كيف نفرق بين أن من يطعن في عرض نبي يكون كافراً، وبين قول الإمامين الحسن البصري ومجاهد أن ابن نوح الكافر ابن زنا ؟
توجيه قول مجاهد والحسن في ابن نوح عليه السلام
السؤال: 325015
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
قال الله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هود/45 – 46 .
فالراجح في تفسير قول الله تعالى: قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس من أهلك المؤمنين المستحقين للنجاة، وليس بمعنى نفي النسب، والآيات السابقة تقوي هذا التفسير، وذلك في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ هود/40.
فيكون ابنه من أهله نسبا، لكن استثني من أهله الناجين بسبب كفره.
وقوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ هود/42.
فأخبر الله في هذه الآية أنه ابن نوح حيث قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ .
قال الطبري رحمه الله تعالى:
” وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا، وبي كافرًا، وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ) ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه، فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف “الدين” فيقال: (إنه ليس من أهلك) ، كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) ” انتهى من”تفسير الطبري” (12 / 433).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” وقال ابن عباس، وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط، قال: وقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي: الذين وعدتك نجاتهم.
وقول ابن عباس في هذا: هو الحق الذي لا محيد عنه، فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (4 / 326).
ثانيا:
ذهب الحسن ومجاهد رحمهما الله تعالى إلى خلاف القول الراجح، فقالا إنه ليس ابنه.
روى عبد الرزاق في “التفسير” (2 / 190) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ” كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ، فَقَالَ: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ) ؛ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا هُوَ ابْنُهُ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ )، وَتَقُولُ: لَيْسَ بِابْنِهِ!
قَالَ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكِ )؟
قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكِ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنَجِّيَهُمْ مَعَكَ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ ابْنُهُ.
قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْذِبُونَ “.
وروى الطبري في “التفسير” (12 / 427)، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حدثَنَا أَبُو عَاصِمٍ -الضحاك بن مخلد-، قَالَ: حدثَنَا عِيسَى -ابن ميمون-، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ” -قوله تعالى- ( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) قَالَ: تَبَيَّنَ لِنُوحٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ “.
وهذا التفسير المروي عنهما، يلزم منه وقوع زوجة نوح عليه السلام في الفاحشة.
ولا شك أن نسبة الفاحشة إلى الزوجة تعود على زوجها بالنقص ويعاب بذلك، وهذا أمر يناقض اصطفاء الله تعالى لنوح عليه السلام.
لكن أهل العلم مع ردهما لقول الحسن ومجاهد رحمهما الله تعالى ، إلا أنهم لم يطعنوا فيهما بسبب هذا التفسير ولازمه؛ لأنهما ممن ثبتت إمامتهما في الدين، واشتهر تعظيمهما لله تعالى ورسله وشرعه؛ ودافعهما إلى هذا التفسير ليس الهوى، وإنما قصدهما متابعة الوحي، فاشتبه عليهما فهم لفظ الآية: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، وقوله تعالى: ( فَخَانَتَاهُمَا ).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه، وإنما كان ابن زِنْية، ويحكى القول بأنه ليس بابنه، وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد، والحسن، وعبيد بن عمير، وأبي جعفر الباقر، وابن جريج، واحتج بعضهم بقوله: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) وبقوله: ( فَخَانَتَاهُمَا )، فممن قاله الحسن البصري، احتج بهاتين الآيتين. ” انتهى من “تفسير ابن كثير” (4 / 326).
ومن ظهر لنا أنه لم يتعمد مجانبة الحق وإنما جانب الصواب بتأويل سائغ، وهو حريص على متابعة الوحي، فهو معذور، وهذه هي العقيدة التي اجتمع عليها أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ.
وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية. وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها.
وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع ” انتهى من “منهاج السنة” (5 / 239).
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى:
” قال العلماء كل متأول معذور بتأويله ، ليس بآثم إذا كان تأويله سائغا في لسان العرب ، وكان له وجه في العلم ” انتهى من “فتح الباري” (12 / 304).
وأما ما يحصل من الرافضة من الطعن في عرض نوح عليه السلام؛ فمن المعلوم من حالهم أنهم يقولون بهذا القول ، ليس حرصا على اتباع الوحي ، وإنما لتقوية جريمتهم في الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والمقطوع من حال الروافض أنهم أهل كذب وبهتان، يتناقضون في استدلالاتهم، فهؤلاء لا يعذرون كعذر المنصف الباحث عن الحق الحريص عليه ، كالحسن ومجاهد رحمهما الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وهؤلاء الرافضة يرمون أزواج الأنبياء: عائشة وامرأة نوح بالفاحشة؛ فيؤذون نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء من الأذى بما هو من جنس أذى المنافقين المكذبين للرسل، ثم ينكرون على طلحة والزبير أخذهما لعائشة معهما لما سافرا معها من مكة إلى البصرة، ولم يكن في ذلك ريبة فاحشة بوجه من الوجوه. فهل هؤلاء إلا من أعظم الناس جهلا وتناقضا؟…
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظمون أنساب الأنبياء: آباءهم وأبناءهم، ويقدحون في أزواجهم؛ كل ذلك عصبية ، واتباع هوى ، حتى يعظمون فاطمة والحسن والحسين، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين، فيقولون – أو من يقول منهم -: إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنا، وإن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم كانا مؤمنين…
وهذا الذي فعلوه مع ما فيه من الافتراء والبهتان ، ففيه من التناقض وعدم حصول مقصودهم ما لا يخفى. وذلك أن كون الرجل ، أبوه أو ابنه كافرا ، لا ينقصه ذلك عند الله شيئا، فإن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
ومن المعلوم أن الصحابة أفضل من آبائهم، وكان آباؤهم كفارا، بخلاف كونه زوج بغي؛ فإن هذا من أعظم ما يذم به ويعاب؛ لأن مضرة ذلك تدخل عليه، بخلاف كفر أبيه أو ابنه…
وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي تواتر إيمانه، ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة…
والرافضة وأمثالهم من أهل الجهل والظلم يحتجون بالحجة التي تستلزم فساد قولهم وتناقضهم… ولكن منتهاهم مجرد الهوى الذي لا علم معه، ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )” انتهى من “منهاج السنة” (4 / 349 – 358).
فالحاصل؛ أن في مثل هذه المسائل ينظر إلى حال الشخص ومدى حرصه على اتباع الوحي ومجانبته للهوى.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه ” انتهى من “مدارج السالكين” (3 /521).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب