فيما يتعلق بقول الله تعالى : (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)القصص/88 ، قرأت في “تفسير ابن كثير” أنه فسر وجهه بذاته، وهذا من عقيدة الأشاعرة، فما هو التفسير الصحيح ؟
تفسير قوله تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه )
السؤال: 320415
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا :
قال تعالى : وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ القصص /88.
للعلماء في تفسير هذه الآية قولان :
1- أن الوجه هنا بمعنى الصفة .
2- أو : أن المعنى ؛ إلا ما أريد به وجه الله .
قال “ابن عثيمين” في “شرح الواسطية” (1/ 285) : ” قوله : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ ، أي : فان ، كقوله : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن : 26].
وقوله : إِلاّ وَجْهَهُ : توازي قوله : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ.
فالمعنى : كل شيء فان وزائل ، إلا وجه الله عز وجل ، فإنه باق ، ولهذا قل : لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص : 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ ، أي : إلا ما أريد به وجهه. قالوا : لأن سياق الآية يدل على ذلك : وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص : 88] ، كأنه يقول : لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به ، لأن عملك وإشراكك هالك ، أي : ضائع سدى ، إلا ما أخلصته لوجه الله ، فإنه يبقى ، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه ، نقول : يمكن أن نحمل الآية على المعنيين ، إذ لا منافاة بينهما ، فتحمل على هذا وهذا ، فيقال : كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء ، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين ، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل ” ، انتهى.
ثانيًا :
ما ذكره الإمام “ابن كثير” يلتئم مع ما ذكرناه ، وليس فيه نفي الصفة ، فإن الصفة أطلقت وأريد بها الذات ، فقد قال في “تفسيره” (2/ 261) : ” وَقَوْلُهُ : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ : إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ الدَّائِمُ الْبَاقِي الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، الَّذِي تَمُوتُ الْخَلَائِقُ وَلَا يَمُوتُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ [الرَّحْمَنِ : 26 ، 27] ، فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله ها هنا : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ أَيْ : إِلَّا إِيَّاهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ [كَلِمَةُ] لَبِيَدٍ :
أَلَا كلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي قَوْلِهِ : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ أَيْ : إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ ، وَحَكَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَالْمُقَرِّرِ لَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : وَيَسْتَشْهِدُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ :
أسْتَغْفِرُ اللهَ ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ … رَبّ العبَاد ، إلَيه الوَجْهُ والعَمَلُ …
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ، فَإِنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ كُلِّ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ ، إِلَّا مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْمُطَابِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُقْتَضَاهُ : أَنَّ كُلَّ الذَّوَاتِ فَانِيَةٌ وَهَالِكَةٌ وَزَائِلَةٌ ، إِلَّا ذَاتَهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ” انتهى.
و”ابن كثير” يثبت وجه الله والنظر إليه ، قال في تفسير قوله تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، “يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ لِمَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَبْدَلَهُ الْحُسْنَى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ [الرَّحْمَنِ : 60] .
وَقَوْلُهُ : وَزِيَادَة هِيَ تَضْعِيفُ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا ، وَيَشْمَلُ مَا يُعْطِيهِمُ اللَّهُ فِي الْجِنَانِ مِنَ القُصُور والحُور وَالرِّضَا عَنْهُمْ ، وَمَا أَخْفَاهُ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ .
وَأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَاهُ النظرُ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، فَإِنَّهُ زِيَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ مَا أُعْطُوهُ ، لَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ ، بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ تَفْسِيرُ الزِّيَادَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ الْبَغَوِيُّ : وَأَبُو مُوسَى وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَامِرُ بْنُ سَعْدٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أحاديثُ كَثِيرَةٌ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” .
وساق عددًا كبيرًا في “تفسيره” (4/ 262 – 263) ، فانظره .
وانظر جواب السؤال رقم : (289741).
ثانيًا :
وصفة “الوجه” ثابتة لله تعالى ، وهو : ” صفةٌ ذاتيةٌ خبرِيَّة لله عَزَّ وجَلَّ ثابتة بالكتاب والسنة.
الدليل من الكتاب :
1- قوله تعالى : وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ البقرة/ 272 .
2- وقوله : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ الرعد/22 .
الدليل من السنة :
1- حديث ابن مسعود رضي الله عنه : “لما قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين ، وقال رجل : والله إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها ، وما أريد فيها وَجْه الله … ” البخاري (3150) ، ومسلم (1062) .
2 – حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الثلاثة الذين حُبِسُوا في الغار ، فقال كل واحد منهم : (اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ؛ ففرج عنا ما نحن فيه …)البخاري (2272) ، ومسلم (2743) .
3- حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : (… إنك لن تخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وَجْه الله ؛ إلا ازددت به درجة ورفعة … ) البخاري (6733) ، ومسلم (1628) .
قال إمام الأئمة ابن خزيمة في “كتاب التوحيد” (1/25) بعد أن أورد جملة من الآيات تثبت صفة الوَجْه لله تعالى : “فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر ؛ مذهبنا : أنا نثبت لله ما أثبته
الله لنفسه ، نقر بذلك بألسنتنا ، ونصدق ذلك بقلوبنا ؛ من غير أن نشبه وَجْه خالقنا بوَجْه أحد من المخلوقين ، عز ربنا أن يشبه المخلوقين ، وجل ربنا عن مقالة المعطلين” .
وقال الحافظ ابن منده في “كتاب التوحيد” (3/36) : “ومن صفات الله عَزَّ وجَلَّ التي وصف بها نفسه قوله : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ، وقال : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بوَجْه الله من النار والفتن كلها ، ويسأل به … ” ، ثم سرد أحاديث بسنده ، ثم قال : ” بيان آخر يدل على أنَّ العباد ينظرون إلى وَجْه ربهم عَزَّ وجَلَّ” ، وسرد بسنده ما يدل على ذلك.
وقال قَوَّام السُّنَّة الأصفهاني في “الحجة” (1/199) : ” ذكر إثبات وَجْه الله عَزَّ وجَلَّ الذي وصفه بالجلال والإكرام والبقاء في قوله عَزَّ وجَلَّ : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجلاَلِ وَالإِكْرَام ” اهـ.
وانظر : “أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” للالكائي (3/412) ، و “تفسير ابن جرير” لقوله تعالى : وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ، وتفسير الآية نفسها من “أضواء البيان” ، ” انتهى من “صفات الله” للسقاف : (368 – 369).
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب