كيف يجمع بين الحديثين: (إن بالمدينة أقواما، …. وما أنفقنا نفقة… إلا شاركونا في ذلك)، وحديث: (فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) قيل في شرحه: القادر الفاعل خير من العاجز لا يفعل، وإن كان لَفعل لو قدر عليه، وجاء في الحديث : (فهو بنيته وهما في الأجر سواء).
هل معنى الحديث الأول أنهم مشاركون في الأجر لكن أجرهم أقل وليس بمساوٍ لأجر المجاهدين؟
من نوى عملا صالحا مع عجزه، هل يساوي العامل في الأجر؟
السؤال: 429996
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
ثبت أن العاجز عن الطاعة قد يدرك أجر العامل، وذلك بنيته وعزمه الصادق على العمل لو استطاع.
كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟
قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ ) رواه البخاري (4423).
وعَنْ أَبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) رواه الترمذي (2325)، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”.
وقد اختلف أهل العلم في توجيه هذه المساواة في الأجر، هل هي المساواة في أصل أجر العمل، دون مضاعفة، أو مع المضاعفة؟
فذهب جمع إلى أن المساواة إنما تقع في الأجر غيرَ مضاعَفٍ؛ لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).
ففيه أن من همّ بالحسنة ولم يعملها: كتبت له حسنة واحدة فقط.
قال أبو الوليد الباجي رحمه الله تعالى عن حديث من غلبته عينه عن قيام الليل:
“وقوله: ( إلا كتب له أجر صلاته ) يريد الصلاة التي اعتادها.
قال الإمام أبو الوليد: ويحتمل ذلك عندي وجوها : أحدها : أن يكون له أجرها غير مضاعف ، ولو عملها لكان له أجرها مضاعفا ، لأنه لا خلاف أن الذي يصليها أكمل حالا ” انتهى من “المنتقى” (1 / 211).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” فقسم النبي أهل الدنيا أربعة اقسام:
خيرهم من أوتي علما ومالا، فهو محسن إلى الناس ، وإلى نفسه بعلمه وماله.
ويليه في المرتبة من أوتي علما ولم يؤت مالا، وإن كان أجرهما سواء ، فذلك إنما كان بالنية، وإلا فالمنفق المتصدق فوقه بدرجة الإنفاق والصدقة، والعالم الذي لا مال له إنما ساواه في الأجر بالنية الجازمة المقترن بها مقدورهما، وهو القول المجرد ” انتهى من “مفتاح دار السعادة” (1 / 514).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” وقد حُمل قوله: ( وهما في الأجر سواء ): على استوائهما في أصل أجر العمل، دون مضاعفته؛ فالمضاعفة يُخْتص بها مَن عَمِل العمل، دون من نواه ولم يعمله؛ فإنهما لو استويا من كل وجه، لكُتِب لمن هَمّ بحسنة ولم يعملها: عشرُ حسنات، وهو خلاف النصوص كلها.
ويدل على ذلك قوله تعالى: ( فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ ) النساء (95 – 96).
قال ابن عباس وغيره: القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجةً: هم القاعدون من أهل الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات: هم القاعدون من غير أهل الأعذار ” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (2/321).
وقد تُعُقِّب هذا بأن الهامّ الذي تكتب له حسنة واحدة: هو من همّ ولم يعمل؛ لكنه قادر على العمل، وليس هناك ما يمنعه منه.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
” إن قلت: قد ثبت أن من همّ بالحسنة، والمراد: نوى إخراجها، كانت له حسنة، فإن أخرج ما همّ به كانت عشرا، فكيف سوى هنا بين من نوى الإخراج، وبين من تحقق منه؟
قلت: هذا يدل على أن من كان صادق النية في فعل أي خير، ومنعه عنه مانعُ عدمِ الاستطاعة؛ أنه مثل من استطاع في الأجر.
وهذا مقتضى فضل الله وعدله، لأنه ما عاق صادقَ النية، إلا أنه تعالى ما أوسع عليه في العطاء؛ فما امتنع عنه إلا لعائق القدر.
ويدل له حديث: ( إن في المدينة أقواماً ما نزلنا منزلاً ولا هبطنًا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر )، قاله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته؛ فقد جعل المعذورين مع المستطيعين.
وعليه قوله تعالى: ( لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ …) الآية. فإنه استثنى أولى الضر، وجعلهم كالمجاهدين.
وبعد هذا: يُعلم أن حديث الهمّ بالحسنة: لمن يستطيع فعلها ” انتهى من “التنوير” (5 / 164 – 165).
وبكل حال؛ فالمسألة محتملة، وليس في هذه الأمر الدقيق منها دليل صريح، يقطع النزاع؛ لكن المأمول من فضل الله ، وسعة كرمه : أن يعطي العاجز عن العمل، متى صدقت نيته فيه، ولم يمنعه منه إلا العجز؛ المأمول أن يعطيه أجر العامل، كاملا، مضاعفا.
وهذا هو ما جزم به القرطبي، رحمه الله. قال:
” وأمّا من تحقق عجزه، وصدقت نيته، فلا ينبغي أن يختلف في: أن أجره مضاعف كأجر العامل المباشر؛ لما تقدَّم، ولما خرّجه النسائيّ من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من أتى فراشه، وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح؛ كان له ما نوى، وكان نومُه صدقة عليه) ” انتهى من “المفهم” (3 / 730).
وقال رحمه الله تعالى عن حديث من غلبته نومه عن صلاة الليل:
” ظاهره أن له أجره مكملا مضاعفا، وذلك لحسن نيته، وصدق تلهّفه، وتأسّفه. وهذا قول بعض شيوخنا، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير مضاعف إذ الذي يصليها أكمل وأفضل.
والظاهر التمسّك بالظاهر، فإن الثواب فضل من الكريم الوهّاب” انتهى من “المفهم” (2 / 384).
وأما المضاعفة فوق عشر مرات، إلى سبعمائة ضعف؛ فهذه تختلف من شخص إلى آخر، بحسب ما عنده من أسباب المضاعفة، من حسن الإسلام، وموافقة السنة وغير ذلك.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” والظاهر أن كثرة المضاعفة تكون بحسب حسن الإسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف … ) فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة ” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (1 / 295).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب