ما صحة قول أنس بن مالك رضي الله عنه : "وشَهِدْتُهُ يومَ موتِهِ، فما كانَ أقبحَ، ولا أظلَمَ من يومٍ ماتَ فيهِ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلَى آلِهِ وسلَّمَ؟ وهل يتعارض مع حديث النهي عن سب الدهر؟
هل قول أنس بن مالك: مَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيه سب للدهر؟
السؤال: 357548
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذا الحديث رواه الإمام أحمد في "المسند" (21 / 450)، وغيره: عن حَمَّاد بن سلمة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْتَلِفُ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ يُعْرَفُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرَفُ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنْ هَذَا الْغُلَامُ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ قَالَ: هَذَا يَهْدِينِي السَّبِيلَ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ نَزَلَا الْحَرَّةَ، وَبَعَثَا إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَاءُوا، فَقَالُوا: قُومَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ.
قَالَ: فَشَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ، وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ.
وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَاتَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
ورجال إسناده ثقات، وقد صححه محققو المسند.
ورواه الترمذي (3618) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَيْدِي وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا " وقال الترمذي: "هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ".
وقوله: ( فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ ).
أقبح: أي : أبعد من الحسن .
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
" قَبَحَ: كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْحُسْنِ " انتهى من "معجم مقاييس اللغة" (5 / 47).
ومعناها كقوله في الرواية الأخرى: ( أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ ). أي: لما يشعرون به من شدة الحزن على فراق النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ محمد الأمين الهرري رحمه الله تعالى:
" أي: لما حصل ( اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .. أضاء منها) أي: من المدينة (كلّ شيء) فيها، وهذا كناية عن فرح أهلها وسرورهم بقدومه صلى الله عليه وسلم، (فلما كان اليوم الذي مات فيه) رسول الله صلى الله عليه وسلم .. (أظلم منها) أي: من المدينة (كلّ شيء) فيها، وهذا كناية عن شدة حزن أهلها وتأسفهم بوفاته صلى الله عليه وسلم " انتهى من "شرح سنن ابن ماجة" (9 / 472).
فما ورد من كلام أنس هو مجرد وصف لمشاعرهم في يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لم يَرد ما ينهى عنه، وإنما النهي جاء عن السبّ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ رواه البخاري (4826)، ومسلم (2246).
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" قال الشافعي تأويل ذلك – والله أعلم – أن العرب كان شأنها أن تسب الدهر وتذمه عند المصائب التي تنزل بهم من موت، أو هدم، أو ذهاب مال، أو غير ذلك من المصائب، وتقول: أصابتنا قوارع الدهر وأبادهم الدهر، وأنا عليهم الدهر، والليل والنهار يفعل ذلك بهم، فيذمون الدهر بذلك ويسبونه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا الدهر ) على أنه الذي يفعل بكم ذلك، فإنكم إذا سببتم فاعل ذلك وقع سبكم على الله – عز وجل – فهو الفاعل لذلك كله، وهو فاعل الأشياء ولا شيء إلا ما شاء الله العلي العظيم " انتهى من "الاستذكار" (27 / 310).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما. إما سبه لله، أو الشرك به.
فإنه إذا اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله، فقد سب الله " انتهى من "زاد المعاد" (2 / 324).
وقول أنس رضي الله عنه ليس سبّا، و لم يعط لليوم قدرة على التصرف، بل هو مجرد وصف لحالهم ومشاعرهم في ذلك اليوم.
وهذا كقول الله تعالى عن هلاك قوم عاد:
( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ) فصلت/16.
وقال تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) القمر/19.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" فإن قال قائل: قول الله عز وجل: ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) فيه إضافة النحس إلى الأيام؟
فالجواب: لا بأس به، كما قال لوط عليه الصلاة والسلام: ( هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ).
وهذا إذا كان المراد به مجرّد الخبر، كما هنا، وأمّا إذا كان المراد به العيب والسبّ فإنه لا يجوز، فإذن يكون هذا السبّ أو العيب إمّا أن يكون على سبيل الإخبار أو على سبيل السبّ، على الأول جائز، وعلى الثاني غير جائز " انتهى من "تفسير سورة فصلت" (ص 101).
وراجع للفائدة جواب السؤال رقم :(131066).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة