” (2/223) :” وَاحْتَجَّ مَنْ سَهَّلَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ : قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقَالَ بَعْضُهُمُ: الذِّكْرُ قَدْ يَكُونُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ ، فَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ ذِكْرِ اللهِ تعالى ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نمْنَعَ مِنْهُ أَحَدًا ، إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ “. انتهى

ولكن قال ابن رجب في “فتح الباري” (2/45) :” وفيه: دليل على أن الذكر لا يمنع منهُ حدث ولا جنابة .

وليس فيهِ دليل على جواز قراءة القرآن للجنب ؛ لأن ذكر الله إذا أطلق لا يراد بهِ القرآن ، واستدلاله بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَهوَ دليل على جواز التسمية للحائض والجنب ؛ فإنهما غير ممنوعين مِن التذكية “. انتهى

وقد وردت عدة أحاديث تمنع الجنب من قراءة القرآن

منها الحديث الذي أخرجه أحمد في “مسنده” (639) ، وأبو داود في “سننه” (229) ، من حديث عن عبد الله ابن سَلِمة ، قال:” دخلتُ على عليٍّ رضي الله عنه أنا ورجلان ، رجلٌ منَّا ورجلٌ مِن بني أَسد أحسَبُ ، فبَعَثَهما عليٌّ وجهاً ، وقال: إنَّكما عِلْجانِ ، فعالِجا عن دِينِكما ، فدخلَ  المَخْرَجَ ثمَّ خرجَ ، فدعا بماءٍ فأخذَ منه حَفْنةً فتَمَسحَ بها ، ثمَّ جعل يَقرَأُ القُرآنَ ، فأنكروا ذلك ، فقال: إنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كان يَخرُجُ مِنَ الخلاءِ فيُقرِئُنا القُرآنَ ويأكُلُ مَعَنا اللّحمَ ، ولم يَكُن يَحجُبُهُ – أو قال: يَحجُزُهُ – عن القُرآنِ شيءٌ ، ليسَ الجَنابةَ “.

والحديث حسنه غير واحد من أهل العلم. قال ابن الملقن في “البدر المنير” (2/551) :” هَذَا الحَدِيث جيد “. انتهى ، وقال ابن حجر في “فتح الباري” (1/408) :” وَضَعَّفَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ رُوَاتِهِ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ “. انتهى

قال الصنعاني في “التنوير شرح الجامع الصغير” (8/561) في شرحه لحديث :” كان يذكر الله على كل أحيانه  ” ، قال :” واعلم أن هذا مخصوص بحال الجنابة ، لحديث:” أنه كان لا يحجبه عن القرآن شيء ليس إلا الجنابة “.

وقد أخذ جماعة لجواز القراءة للجنب ، بهذا العموم ، منهم الطبري .

ولك أن تقول : هذا يُخص منه قراءة القرآن ، ويبقى غيره من الذكر جائزاً للجنب .

والأكمل أن لا يذكر الله إلا على طهارة ، فقد تيمم من الجدار لرد السلام ، وقال: “كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة” أو نحو هذا “. انتهى

وخلاصة ما سبق أن نقول :

الحديث الأول ، وهو حديث أبي الجهيم ، محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يذكر الله على طهارة ، فلما خشي فوات عبودية ردّ السلام تيمم ، ثم ردّ السلام ، وهذا ليس على سبيل الوجوب ، وإنما على سبيل الاستحباب .

والحديث الثاني ، وهو حديث عائشة رضي الله عنها ، فمحمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه ، إلا أن يكون جنبا ، استدلالا بالأدلة الأخرى في المسألة ، التي تمنع الجنب من قراءة القرآن ، ولذا كان جماهير أهل العلم من المذاهب الأربعة على ذلك .

ويمكن للسائل إن أراد الاستزادة أن يراجع هذه الأجوبة (129369)، (218917)، (9286).

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android