عن أبي هريرة أنه قال: سمعت أن رسول الله قال: ( إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، ورجلٌ وسع الله عليه …) صحيح مسلم(4688)، هذا هو الحديث المعروف بالنسبة لنا جميعا، أتساءل عما إذا كان الحديث يقول حرفيّا إن ثلاثة أشخاص أو مجموعات من الشهداء والعلماء والأغنياء سيكونون أول من يذهب إلى الجحيم ؟ هل سيتم معاقبة هؤلاء الناس مؤقتًا لقيامهم بأعمال الخير التي دخلها النفاق ولديهم أساس الإيمان بالإسلام بقلبهم ، حتى يتمكن بعض المؤمنين من الدفاع عنهم لاحقًا؛ لأنهم ربما يكونون قد ارتكبوا بعض الأعمال المخلصة لله؟ وهل ارتكب هؤلاء الناس النفاق الأصغر أم النفاق الأكبر؟ وهل كان المقصود بهذا الحديث الإشارة إلى خبث النفاق، وليس أن هؤلاء الناس قد ارتكبوا نفاقاً أكبر وسيظلون في الجحيم إلى الأبد؟
خطورة الرياء في العلم والجهاد والصدقات
السؤال: 317419
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ رواه مسلم (1905).
قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ .
قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي:
” وفي رواية النسائيّ: ( أَوَّلُ النَّاس يُقْضَى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثَلَاثَةٌ )، والمراد: ثلاثة أصناف، لا ثلاثة أشخاص ” انتهى من” البحر المحيط ” (32 / 573).
هذا الحديث فيه التحذير من الرياء وخطورته.
قال النووي رحمه الله تعالى:
” قوله صلى الله عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار؛ دليل على تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته، وعلى الحث على وجوب الإخلاص في الأعمال، كما قال الله تعالى: ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) ” انتهى من “شرح صحيح مسلم” (13 / 50 – 51).
ثانيا:
الرياء قد يصدر من المنافق النفاق الأكبر؛ كما يدل قول الله تعالى:
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا النساء/142.
وفي هذه الحال هو شرك أكبر؛ لأن رياءهم يمس أصل الدين ولذا كانوا معرضين عن الصلاة، ولا يفعلونها إلا لأجل الناس.
وقد يكون الرياء من الشرك الأصغر، وهو الصادر ممن اطمئن قلبه للإيمان.
عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ .
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟
قَالَ: الرِّيَاءُ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ تُجَازَى الْعِبَادُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُونَ بِأَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً رواه الإمام أحمد في “المسند” (39 / 43)، وحسن إسناده محققو المسند، وصححه الألباني في “صحيح الترغيب والترهيب” (1 / 120).
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” كُنَّا نَعُدُّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ “رواه الحاكم في “المستدرك” (4 / 329) وقال : ” هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ “، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في “صحيح الترغيب والترهيب” (1 / 121).
وهؤلاء الثلاثة؛ هل وقعوا في الشرك الأصغر فكانوا عصاة؟ أم في الشرك الأكبر فكانوا منافقين؟
يحتمل هذا وهذا؛ فإن المنافق ربما قرأ القرآن وربما قاتل بنفسه وماله.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لاَ رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ رواه البخاري (5427)، ومسلم (797).
وعن عُتْبَة بْن عَبْد السُّلَمِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْقَتْلَى ثَلَاثَةٌ:
رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَلِكَ الشَّهِيدُ الْمُمْتَحَنُ فِي خَيْمَةِ اللَّهِ تَحْتَ عَرْشِهِ وَلَا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلَّا بِفَضْلِ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ…
وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِل، َ فَذَلِكَ فِي النَّارِ ؛ إِنَّ السَّيْفَ لا يمحو النِّفَاقَ
.
رواه الإمام أحمد في “المسند” (29 / 203)، ورواه ابن حبان (4663)، وحسّنه الشيخ الألباني في “صحيح الترغيب والترهيب” (2 / 136).
ويكون تخصيص الرياء بهذه الثلاثة بالذكر دون غيرها؛ لأنهم تميّزوا بها بين الناس وصرفوا بها وجوه الناس إليهم ففضحوا بها.
عَنْ جُنْدَب، قال: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ رواه البخاري (6499)، ومسلم (2987).
ويحتمل أن رياءهم كان من الشرك الأصغر ولم يصل إلى درجة أن ينقض إيمانهم؛ وأن سائر عباداتهم، من صلاة وصيام وزكاة وحج كانت خالصة لله، وإنما فتنوا في هذه الأمور الثلاثة.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا، بحيث لا يُراد به سوى مُراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم…
وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز ” انتهى. “جامع العلوم والحكم” (1 / 79).
والأقرب لظاهر الحديث الأول: أنهم لم يكونوا منافقين نفاقا محضا، وإنما كانوا من عصاة المسلمين، بما وقعوا فيه من الرياء، ونحو ذلك؛ وعلى ذلك فيكونون من العصاة الذين يخرجون بعد ذلك من النار ويدخلون الجنة؛ كما ورد في أحاديث عدة عن خروج عصاة المسلمين من النار؛ ومن ذلك حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَمًا قَدْ امْتَحَشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، أَوِ الْحَيَا، فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ إِلَى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً رواه البخاري (6560)، ومسلم (184).
وعلى كل حال ؛ فالحديث فيه تحذير شديد من الرياء سواء كان أصغر أم أكبر، كما سبق في كلام النووي رحمه الله تعالى.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب