ما صحة قصة ذي النون المصري التي في كتاب “التوابين” لابن قدامة في توبة السكران؟ قال ابن باكويه : وحدثنا بكران بن أحمد ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : ” كنت مع ذي النون المصري على شاطئ غدير ، فنظرت إلى عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة ، فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير ، فركبتها العقرب ، فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت ، فقال ذو النون : إن لهذه العقرب لشأنا ، فامض بنا ، فجعلنا نقفوا أثرها ، فإذا رجل نائم سكران ، وإذا حية قد جاءت ، فصعدت من ناحية سرته إلى صدره ، وهي تطلب أذنه ، فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها ، فانقلبت وانفسخت ، ورجعت العقرب إلى الغدير ، فجاءت الضفدع ، فركبتها فعبرت ، فحرك ذو النون الرجل النائم ، ففتح عينيه ، فقال : يا فتى ، انظر مما نجاك الله ؟ هذه العقرب جاءت ، فقتلت هذه الحية التي أرادتك ، ثم أنشأ ذو النون يقول : يا غافلا والجليل يحرسه …. من كل سوء يدب في الظلم كيف تنام العيون عن ملك …. تأتيه منه فوائد النعم فنهض الشاب ، وقال : إلهي هذا فعلك بمن عصاك ، فكيف رفقك بمن يطيعك ؟ ثم ولى ، فقلت : إلى أين ؟ قال : إلى البادية ، والله لا عدت إلى المدن أبدا ” .
حول صحة قصة ذي النون المصري في توبة السكران.
السؤال: 310515
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذه القصة أوردها ابن قدامة رحمه الله في كتاب “التوابين” (87) ، فقال :” قال ابن باكويه : وحدثنا بكران بن أحمد ، قال سمعت يوسف بن الحسين ، يقول كنت مع ذي النون المصري على شاطئ غدير فنظرت إلى عقرب أعظم ما يكون على شط الغدير واقفة ، فإذا بضفدع قد خرجت من الغدير فركبتها العقرب ، فجعلت الضفدع تسبح حتى عبرت ، فقال ذو النون : إن لهذه العقرب لشأنا فامض بنا ، فجعلنا نقفوا أثرها ، فإذا رجل نائم سكران وإذا حية قد جاءت فصعدت من ناحية سرته إلى صدره وهي تطلب أذنه ، فاستحكمت العقرب من الحية فضربتها فانقلبت وانفسخت ورجعت العقرب إلى الغدير ، فجاءت الضفدع فركبتها فعبرت . فحرك ذو النون الرجل النائم ففتح عينيه ، فقال : يا فتى انظر مما نجاك الله ، هذه العقرب جاءت فقتلت هذه الحية التي أرادتك ثم أنشأ ذو النون يقول
يا غافلا، والجليل يحرسه * من كل سوء ، يدِبُّ في الظلم
كيف تنام العيون عن مَلِك * تأتيه منهُ فوائد النعم ؟!
فنهض الشاب ، وقال : إلهي هذا فعلك بمن عصاك ، فكيف رفقك بمن يطيعك ، ثم ولى فقلت إلى أين؟ قال إلى البادية، والله لا عدت إلى المدن أبدا “.
وأوردها ابن الجوزي في “عيون الحكايات” (ص102) من طريق يوسف بن الحسين.
وأخرجها من طريق آخر المقدسي في “المنتقى من مسموعات مرو” (ورقة 66) مخطوط ، فقال :” أخبرتنا جدتي فاطمة قالت: أنبأ أبو مسلم الرازي، أنبأ أبو الحسين علي بن الحسين القطان قال: سمعت محمد بن علي بن هيدام يقول: سمعت أحمد بن محمد بن إبراهيم يقول: سمعت صدقة بن الفضل الواسطي يقول: قال لي بعض أصحاب ذي النون ابن إبراهيم الأخميمي قال: كنت مع ذي النون رضي الله عنه على شاطئ غدير … ثم ساق القصة ) .
فأما الإسناد الذي نقله ابن قدامة فإنه منقول من بعض كتب ابن باكويه ، فابن قدامة لم يدركه ، حيث توفي ابن باكويه سنة 428هـ ، وولد ابن قدامة سنة 541هـ .
وابن باكويه ترجم له الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (17/544) فقال :” ابْنُ بَاكُويَه مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ الشِّيْرَازِيُّ ، الإِمَامُ ، الصَّالِحُ ، المُحَدِّثُ ، شَيْخُ الصُّوْفِيَّة ؛ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ بَاكُويَه الشِّيْرَازِيُّ ، وُلِدَ: سَنَةَ نَيِّفٍ وَأَرْبَعِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ ، وَطلب هَذَا الشَّأْنَ، وَارْتَحَلَ فِيْهِ. .. وَقَعَ لِي جُزْءٌ مِنْ حَدِيْثِهِ ، وَلَهُ تَصَانِيْفُ وَجموع .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ المُؤَذِّنُ: نظرتُ فِي أَجزَاء أَبِي عَبْدِ اللهِ بنِ بَاكُويَه ، فَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهَا آثَار السَّمَاع ، وَأَحسنُ مَا سَمِعْتُ عَلَيْهِ الحكَايَاتُ “. انتهى.
وقال الصريفيني في “المنتخب من كتاب السياق لتاريخ نيسابور” (ص31) :” ابن باكويه
محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن باكويه الشيرازي الصوفي أبو عبد الله ، شيخ الصوفية في وقته ، العالم بطرقهم ، الجامع لحكاياتهم وسيرهم ، لقي المشايخ ، وأخذ منهم ، وأقام بنيسابور ، وسكن دويرة السلمي وله مجالسات حسنة مع المشايخ ، وسمع الحديث وروى ، إلا أن الثقات توقفوا في سماعاته للأحاديث ، وذكروا أن خير ما يروى عنه الحكايات “. انتهى.
وأما شيخه بكران بن أحمد ، فقد ترجم له أبو نعيم في “تاريخ قزوين” (2/357) فقال:” بكران بْن أَحْمَد الْقَزْوِينِيّ من شيوخ الصوفية ، سمع يوسف بْن الحسين ، وروي عَنْهُ أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشيرازي الصوفي “. انتهى
وأما يوسف بن الحسين ، فقد ترجم له أبو عبد الرحمن السلمي في “طبقات الصوفية” (26) فقال:” وَمِنْهُم يُوسُف بن الْحُسَيْن أَبُو يَعْقُوب الرَّازِيّ ، شيخ الرّيّ وَالْجِبَال فِي وقته ، كَانَ أوحد فِي طَرِيقَته فِي إِسْقَاط الجاه ، وَترك التصنع وَاسْتِعْمَال الْإِخْلَاص ، صحب ذَا النُّون الْمصْرِيّ ، وَأَبا تُرَاب النخشبي ، ورافق أَبَا سعيد الخراز فِي بعض أَسْفَاره وَكَانَ عَالما دينا “. انتهى.
وقال الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (16/462) :” يوسف بن الحسين بن علي أبو يعقوب الرازي ، من مشايخ الصوفية كَانَ كثير الأسفار “. انتهى.
وقال الذهبي في “العبر في خبر من عبر” (1/447) :” أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي الصوفي ، أحد المشايخ الكبار ، صحب ذا النون المصري، وروى عن الإمام أحمد ابن حنبل ودحيم وطائفة “. انتهى.
وأما ذو النون المصري: فقد ترجم له الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (9/373) فقال :” كَانَ حكيما فصيحا زاهدا … ونقل فيه قول الدارقطني: ذو النون بْن إِبْرَاهِيمَ المصري ، رُوي عنه عَنْ مَالِك أحاديث فِي أسانيدها نظر، وَكَانَ وَاعظا ..، وفي رواية أخرى عنه قال :” إذا صح السند إليه فأحاديثه مستقيمة، وَهُوَ ثقة “. انتهى.
فمما سبق يتبين أن سلسلة الإسناد مجموعة من أئمة التصوف، ممن عرفوا بحسن الديانة ، لكن ليسوا ممن يتحملون نقل الأحاديث .
وأما الإسناد الثاني فهو مسلسل بالمجاهيل ، ممن لم نقف لهم على ترجمة .
وهذه مجرد حكاية رآها ذو النون المصري ، وليست حديثا مسندا ، ولا أثرا موقوفا عن صحابي ، بل ولا نقلا عن تابعي ، ولا هي مما يتعلق به حكم في دين ولا شرع ، ولا أصل في اعتقاد أو خبر.
وهذه الحكايات وأمثالها ، لا يشدد في أسانيدها ، ولا يتحرى فيها ما يتحرى في نقل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو حتى عن أصحابه رضوان الله عليهم . وإذا نقلها من لم يعرف بالكذب ، ولم يكن في معناها ما يُنكر ، أو يخالف الشريعة ، أو مما يمتنع عقلا ، فلا مانع من الاستئناس بها ، وذكرها من باب الموعظة والتذكير ، حيث يتسامح في هذا الباب ما لا يتسامح في غيره .
وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في “صحيحه” (7378) ، ومسلم في “صحيحه” (2804) ، من حديث أَبِي مُوسَى ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ .
إلا أن قول الشاب أنه لن يعيش في المدن ، وفرّ إلى البادية ، فهذا خلاف الهدي النبوي ، فليس من القُرب ولا من العبادات ترك الحياة في المدن ، بل هذا أقرب إلى الرهبانية المنهي عنها، وأبعد من هدي الشريعة السمحة؛ إلا أن يغلب الفساد على بلد ما ، فحينئذ تسن العزلة .
هذا ومما ينبغي التنبيه عليه ، أن كتاب التوابين لابن قدامة فيه ما لا يصح سنده ، ولذا ينبغي التحرز عند النقل منه .
وقد قال السخاوي في “الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ” (ص166) :” في كتاب التوابين لشيخ الإسلام الموفق بن قدامة : أشياء ما كنت أحب له إيرادها، خصوصاً وأسانيدها مختلة “. انتهى.
ونختم بهذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام ابن تيمية ، حيث سُئل عن كتاب “حلية الأولياء” لأبي نعيم ، كما في “مجموع الفتاوى” (18/71) ، فقال :” كِتَابُ الْحِلْيَةِ ” مِنْ أَجْوَدِ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي أَخْبَارِ الزُّهَّادِ ، وَالْمَنْقُولُ فِيهِ أَصَحُّ مِنْ الْمَنْقُولِ فِي رِسَالَةِ القشيري وَمُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي شَيْخِهِ وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ لِابْنِ خَمِيسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَبَا نُعَيْمٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ ، وَأَكْثَرُ حَدِيثًا ، وَأَثْبَتُ رِوَايَةً وَنَقْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ .
وَلَكِنْ كِتَابُ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَالزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَمْثَالِهِمَا : أَصَحُّ نَقْلًا مِنْ الْحِلْيَةِ .
وَهَذِهِ الْكُتُبُ وَغَيْرُهَا : لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ، وَحِكَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ بَلْ بَاطِلَةٍ . وَفِي الْحِلْيَةِ مِنْ ذَلِكَ قَطْعٌ ، وَلَكِنَّ الَّذِي فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهَا ؛ فَإِنَّ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي ؛ وَرِسَالَةِ القشيري ؛ وَمَنَاقِبِ الْأَبْرَارِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْبَاطِلَةِ ، بَلْ وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ: مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي مُصَنَّفَاتِ أَبِي نُعَيْمٍ .
وَلَكِنْ ” صَفْوَةُ الصَّفْوَةِ ” لِأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ : نَقَلَهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْحِلْيَةِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الْكِتَابَيْنِ الصِّحَّةُ ، وَمَعَ هَذَا فَفِيهِمَا أَحَادِيثُ وَحِكَايَاتٌ بَاطِلَةٌ .
وَأَمَّا الزُّهْدُ لِلْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوَهُ : فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَالْحِكَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ: مِثْلُ مَا فِي هَذِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَذْكُرُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ عَمَّنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْوَضْعِ ، بَلْ قَدْ يَقَعُ فِيهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ لِسُوءِ حِفْظِ نَاقِلِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ قُصِدَ الْكَذِبُ فِيهِ، كَمَا لَيْسَ ذَلِكَ فِي مُسْنَدِهِ ، لَكِنْ فِيهِ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ غَلَطٌ ، غَلِطَ فِيهِ رُوَاتُهُ . وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ فِي غَالِبِ كُتُبِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَسْلَمُ كِتَابٌ مِنْ الْغَلَطِ إلَّا الْقُرْآنُ “. انتهى.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب