ما صحة قول الإمام أبي حنيفة : ” إذا صح الحديث فهو مذهبي “، وقال رحمه الله :” لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه” ، وفي رواية عنه :” حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ” ، زاد في رواية أخرى :” فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا “، وقال رحمه الله :” إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي ” ماصحة هذا القول ؟ أو ما مرجع هذا القول عن أبي حنيفة ؟
حول صحة بعض الآثار الواردة عن أبي حنيفة رحمه الله في لزومه الاحتجاج بالسنة واتباعها
السؤال: 314907
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذه الأقوال عن أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله ، منها ما هو مسند ، ومنها ما لم نقف له على إسناد إليه ، وإنما نقله بعض أهل العلم عنه دون إسناد ، وتفصيل ذلك كما يلي :
القول الأول :” إذا صح الحديث فهو مذهبي”.
لم نقف له على إسناد إلى أبي حنيفة رحمه الله ، وإنما نقله عنه جمع من أهل العلم مصححين له ، ومن هؤلاء الحافظ العراقي ، وابن عابدين ، والشيخ صالح الفُلَّاني المالكي .
قال العراقي في “المستخرج على المستدرك” (ص15) :” صح عن أبي حنيفة أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي “. انتهى .
وقال ابن عابدين في “حاشيته على الدر المختار” (1/67) :” صح عن أبي حنيفة أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي ” انتهى.
وقال الشيخ صالح الفلاني المالكي في “إيقاظ همم أولي الأبصار” (ص62) :” وَذكر ابْن الشّحْنَة فِي نِهَايَة النِّهَايَة : أَنه صَحَّ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ : إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي “. انتهى.
القول الثاني :” لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه”.
بهذا اللفظ نقله جماعة من أهل العلم ، منهم ابن قُطْلوبُغا في “تاج التراجم” (ص92) ، و صدر الدين علي بن علي بن أبي العز الحنفي في “شرح مشكلات الهداية” (2/541) ، وابن القيم في “إعلام الموقعين” (1/79) .
وقد أخرجه مسندا بلفظ مقارب ابن عبد البر في “الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء” (ص144) قال :” قال أبو يعقوب ونا أبو نصر محمد بن حاتم المازني الحافظ ، قال نا عبد الصمد ابن الفضل البلخي ببلخ ، قال سمعت عصام بن يوسف يقول : كنا في مأتم بالكوفة ، فسمعت زفر بن الهذيل يقول : سمعت أبا حنيفة يقول : لا يحل لمن يفتى من كتبي ، أن يفتي : حتى يعلم من أين قلت “.
وإسناده حسن إلى أبي حنيفة رحمه الله .
فأما عصام بن يوسف البلخي ، حديثه حسن ، ترجم له ابن حبان في “الثقات” (14799) وقال :” وَكَانَ صَاحب حَدِيث ثبتا فِي الرِّوَايَة وَرُبمَا أَخطَأ “. انتهى ، وقال الخليلي :” صدوق ” . انتهى من “لسان الميزان” (5210).
وعبد الصمد بن الفضل ثقة ، وثقه الدارقطني كما في “سؤالات السلمي” (202) ، والذهبي في “الكاشف” (1396) .
القول الثالث :”حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي”.
نقله عنه الدهلوي في “الإنصاف” (ص104) ، ولم أقف عليه مسندا ، لكن القول الثاني بمعناه .
القول الرابع :”فإننا بشر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا”
أخرجه الدوري في “تاريخ ابن معين” (2461) ، ومن طريقه الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” (15/544) ، قال الدوري: قَالَ أَبُو نعيم: وَسمعت زفر يَقُول : كُنَّا نَخْتَلِف إِلَى أبي حنيفَة ، ومعنا أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن ، فَكُنَّا نكتب عَنهُ ، قَالَ زفر فَقَالَ يَوْمًا أَبُو حنيفَة لأبي يُوسُف : وَيحك يَا يَعْقُوب ؛ لَا تكْتب كل مَا تسمع مني ، فَإِنِّي قد أرى الرَّأْي الْيَوْم وأتركه غَدا ، وَأرى الرَّأْي غَدا وأتركه بعد غَد “.
وإسناده صحيح .
القول الخامس:” إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى ، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي “.
نقله عنه الفلاني في ” إيقاظ همم أولي الأبصار” (ص50) فقال :” وَقَول صَاحب الْهِدَايَة وَفِي رَوْضَة الْعلمَاء الرندوسية ، فِي فضل الصَّحَابَة لأبي حنيفَة: إِذا قلت قولا ، وَكتاب الله يُخَالِفهُ ؟ قَالَ اتركوا قولي لكتاب الله . فَقيل : إِذا كَانَ خبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُخَالِفهُ ؟ قَالَ: اتْرُكُوا قولي لخَبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم . قيل : إِذا كَانَ قَول الصَّحَابَة يُخَالِفهُ ؟ قَالَ اتْرُكُوا قولي لقَوْل الصَّحَابَة “. انتهى.
لكن قد روي نحوه بأسانيد صحيحة عنه ، منها ما يلي :
الأول :
ما أخرجه ابن عبد البر في “الانتقاء” (ص143) قال :” ونا عبدالوارث ، قال نا قاسم ، قال نا أحمد بن زهير ، قال نا يحيى ابن معين ، قال نا عبيد بن أبى قرة ، عن يحيى بن ضريس ، قال : قال أبو حنيفة : إذا لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ، نظرت في أقاويل أصحابه ، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم ، فإذا انتهى الأمر ، أو جاء الأمر إلى ابراهيم والشعبى وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعدد رجالا ؛ فقوم اجتهدوا ، فأجتهد كما اجتهدوا ” انتهى.
وإسناده صحيح إلى أبي حنيفة رحمه الله .
فأـما يحيى بن ضريس ، فقد وثقه ابن معين في “تاريخ ابن معين – رواية الدارمي” (867).
وعبيد بن أبي قرة ، صدوق كما قال أبو حاتم في “الجرح والتعديل” (1915) .
وبقية رجال الإسناد ثقات مشهورون .
الثاني :
ما أخرجه ابن نصر في “فوائده” (76) ، وابن عبد البر في “الانتقاء” (ص144) ، من طريق على بن الحسن بن شقيق ، قال نا أبو حمزة السكري ، قال سمعت أبا حنيفة : يقول إذا جاء الحديث ، الصحيح الإسناد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أخذنا به ، ولم نَعْدُه . وإذا جاء عن الصحابة: تخيرنا ، وإن جاء عن التابعين ، زاحمناهم ، ولم نخرج عن أقوالهم “. انتهى.
وإسناده صحيح .
أبو حمزة السكري محمد بن ميمون ، وثقه ابن معين كما في “تاريخ ابن معين – رواية ابن محرز” (1/111)
وعلي بن الحسن بن شقيق ، وثقه الخليلي في “الإرشاد” (3/696) ، والذهبي في “الكاشف” (3895)
وروي بألفاظ قريبة من ذلك :
وهو ما أخرجه الصيمري في “أخبار أبي حنيفة” (ص24) ، من طريق أحمد بن عطية ، قال ثنا ابن سماعة ، عن أبي يوسف ، قال سمعت أبا حنيفة يقول : “إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الثقات : أخذنا به ، فإذا جاء عن أصحابه : لم نخرج عن أقاويلهم ، فإذا جاء عن التابعين : زاحمتهم ” انتهى .
وما أخرجه البيهقي في “المدخل إلى السنن الكبرى” (40) ، من طريق مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ نُعَيْمَ بْنَ حَمَّادٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: “إِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ ، وَإِذَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَخْتَارُ مِنْ قَوْلِهِمْ ، وَإِذَا جَاءَ عَنِ التَّابِعِينَ ، زَاحَمْنَاهُمْ ” انتهى.
فمما سبق يتبين أن أبا حنيفة رحمه الله كان يحتج بالسنة الصحيحة المروية عن الأثبات ، لا يتعداها إلى غيرها ، فإن لم يكن في السنة نص في المسألة تخير من أقوال الصحابة ، فإن لم يجد أثرا للصحابة في المسألة ، اجتهد كما اجتهد أئمة التابعين رحمة الله عليهم أجمعين .
ومن أراد الاستزادة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومذهبه وفقهه ، فليراجع جواب السؤال رقم : (46992).
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة