0 / 0

ما معنى قول الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )؟

السؤال: 393809

مع انتشار موجة تمييع الدين وخلط شريعة الإسلام بباقي الشرائع، نسمع تفاسير عجيبة لبعض آيات القرآن، ومن ذلك تفسير كلمة (السلم) في آية (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) ب"السلام"؛ يعني يقصدون السلام مع باقي الناس، وعدم النزاع معهم، وإقرارهم على كفرهم، وتركهم بلا دعوة، وألا نقيم الحجة عليهم، … إلخ ، وقرأت أكثر من تفسير لهذه الآية، ولم أجد شيئا كهذا، بل كل التفاسير التي قرأتها ترجح أن معنى الآية هو (ادخلوا في شرائع الإسلام كلها)، فهل حقا نستطيع تفسير الآية بهذا الشكل العجيب؟

ملخص الجواب

إن قول الله تعالى : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) أمرٌ من الله لعباده أن يدخلوا في شرائع دينه جميعها، لا يقبلوا شيئا منه ، ويدعوا آخر، ولا يتخيَّروا على الله .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

قال الله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) البقرة/208.

تفاسير أئمة السلف لعبارة: ( فِي السِّلْمِ ): تدور على الإنقياد والطاعة لشرائع الإسلام.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" وفي ( السِّلْمِ ) ثلاث لغات:

كسر السين وتسكين اللام. وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في "البقرة"، وفتحا السين في "الأنفال" وسورة "محمد".

وفتح السين مع تسكين اللام. وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائي في المواضع الثلاثة.

وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في "البقرة" خاصة.

وفي معنى (السِّلْمِ) قولان:

أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين.

والثاني: أنها الطاعة، روي عن ابن عباس أيضا، وهو قول أبي العالية، والربيع " انتهى. "زاد المسير" (1/ 224-225).

وتفسير "السلم" بالإسلام: ثابت عن غير واحد من السلف، بأسانيد صحيحة.

كمثل ما رواه عبد الرزاق في "التفسير" (1 / 331)، قال: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )، قَالَ: ادْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا ".

وكمثل ما ورد في التفسير المطبوع باسم "تفسير مجاهد" (ص 231) عن آدَم – بن أبي إياس، قَالَ: أخبرنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )، يَعْنِي: فِي الْإِسْلَامِ جَمِيعًا ".

وقال الدكتور حكمت بن بشير بن ياسين:

" أخرج آدم بسنده الصحيح عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ )، قال: ادخلوا في الإسلام جميعا" انتهى من "الصحيح المسبور " (1/320).

قال شيخ المفسرين، الإمام الطبري رحمه الله تعالى، في تقرير أن "السلم" في الآية هو الإسلام:

" وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله: ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )، وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين:

إما أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمد، المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: "ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"؛ لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربا؛ بترك الحرب. فأما الوليّ فلا يجوز أن يقال له: "صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا عداوة.

أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدا ونبوته، فقيل لهم: ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ )، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم، دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى السلم، فقال: ( فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ )؛ وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ: المصالحة، فقال له جل ثناؤه: ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )، فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن " انتهى من "تفسير الطبري" (3/598).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" وقد قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) قال مجاهد وقتادة: نزلت في المسلمين؛ يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها.

وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، أو فيمن لم يسلم؛ لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك.

والجمهور يقولون: ( فِي السِّلْم ) أي في الإسلام.

وقالت طائفة: هو الطاعة.

وكلاهما مأثور عن ابن عباس، وكلاهما حق؛ فإن الإسلام هو الطاعة، كما تقدم أنه من باب الأعمال.

وأما قوله: (كَافَّةً): فقد قيل: المراد ادخلوا كلُّكم.

وقيل: المراد به: ادخلوا في الإسلام جميعِه. وهذا هو الصحيح، فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره، وإنما يؤمر بما يقدر عليه… " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7/266).

ثانيا:

على فرض أن: (السِّلْمِ) في هذه الآية بمعنى: المسالمة والمصالحة؛ فعقد "الصلح" أو "السلام" مع أهل الكفر، لا يلزم منه إقرارهم على الكفر، وعدم دعوتهم إلى الإسلام.

فالقول بأن هذا العقد يقتضي عدم إنكار كفر الكافر، وعدم دعوته إلى الإسلام: قول يبطل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أصلها!!

فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة كان مأمورا بالعفو والإعراض عن الكفار وعدم محاربتهم، وكان مع هذا يؤمر بالصدع بالحق بينهم وعدم مداهنتهم. قال الله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر/94.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ).

أي: فاجهر به وأظهره؛ من قولهم: صدع بالحجة؛ إذا تكلم بها جهارا، كقولك: صرح بها.

وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُمر به علنا، في غير خفاء ولا مواربة.

وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: ( يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر، فبلغ على أكمل وجه، في مواضع أخر؛ كقوله: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )، وقوله: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ )، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ).

في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء:

أحدهما: أن معنى: ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )، أي: لا تُبالِ بتكذيبهم واستهزائهم، ولا يصعب عليك ذلك. فالله حافظك منهم…

الوجه الثاني: وهو الظاهر في معنى الآية: أنه كان في أول الأمر مأمورا بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: ( اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ )، وقوله: ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ )، وقوله: ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )، وقوله: ( وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ) " انتهى من "أضواء البيان" (3 / 242 – 244).

وقال الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) القلم/9.

قال الطبري رحمه الله تعالى:

" وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: ودّ هؤلاء المشركون، يا محمد، لو تلين لهم في دينك، بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جلّ ثناؤه: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ )؛ وإنما هو مأخوذ من الدُّهن، شَبَّه التليين في القول، بتليين الدُّهن " انتهى من "تفسير الطبري" (23/157).

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" قال: ( وَدُّوا ) أي: المشركون ( لَوْ تُدْهِنُ ) أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول، أو الفعل، أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ( فَيُدْهِنُونَ ). ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره: بنقض ما يضاده، وعَيْب ما يناقضه " انتهى. "تفسير السعدي" (ص 879).

وبعض من حمل (السِّلْمِ) على الصلح، جعل ذلك متعلقا بـ "صلح الحديبية"، وهو ما حاول الشيخ الطاهر ابن عاشور تأصيله عند تفسيره للآية في تفسيره "التحرير والتنوير" (2/ 276- 277).

ومن المعلوم أنه لم تنقطع الدعوة إلى الإسلام زمن هذا الصلح والسلم، بل استمرت الدعوة وتزايد بذلك عدد المسلمين.

قال ابن هشام رحمه الله تعالى:

" يقول الزهري:

فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وآمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكَلَّمْ أحدٌ بالإسلام، يعقل شيئا؛ إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك، أو أكثر.

قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة، في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف " انتهى من "سيرة ابن هشام" (3 / 336 – 337).

بل غاية الأمر أن تكون هذه الدعوة بحكمة وموعظة حسنة. قال الله تعالى:

( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) النحل (125).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" أي: ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم، إلى سبيل ربك المستقيم، المشتمل على العلم النافع، والعمل الصالح ( بِالْحِكْمَةِ ) أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده…

فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة ونحوها " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 452).

والحاصل:

أن قول الله تعالى : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) أمر من الله لعباده أن يدخلوا في شرائع دينه جميعها، لا يقبلوا شيئا منه ، ويدعوا آخر، ولا يتخيَّروا على الله .

ومن الشرائع العظيمة التي أمرهم به: دعوة الناس إليه، ودلالتهم عليه، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android