لقد قرأت في بعض الكتب أن أبا بكرة رضي الله عنه قد جُلد من قبل عمر؛ لأنه شهد ضد المغيرة بن شعبة بتهمة الزنا، فهل هذا صحيح؟ والحديث في صحيح البخاري الذي يقول:(لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة) رواه أبو بكرة، فإذا كذب أبو بكرة على المغيرة بن شعبة ، فهل هذا يعني أن هذا الحديث ليس صحيحا ؟
عدالة الصحابي أبي بكرة رضي الله عنه.
السؤال: 317554
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
أبو بكرة رضي الله عنه من فضلاء الصحابة ، وأحد نقلة العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومروياته عديدة منتشرة في كتب السنة المعتمدة.
قال النووي رحمه الله تعالى:
” أبو بكرة الصحابي، رضي الله عنه
اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة…
وإنما كُني أبا بكرة؛ لأنه تدلى من حصن الطائف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببكرة، وكان أسلم وعجز عن الخروج من الطائف إلا هكذا.
رُوي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث، واثنان وثلاثون حديثًا، اتفق البخاري ومسلم منها على ثمانية أحاديث، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث. روى عنه ابناه عبد الرحمن ومسلم، وربعي بن خراش، والحسن البصري، والأحنف، وكان أبو بكرة من الفضلاء الصالحين، ولم يزل على كثرة العبادة حتى توفي، وكان أولاده أشرافا بالبصرة في كثرة العلم والمال والولايات.
قال الحسن البصرى: لم يكن بالبصرة من الصحابة أفضل من عمران بن الحصين، وأبي بكرة، واعتزل أبو بكرة يوم الجمل، فلم يقاتل مع أحد من الفريقين. توفي بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة ثنتين وخمسين ” انتهى من “تهذيب الأسماء واللغات” (2 / 198).
ثانيا:
حادثة شهادته على المغيرة رضي الله عنه وإقامة الحد عليه على عهد عمر رضي الله عنه؛ هذه الحادثة لا يجوز ولا يصح أن تتخذ مسوغا لرد روايته والطعن فيه؛ ويتبيّن هذا بأمرين:
الأمر الأول:
هو أنّ ليس كل محدود بحد القذف بالزنا تسقط عدالته، وتضعف روايته وحديثه؛ بل حد القذف بالزنا على ضربين:
الضرب الأول: حدّ القذف الذي سببه الكذب والبهتان؛ كالذي يحصل من سفهاء الناس عند الخصام حيث يقذفون بعضهم البعض في أعراضهم كذبا وبهتانا؛ فهذا القذف يسقط العدالة أصلا فلا تقبل شهادة القاذف ولا روايته لثبوت الكذب عليه.
الضرب الثاني: حدّ القذف الذي لا يلزم منه تعمد المحدود للكذب؛ وهو ما كان على شكل شهادة بأن يأتي أقل من أربعة شهود ويشهدون على شخص بالزنا؛ فلا تقبل شهادتهم لعدم حصول النصاب المطلوب وهو أربعة شهداء؛ فيحدون حدّ القذف.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
” أن في إبطال الرواية بالحد في القذف تفصيلا:
فإن كان المحدود شاهداً عند الحاكم بأن فلاناً زنى، وحُدّ لعدم كمال الأربعة، فهذا لا ترد به روايته؛ لأنه إنما حُدّ لعدم كمال نصاب الشهادة في الزنا، وذلك ليس من فعله.
وإن كان القذف ليس بصيغة الشهادة، كقوله لعفيف: يا زاني، ويا عاهر، ونحو ذلك، بطلت روايته حتى يتوب، أي: ويصلح بدليل قوله تعالى: ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ) الآية…
والحاصل: أن القذف بالشتم ترد شهادته وروايته بلا خلاف، حتى يتوب ويصلح.
والمحدود في الشهادة، لعدم كمال النصاب: تقبل روايته دون شهادته، وقيل: تقبل شهادته وروايته ” انتهى من “مذكرة في أصول الفقه” (ص 194 – 195).
والضرب الثاني هو الذي حصل مع أبي بكرة رضي الله عنه؛ حيث اتهم المغيرة بالزنا على وجه الشهادة، لا على وجه القذف والشتم.
روى الطبري في “التفسير” (17 / 163) وغيره عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: “أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ حَدَّهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُ فِيمَا اسْتَقْبَلَ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ. فَأَكْذَبَ شِبْلٌ نَفْسَهُ وَنَافِعٌ، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَفْعَلَ”.
قال العلائي رحمه الله تعالى:
” وقد ذكر جماعة من أئمة الأصول في هذا الموضع قصة أبي بكرة، ومن جلد عمر رضي الله عنه في قذف المغيرة بن شعبة، وأن ذلك لم يقدح في عدالتهم؛ لأنهم إنما أخرجوا ذلك مخرج الشهادة، ولم يخرجوه مخرج القذف، وجلدهم عمر رضي الله عنه باجتهاده، فلا يجوز رد أخبارهم، بل هي كغيرها من أخبار بقية الصحابة رضي الله عنهم ” انتهى من “تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة” (ص 92).
فهذه الواقعة لا تقتضي كذبه؛ لأنه إنما أخبر بما ظنه حقا؛ وغاية ما حدث أنه رأى امرأة المغيرة، فشبهها بامرأة كانت معروفة ومشهورة في البصرة؛ ولذا لما عاقبه عمر رضي الله عنه بالجلد، طلب منه أن يتوب؛ فأبى أن يكذّب نفسه.
فمثل هذا لا ترد روايته؛ فأبو بكرة رضي الله عنه لم يثبت تعمده للكذب، لا في هذه الحادثة ولا قبلها ولا بعدها؛ بل اشتهر بالخير والصلاح؛ فكيف ترد عدالته بأمر، غاية حاله أنه محتمل ومشكوك فيه ولا يفيد غلبة ظن بتعمد الكذب!؟
قال ابن حزم رحمه الله تعالى:
” وأما أبو بكرة، فيحتمل أن يكون شُبِّه عليه، وقد قال ذلك المغيرة، فلا يأثم هو ولا المغيرة، وبهذا نقول.
وكل ما احتمل، ولم يكن ظاهره يقينا: فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس، فهما على ما ثبت من عدالتهما، ولا يسقط اليقين بالشك ” انتهى من “الإحكام في أصول الأحكام” (2 / 84).
الأمر الثاني:
العلة من رد شهادة ورواية القاذف هو خوف كذبه؛ وهذه العلة منتفية في حق أبي بكرة رضي الله عنه؛ فإن أهل زمنه من أهل العلم وهم أعلم الناس بحاله؛ لم يرتابوا في شيء من روايته، ولم يروا منه ما يوجب الريبة أو الشك؛ فلذا أجمعوا على قبول روايته.
جاء في كتاب “إكمال تهذيب الكمال” (12 / 77):
” وفي “المدخل” لأبي بكر الإسماعيلي: لم يمتنع أحد من التابعين، فمن بعدهم، من رواية حديث أبي بكرة، والاحتجاج بها، ولم يتوقف أحد من الرواة عنه، ولا طعن أحد على روايته من جهة شهادته على المغيرة، هذا مع إجماعهم أن لا شهادة لمحدود في قذف غير تائب فيه؛ فصار قبول خبره جاريا مجرى الإجماع ” انتهى.
وقد تتابع أهل العلم على هذا الإجماع في جميع العصور، فمن وجد في عصرنا من يشكك في أبي بكرة رضي الله عنه فهو محجوج بإجماع الأمة.
ثالثا:
المجمع عليه عند أهل العلم؛ أن الحديث لا يمكن أن يضعف بصحابي؛ بل متفقون على أن كل الصحابة رضوان الله عليهم عدول؛ وإنما يتثبتون في الرواة الذين بعد الصحابي.
قال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
” باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يُحتاج للسؤال عنهم، وإنما يجب ذلك فيمن دونهم.
كل حديث اتصل إسناده، بين من رواه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم: لم يلزم العمل به، إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن:
فمن ذلك قوله تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس )، وقوله: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )، وهذا اللفظ وإن كان عاما، فالمراد به الخاص، وقيل: وهو وارد في الصحابة دون غيرهم…
في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها، ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم…
والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم، مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق لهم، فهم على هذه الصفة، إلا أن يثبت على أحدهم ارتكاب ما لا يَحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط عدالته، وقد برأهم الله تعالى من ذلك، ورفع أقدارهم عنده، على أنه لو لم يَرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين – القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيؤن من بعدهم أبد الآبدين.
هذا مذهب كافة العلماء، ومن يُعتد بقوله من الفقهاء ” انتهى من “الكفاية” (1 / 180 – 187).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب