نحن نعلم علم اليقين أن أهل التصوف الفرقيين ليسوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم بين مبتدعة بدعة غير مكفرة، ومبتدعة بدعة مكفرة: كدعاء أصحاب القبور، ومع ذلك فقد شهد تاريخ المسلمين أناساً شهدت لهم الأمة على صلاحهم وهدايتهم، وكانوا صوفيين: كنور الدين الزنكي، وصلاح الدين الأيوبي، ومحمد الفاتح، ودائماً نسمع المتصوفة في مساجدهم يرتكزون إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح: (فنعم الأمير ذلك الأمير ونعم الجيش ذلك الجيش)، بأن هذا دليل على كون منهج الصوفية هو الحق؛ بعلامة أن رسول الله امتدح محمد الفاتح الذي كان عليه، فهل خبر كون هؤلاء الأبطال المسلمين متصوفة حقيقي؟ وهل كان تصوفهم مشابه لتصوف أهل اليوم من ناحية البدع؟ وهل كونهم متصوفة وهذا الحديث دليل على أن التصوف هو الحق؟
كيف ورد في السنة النبوية مدح فاتح القسطنطينية وقد كان صوفيا؟
السؤال: 330117
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
ينبغي التفريق في التأريخ لـ"التصوف" بين أمرين:
الأمر الأول: ظهور المصطلح – تصوف/صوفي/صوفية- والتسمي به، والانتساب إليه؛ وهذا أمر حادث متأخر عن القرون الثلاثة المفضلة.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (201911)، ورقم: (166464).
الأمر الثاني: التصوف باعتباره مسلكا أخلاقيا، وطريقا في العبادة والزهد؛ وهو بهذا المعنى العام: يطلق على كل الاتجاهات التي زاد اعتناؤها بأبواب العمل الباطن، وتدور نصوصهم وممارساتهم حول القلب وعباداته وأمراضه، والنفس وتزكيتها وعيوبها، مع مبالغة في الزهد والتعبد وقطع الاشتغال بالدنيا؛ طلبًا لتصفية النفس ومعرفة الحق من طريق التقوى والعمل والعرفان.
وهذه الاتجاهات ظهرت بداية من القرن الأول الهجري في البصرة، ومن أعلامها الحسن البصري ومالك بن دينار، وحصل لها نوع تأثر بالأقوال والأحوال المنقولة عن السابقين من أهل الكتاب، لا سيما المذكور في كتب النصارى، وأحاديثهم، وأخبارهم، وهو الأمر الذي كان شائعا في البصرة، مع وجود مساحة حق ، كانت كبيرة في ذلك الوقت، تتقاطع مع السلوك النبوي وهدي الصحابة.
ولم نصل إلى القرن الخامس الهجري حتى كان التصوف قد ترسخ في البنية الثقافية والمجتمعية الإسلامية ، وصار واقع الاشتغال الديني الإسلامي يقسم إلى:
النظر في أبواب العقائد نظرًا معرفيًا، وهذه وظيفة المتكلمين.
النظر في أبواب الأعمال والفروع ، وهذه وظيفة الفقهاء.
النظر في إصلاح القلب والجوارح، والعمل بالعلم الذي في القسمين السابقين، وهي وظيفة علماء السلوك والتصوف.
وصار لكل عالم معتقده الكلامي، ومذهبه الفقهي وطريقته الصوفية.
ومع التطور التاريخي دخلت ثلاثة مكونات على هذه الصورة، قد تجتمع في اتجاه أو شخص ، وقد تفترق:
الأول: التأثر بالفلسفات الغنوصية وباتجاهات التصوف اليهودية والمسيحية والهندية والفارسية.
الثاني: التأثر بالمذاهب الحلولية بالتحديد من تلك الفلسفات السابقة.
الثالث: دخول الممارسات البدعية، ثم الوثنية والشركية ، وعبادة القبور ، ورفع مراتب الأولياء حتى تصرف لهم بعض العبادات التي يعد صرفها لغير الله شركا.
فصار التصوف بحسب اختلاطه بمكون خارجي أو أكثر، على أربعة أنواع:
الأول: تصوف سني ، يسدد ويقارب في اقتفاء السلوك النبوي، وهدي الصحابة والتابعين، مع فيه أنواع من المبالغة والتدقيق، وطرف من الآراء والممارسات الخاطئة؛ لكن يظل التوجه العام له داخل دائرة الاجتهاد في طلب السنة ، ولا يلتزم أصلا بدعيا يحصل به الافتراق عن أهل السنة. ومن أمثلته تصوف الحسن والمحاسبي والجنيد والجيلاني وابن الجوزي.
الثاني: تصوف بدعي، فيه من طلب الحق والسنة الكثير لكن لا يخلو من بعض البدع، كتدقيقات أشد إيغالا في العجمة، وأبعد عن السنة، من تدقيقات النوع الأول، وبدع في السلوك والعمل، كالسماع والرقص والطرق والعهود ونحو ذلك، ومن أمثلته تصوف السلمي والقشيري والهروي ونحوهم.
الثالث: تصوف شركي، وفيه ما عند الطائفتين السابقتين ، ويزيد عليه بدع القبور وشركيات الاستغاثة بالأولياء، ويوجد عند كثير من أعلام ما بعد القرن الثامن الهجري.
الرابع: تصوف فلسفي غنوصي باطني ، أو حلولي اتحادي، وهو أبعد مراتب التصوف عن مقالات الإسلاميين وكثير من أعلامه قيل بكفرهم، ومنهم السهروردي المقتول، وابن عربي، والرومي وابن سبعين.
ثانيًا:
كان السلطان محمد الفاتح ككثير من السلاطين العثمانيين، صوفيًا على الطريقة المولوية، ولما افتتح القسطنطينية عام: (857هـ) ابتنى على قبر أبي أيوب الأنصاري ضريحًا وبنى بجواره مسجدًا، وبنى على الضريح قبة.
وهذا التصوف البدعي من سيئاته، كما أن فتح القسطنطينية من حسناته، والمسلم تجتمع فيه حسنات وسيئات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وَالصَّوَابُ: لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَيْرَ الْقُرُونِ : الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الطُّرُقِ وَالسُّبُلِ إلَى اللَّهِ : مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ .
وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ : أَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَوُسْعِهِمْ.
وأنَّ كثيرًا من المؤمنين – المتقين أولياء الله – : قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصَّحابة، فيتقي الله ما استطاع، ويطيعه بحسب اجتهاده؛ فلا بد أن يصدر منه خطأ، إما في علومه وأقواله، وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم، ويُغْفَر لهم خطاياهم.
فمن جعل طريقَ أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك – أفضلَ من طريق الصحابة، فهو مخطئ ضالٌّ مبتدع.
ومن جعل كلَّ مُجتهد في طاعة، أخطأ في بعض الأمور: مذمومًا معيبًا مَمقوتًا؛ فهو مخطئ ضالٌّ مبتدع.
ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة: هم أيضًا مجتهدون، يصيبون تارة، ويُخطئون تارة.
وكثير من الناس: إذا عَلِمَ مِنَ الرجُل ما يُحبه؛ أحَبَّ الرجل مطلقًا، وأعرض عن سيئاته.
وإذا علم منه ما يُبغضه، أبغضه مُطلقًا، وأعرض عن حسناته.
وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
وأهلُ السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وهو أنَّ المؤمنَ يستحقُّ وَعْدَ الله وفضله والثوابَ: على حسناته، ويستحق العقاب: على سيئاته.
وأنَّ الشخصَ الواحد يَجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يُحمد عليه، وما يُذَمُّ عليه، وما يحب منه، وما يبغض منه، فهذا وهذا" انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/15).
ثالثًا:
حديث: "لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش"، هو حديث ضعيف لا يثبت.
ينظر: "السلسلة الضعيفة" للألباني، رحمه الله، رقم (878).
ويراجع أيضا جواب السؤال رقم: (203078).
في صحيح مسلم كتاب الفتن عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاءُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا -قَالَ ثَوْرٌ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ، إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَيَرْجِعُونَ.
وفي صحيح مسلم (2897) عن أبي هريرة رضي الله عنه:
"لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا، قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشأم خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته"
فالظاهر والله أعلم أن فتح القسطنطينية الثابت مدحه في السنة ومدح جيشه هو فتح آخر الزمان.
قال الشيخ العلامة أحمد شاكر رحمه الله: " فتح القسطنطينية المبشر به في الحديث: سيكون في مستقبل قريب أو بعيد، يعلمه الله عز وجل. وهو الفتح الصحيح لها، حين يعود المسلمون إلى دينهم الذي عرضوا عنه.
وأما فتح الترك الذي كان قبل عصرنا هذا: فإنه كان تمهيدا للفتح الأعظم.
ثم هي قد خرجت بعد ذلك من أيدي المسلمين، منذ أعلنت حكومتهم هناك أنها حكومة غير إسلامية وغير دينية، وعاهدت الكفار أعداء الإسلام، وحكمت أمتها بأحكام القوانين الوثنية الكافرة.
وسيعود الفتح الإسلامي لها، إن شاء الله، كما بشر به رسول الله". انتهى، من "حاشية عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير" (2/256).
وانظر جواب الأسئلة التالية: (371193)، (217491)، (220230).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة