قرأت مقالا لشيخ كان يشرح فيه حقيقة التلون في الدين، فوجه له السؤال الآتي : يا شيخ أنت كنت معفيا للحيتك، أعطني سببا مقنعا جعلك تقصرها . وشيء آخر: ما صحة هذا الحديث للرسول صلى الله عليه وسلم : ( اعفوا اللحي وحفوا الشوارب) ؟ فأجاب صاحب المقال : “أعفوا الهمزة هنا للسلب والإزالة، ولم يقل أعفوا بهمزة الوصل، وبينهما فرق، كما إنه جعلها من سنن الفطرة، وكل سنن الفطرة مبنية على الأخذ لا الترك؛ كتقليم الأظافر، والختان، ونتف الإبط، … الخ، كما إنه خاطب قوما ملتحين من الأصل، فأراد أن تخالف لحاهم لحى المشركين، فلا يعقدونها، فقال : (أرخوا اللحى)، والإرخاء هو ضد الربط والعقد في لغة العرب، وأراد أن تختلف لحى المسلمين عن لحى اليهود فلا تفحش، فقال : (أعفوا) أي خذوا منها، وهذا أرجح الأقوال، وهو فهم الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومن قبلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة رضي الله عنه، بل هو قول جمهور العلماء”، مع العلم إنني أريد أن أتعلم، لا أن أناقش الشيخ الذي كنت أثق في كلامه .
معنى إعفاء اللحى
السؤال: 316967
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
إعفاء اللحية جاءت السنة آمرة به، كما في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى رواه البخاري (5893)، ومسلم (259) واللفظ له.
والإعفاء هنا بمعنى الترك والتوفير؛ وليس الإزالة، فمن الثابت في اللغة أن (أَعْفُوا) بمعنى التوفير والترك.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
” وَفِيهِ ( أَنَّهُ أمَرَ بإِعْفَاء اللِّحَى ) هُوَ أَنْ يُوفِّر شَعَرُها وَلَا يُقَصّ كالشَّوارب، مِنْ عَفَا الشيءُ ، إِذَا كَثُر وَزَادَ. يُقَالُ: أَعْفَيْتُه وعَفَّيْتُه ” انتهى من “النهاية في غريب الحديث” (3 / 266).
وهذا هو المعنى الذي تتابع شراح الحديث على ذكره.
ويتأكد هذا الفهم بالروايات الصحيحة الأخرى لحديث ابن عمر هذا، وعن غيره من الصحابة؛ فهي تفسّر بعضها البعض.
فروى البخاري (5892) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ .
ورواه مسلم (259) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ؛ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى .
وروى الإمام مسلم (260) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ .
وروى الإمام أحمد في “المسند” (36 / 613) عن أَبي أُمَامَةَ قَالَ:” خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارٍ بِيضٌ لِحَاهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ…
قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ!
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُصُّوا سِبَالَكُمْ ، وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ، وصحح إسناده محققو المسند.
قال النووي رحمه الله تعالى:
” فحصل خمس روايات: (أعفوا)، و (أوفوا)، و (أرخوا)، و (أرجوا)، و (وفروا) .
ومعناها كلها: تركها على حالها . هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء” انتهى من”شرح صحيح مسلم” (3 / 151).
ولم يقل أحد من العلماء : إن المراد بإعفاء اللحية هو قصها وإزالتها ، بل نصوا صراحة على تركها على حالها ، حتى قال الكمال بن الهمام الحنفي في “فتح القدير” (2/348) :
“وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ اللِّحْيَةِ، وَهِيَ دُونَ الْقُبْضَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ وَمُخَنَّثَةُ الرِّجَالِ فَلَمْ يُبِحْهُ أَحَدٌ” انتهى .
وقال الإمام أبو محمد ابن حزم في “مراتب الإجماع” (ص 157) :
واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز” انتهى .
ثانيا:
عدّ إعفاء اللحية من خصال الفطرة : ورد في ذلك حديث عند الإمام مسلم (261) عن وَكِيع، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ .
قال زكريّا: قال مصعب: ” وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ “.
زاد قتيبة، قال وكيع: ” انْتِقَاصُ الْمَاءِ: يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ “.
فمن قال : إن هذه الأمور كلها من باب الإزالة لشيء من الجسم كالأظفار، أو لوسخ به كالاستنشاق ونحوه، فيكون “إعفاء اللحية” من جنسها . أي المراد إزالتها : فهذا فهم باطل مردود ، لم يقل به أحد من أهل العلم قط .
وأين صاحب هذا الفهم الباطل الشاذ من السواك، واستنشاق الماء ، ونحو ذلك : ما مدخلها في القص أو الإعفاء . إنما لكل سنة من هذه السنن وجهها الذي تمضى عليه ، ولا تقاس بغيرها ؛ فبعضها يشرع حلقه بالموسى، كالعانة، وبعضها ينتف ولا يحلق على ما وردت به السنة ، كالإبط، وبعضها يؤخذ منه ، كالشارب ، وبعضها يترك على حاله ، كاللحية ، على ما سبق نقله عن أهل العلم ، وبعضها لا مدخل له في باب الأخذ ، أو الترك ، كسائر السنن المذكورة .
ثم أين صاحب هذا الفهم المعكوس من حال النبي صلى الله عليه وسلم، وعمله في لحيته . وقد روى مسلم (2344) عَنْ جَابِرَ بْن سَمُرَةَ قال : “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ” .
ثالثا:
جاءت النصوص الشرعية آمرة بمخالفة المجوس وأهل الكتاب الذين كانوا يأخذون من اللحى ويعفون الشوارب، فجاء شرعنا الموافق للفطرة والنظافة على مخالفتهم.
فروى الإمام مسلم (260) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” قوله ( خَالِفُوا المُشْرِكِينَ )؛ في حديث أبي هريرة عند مسلم: ( خَالِفُوا الْمَجُوسَ ) ، وهو المراد في حديث ابن عمر ، فإنهم كانوا يقصون لحاهم ، ومنهم من كان يحلقها ” انتهى من “فتح الباري” (10 / 349).
وروى الإمام أحمد في “المسند” (36 / 613) عن أَبي أُمَامَةَ قَالَ: ” خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارٍ بِيضٌ لِحَاهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا وَصَفِّرُوا، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ …
قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ!
قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ، وصحح إسناده محققو المسند.
وبمخالفة المسلمين للمجوس وأهل الكتاب : تتحقق تبعا مخالفتهم لمشركي العرب؛ فإنهم وإن كانوا يعفون اللحى؛ إلا أنه لم يعرف عنهم أنهم كانوا يقصون شواربهم على الهيئة الإسلامية.
رابعا:
المقطوع به عند أهل العلم أن “الإعفاء” هو التوفير، لكن ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا بأس بأخذ ما فحش من طول اللحية.
جاء في “الاختيار لتعليل المختار” (4 / 167) في الفقه الحنفي:
” وإعفاء اللحى، قال محمد عن أبي حنيفة: تركها حتى تكث، وتكثر، والتقصير فيها سنة، وهو أن يقبض الرجل لحيته، فما زاد على قبضته قطعه، لأن اللحية زينة، وكثرتها من كمال الزينة، وطولها الفاحش خلاف السنة ” انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى:
” وأما “إعفاء اللحية”: فهو توفيرها وتكثيرها…
فلا يجوز حلقها، ولا نتفها، ولا قص الكثير منها.
فأما أخذ ما تطاير منها، وما يُشوِّه ويدعو إلى الشُّهرة، طولا وعرضا: فحسن عند مالك وغيره من السلف ” انتهى من “المفهم” (1 / 512 – 513).
وقال النووي الشافعي رحمه الله تعالى:
” (إعفاء اللحية) من الفطرة، فـ (الإعفاء) بالمدّ: قال الخطابي وغيره: هو توفيرها، وتركها بلا قص. كره لنا قصها كفعل الأعاجم. قال: وكان من زي كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب.
قال الغزالي في “الإحياء”: اختلف السلف فيما طال من اللحية؟ فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة. فعله ابن عمر، ثم جماعة من التابعين، واستحسنه الشعبي، وابن سيرين.
وكرهه الحسن، وقتادة، وقالوا: يتركها عافيةً لقوله صلى الله عليه وسلم: (واعفو اللحى). قال الغزالي: والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها؛ لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة.
هذا كلام الغزالي. والصحيح: كراهة الأخذ منها مطلقا، بل يتركها على حالها كيف كانت، للحديث الصحيح: (وأعفوا اللحى) ” انتهى من “المجموع” (1 / 290).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه -أي الإمام أحمد-،كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها ” انتهى من “شرح العمدة- كتاب الطهارة” (1 / 236).
فتبيّن بهذا أن الأخذ من اللحية ، بما لا يزيل عنها صفة الوفرة والإرخاء: هو قول مشهور عند أهل العلم، وسلف الأمة؛ لكن حدّ هذا الأخذ: أقوى ما ورد فيه أن يأخذ المسلم ما زاد على القبضة؛ كما هو مروي عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره.
فذكر البخاري (5892) عن ابْنُ عُمَرَ، أنه كَانَ: ” إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ “.
فإن كان هذا القائل يقصد هذا القول؛ فهو قول معتبر، لا حرج على من عمل به ، لكن الكلام المنقول لا يساعد عليه ، ولا يشبهه !!
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب