ذكر موقع إلكتروني العديد من الأحاديث التي تدعم القيام بالأذكار بانسجام جماعي بصوت واحد، وأنّه ليس بدعة. ومن بين تلك الأحاديث: ما روى أحمد بسلسلة جيدة في مسنده عن عقبة بن عمير: قال النبي عن رجل يدعى ذو البجادين: (إنه أواه)؛ وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء”. وما هو موقف المحدثين بشأن هذا الحديث؟
الجواب على استدلال الصوفية بحديث ذو البجادين على مشروعية الجهر بالذكر جماعة
السؤال: 325313
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
حديث ذي البجادين رضي الله عنه، رواه الإمام أحمد في “المسند” (28 / 655)؛ قال: حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ:
” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْبِجَادَيْنِ: إِنَّهُ أَوَّاهٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الذِّكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الدُّعَاءِ “.
ومدار إسناد هذا الحديث على ابن لهيعة، فرواه الإمام أحمد عن موسى بن داود الضَبّي عن ابن لهيعة.
وعبد الله بن لهيعة: قد تكلم فيه أئمة العلم وضعّفه جمع منهم.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” وكان من بحور العلم، على لين في حديثه…
لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معا، كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة…
ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم.
وبعض الحفاظ يروي حديثه، ويذكره في الشواهد والاعتبارات، والزهد، والملاحم، لا في الأصول.
وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره، وتتجنب تلك المناكير، فإنه عدل في نفسه…
وما رواه عنه ابن وهب والمقرئ والقدماء: فهو أجود ” انتهى من “سير أعلام النبلاء” (8 / 13 – 14).
فذهب جمع من المحققين من أهل العلم إلى قبول حديث ابن لهيعة إذا كان من رواية رواة معينين عنه كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك.
وموسى ابن داود الذي روى عنه هذا الحديث ليس منهم، وكذا عثمان بن صالح السهمي، فعند الطبري في “التفسير” (12 / 44) من حديث عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، عن ابْن لَهِيعَةَ، قَالَ: ثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ: إِنَّهُ أَوَّاهٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ رَجُلٌ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ” .
ورواه الطبراني في “المعجم الكبير” (17 / 295) وغيره، من حديث سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وهو ثقة، عن ابْن لَهِيعَةَ وساق الحديث لكن من دون لفظة: (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ).
وبسبب ابن لهيعة ضعف محققو المسند إسناد هذا الحديث؛ لكن حسنوا متنه لوجود شواهد له.
الشاهد الأول: ما رواه الطبراني في “المعجم الكبير” (11 / 141) عن يَحْيَى بْن يَمَانٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
” دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرًا لَيْلًا وَأُسْرِجَ لَهُ فِيهِ سِرَاجًا، فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَقَالَ: رَحِمَكَ اللهُ إِنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تلَّاءً لِلْقُرْآنِ .
وهذا الحديث في إسناده حجاج بن أرطاة وهو متكلم فيه، وموصوف بكثرة الخطأ والتدليس. قال الحافظ ابن حجر بقوله:
” حجاج بن أرطاة … الكوفي القاضي أحد الفقهاء، صدوق، كثير الخطأ والتدليس ” انتهى من “تقريب التهذيب” (ص 152).
وهو لم يسمع من ابن عباس، والراوي عنه المنهال بن خليفة وحديثه ضعيف عند أهل العلم، وكذلك يحيى بن يمان متكلم فيه.
ومع ضعف إسناده، ليس فيه مسألة رفع صوته بالذكر والدعاء، وإنما فيه إشارة إلى كثرة تلاوته.
الشاهد الثاني:
رواه الإمام أحمد في “المسند” (31 / 306)؛ قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ:
” كُنْتُ أَحْرُسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَخَرَجَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، قَالَ: فَرَآنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقْنَا، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا.
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! يُصَلِّي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ؟ قَالَ: فَرَفَضَ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ .
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَأَنَا أَحْرُسُهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَرَرْنَا عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ، قَالَ: فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَلَّا إِنَّهُ أَوَّابٌ قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ “.
وفي سنده هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وهو ضعيف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
” هشام بن سعد مولى بني مخزوم، صدوق مشهور.
ضعفه النسائي وغيره.
وكان يحيى القطان لا يحدث عنه. وقال أحمد: ليس هو محكم للحديث. وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن معين: ليس بذاك القوي ” انتهى من “المغني” (2 / 710).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” هشام بن سعد المدني: صدوق له أوهام ” انتهى من “تقريب التهذيب” (ص 572).
وقال محققو المسند: ” إسناده ضعيف، تفرد به هشام بن سعد، وهو ضعيف ” انتهى.
ومع هذا الضعف؛ فليس فيه ما يشهد لمسألة أنه كان يرفع صوته بالدعاء، بل غاية ما يشير إليه هذا الحديث: أن ذا البجادين رضي الله عنه كان يجهر بقراءة القرآن أثناء قيامه بالليل؛ وهذا أمر لا علاقة له بمسألة رفع الصوت بالذكر والدعاء جماعة خارج الصلاة.
الشاهد الثالث:
ما أورده ابن الأثير في كتابه “أسد الغابة” (3 / 124)، قال:
” أخبرنا عبيد اللَّه بْن أحمد بْن عَلِيٍّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى يونس بْن بكير، عن ابن إِسْحَاق، قال: حدثني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الحارث التيمي، قال:
” كان عَبْد اللَّهِ، رجل من مزينة ذو البجادين، يتيمًا في حجر عمه، فكان يعطيه، وكان محسنًا إليه، فبلغ عمه أَنَّهُ قد تابع دين مُحَمَّد، فقال له: لئن فعلت وتابعت دين مُحَمَّد لأنزعن منك كل شيء أعطيتك، قال: فإني مسلم، فنزع منه كل شيء أعطاه حتى جرده من ثوبه، فأتى أمه فقطعت بجادًا لها باثنين، فاتزر نصفًا، وارتدى نصفًا، ثم أصبح فصلى مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبح، فلما صلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصفح الناس ينظر من أتاه، وكان يفعل، فرآه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد العزى، فقال: أنت عَبْد اللَّهِ ذو البجادين، فالزم بابي!
فلزم باب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يرفع صوته بالقرآن والتسبيح والتكبير، فقال عمر: يا رَسُول اللَّهِ، أمراء هو؟ قال: (دعه عنك، فإنه أحد الأواهين) ” انتهى.
وهذا الخبر إن صح سنده إلى مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن الحارث التيمي، فهو مرسل.
ومع ضعف إسناده؛ فإنه لم ينص على أنه كان يبالغ في رفع صوته، أو أنه كان على هيئة أصحاب الحلقات والطرق المعروفة.
فالحاصل؛ أن حديث عقبة بن عامر مع الوهن الذي في إسناده؛ وما فيه من رفع الصوت بالدعاء: ليس بثابت في جميع رواياته؛ فليس فيه إشارة من قريب ولا بعيد على الذكر الجماعي بالهيئة المعروفة لدى الصوفية.
ولا يصح أن تعارض بمثل هذه المرويات ، النصوص المحكمة الثابتة من الكتاب والسنة الدالة على السكون والخشوع أثناء العبادة بالذكر والدعاء وعلى عدم رفع الصوت والصياح بهما.
قال الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ الأعراف/205 .
وقال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الأعراف/55.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” وقد قال تعالى: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ) فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: أمروا أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح، وتأمل كيف قال في آية الذكر: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ ) الآية. وفي آية الدعاء: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ) فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل، والتمسكن، والانكسار وهو روح الذكر والدعاء ” انتهى من”مجموع الفتاوى” (15 / 19).
وقال ابن المنير رحمه الله تعالى:
” وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء: اقترانه بالتضرع في الآية. فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه، ولا خشوع؛ لقليل الجدوى؛ فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار، يصحبه .
وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع ، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستد المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد.
وربما حصلت للعوام حينئذ رقة، لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار، وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل ، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء ، وفي خفض الصوت به : أوفر وأوفى وأزكى.
فما أكثر التباس الباطل بالحق على عقول كثير من الخلق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ” انتهى من “الانتصاف – مع الكشاف” (2 / 450).
وقد مدح الله تعالى عبده زكريا؛ حيث قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا مريم/2 – 3.
قال أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى:
” اعلموا أرشدكم الله؛ أن الله أمر بإخفاء الدعاء وأثنى على من أخفاه، قال الله سبحانه وتعالى:( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ).
ثم أثنى على من أخفاه فقال تعالى: ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ).
وعن أبي موسى الأشعري، في السنن، قال: ( كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزاة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ ) ” انتهى من “الدعاء” (ص 90).
وينظر جواب السؤال رقم: (276121) ورقم: (143924)
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة