0 / 0

نصائح في الابتلاء وتفاوت الرزق والعدل بين الناس.

السؤال: 436410

أنا فتاة مسلمة، متعلمة، على إطلاع لا بأس به بعلوم الدين والشريعة. سؤالي اليوم ليس الغرض منه الاساءة إلى الدين بأي شكل من الأشكال، بل هل استنجاد من فتاة ضاقت بها الحياة وتتوق لجواب يهدئ حزنها ويلملم ألمها.
مشكلتي أنني أشعر بأنني كُتِبَ علي الشقاء في الدنيا، فأنا أجد نفسي أقوم بجهد مضاعف لأصل إلى ما قد يصل إليه الآخرون دون أي مجهود، ويَقَعٌ في نفسي أن أصدق بأن الله ليس عادلاً، بل وظالم -أستغفر الله وأتوب إليه- بسبب ذلك. فكرة وجوب استمرار السعي مع عدم حتمية الوصول ترهقني وتشعرني بأن لا معنى لما أقوم به.
قد تقول أن لا أحد يملك كل شيء فمن لديه المال قد لا يملك الصحة و.. ولكن هناك من لديه كل شيء بالفعل في حين أن لا شي مما أملكه يريحني؛ صحتي هشة، عملي يحطم نفسيتي، لقمة العيش صعبة أتعرض للذل والاهانة لأجلها وأسكت من باب الرضا بالرزق، ليس هناك من يعولني في حال تركت العمل فأبي متوفي وليس هناك سواي أنا وأمي وأختٌ أصغر مني.

لطالما وُضعت لي العراقيل لمجرد كوني سوداء، ونعتتُ بألقاب عنصرية، فأسأل نفسي، ألا يرى الله هذا؟ أيرضيه هذا؟ ألم يقل عز وجل أن دعوة المظلوم ليس بينها وبينه حجاب؟ لماذا لا ينتصر لي منهم؟ أليس من المفروض أنه ينتصر للمظلوم، أم أنني لا أستحق أن يؤخذ حقي ممن ظلمني؟ قد تقول أن انتقام الله قد يكون في الآخرة، لكنني لا أريد أن يمهل الله ظالمِيَّ إلى الآخرة وهم أهانوني أمام الملأ في الدنيا. ليس غرضي إيذاء الناس ولا التعدي عليهم لكن ما أريده هو أن يقتص لي الله منهم وهو الذي قال أن العين بالعين والسن السن
كنتُ سابقا أفتح أي فيديو لعلماء الدين لأصبر نفسي لكنني مؤخرا أصبحت لا اقتنع بكلامهم. حتى القرآن، لا اشعر أنه يهدئ من النار التي بداخلي.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولًا:

من الواضح أنك تمرين بظروف صعبة، وتجربة قاسية، ومشاعر مؤلمة جدًا، لا يمكننا تصورها، ولا نستطيع أن نزعم أننا نفهم تماماً عمق المحنة التي تمرين بها، فنسأل الله أن يعينك ويربط على قلبك وأن يمدك بحوله وقوته سبحانه.

وعلى الرغم مما سنسوقه لك بعد ذلك من بيان الحق والشرع في موضوع سؤالك إلا أننا نتعاطف مع ألمك ونقدر مصابك، ونرجو أن يخفف الله عنك ويعوضك خيرًا.

ثانيًا:

لما رأى سحرة فرعون معجزة موسى عليه السلام آمنوا به نبيًا وبربه إلهًا واحدًا، وكفروا بفرعون، ملكهم، وولي نعمتهم، وإلههم الذين كانوا يعبدون، فما كان من فرعون إلا أن قال لهم: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى طه/71.

وأخذهم فرعون ففعل بهم تلك الأفاعيل، وماتوا معذبين مقتولين، ولم يروا انتقام الله من فرعون قط.

وقد أنجى الله عيسى عليه السلام من بين أيدي الذين أرادوا صلبه وقتله، ورفع الله عيسى إليه، لكن أولئك الراغبين في قتل نبي الله وصلبه؛ قد مضت أيامهم، لم يسلط الله عليهم عذابًا في الدنيا ينتقم به منهم.

ويقول الله عن بني إسرائيل:

 ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ آل عمران/112.

ويقول: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ البقرة/87.

ويقول: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة/91.

فهؤلاء هم الأنبياء أشرف الخلق، تسلط عليهم فجرة بني إسرائيل وقتلوهم، ولم ير هؤلاء الأنبياء قط انتقام الله من بني إسرائيل في الدنيا.

وفي قصة الغلام والساحر، لما قال الناس: (آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ فَقَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدِّدَتْ فِيهَا الْأُخْدُودُ وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعُوهُ، وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا، قَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ، فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ، فَقَالَ الصَّبِيُّ: يَا أُمَّهْ، اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ) أخرجه مسلم (3005).

آمن هؤلاء الناس، فلم يجدوا من الدنيا إلا أن الملك الكافر قد خد لهم أخدودًا فقذفهم في النار، ومات هؤلاء الناس معذبين، لم يروا انتقام الله من هذا الملك قط.

ويقول الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ يونس/46.

فهذا رسول الله نفسه، يقول الله له: إن ما توعدنا به الكفار من العقاب والعذاب: ليس مشروطًا أن تراه؛ بل قد تموت ولا تراه، فإن أريناك عقوبتهم، أوْ لم نُرِكَها؛ فهم على كل حال راجعون إلينا، إلى يوم القيامة، دار الحساب والعذاب.

ولقد تسلط كفار قريش على صحابة رسول الله بالتعذيب، يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟

قَالَ: ( كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ) أخرجه البخاري (3852).

ولقد ماتت سمية أم عمار بن ياسر في هذا العذاب، فلم تر قط انتقام الله لها من كفار قريش.

ولو عدنا لتأمل قصة سحرة فرعون مرة أخرى، سنجد قصتهم من أظهر نصوص الوحي في فهم طبيعةِ الابتلاءِ، وميزان الخير والشر، فهذه الدنيا وما يكون فيها ليست معيارًا للخير والشر، وليست مَيدانًا لتحقيق العدل الإلهي أصلا.

واسمعي لقولهم لفرعون: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا طه/72.

تأملي قولهم: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

ثم انظري لقولهم: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ الشعراء/50-51.

نعم. لا ضير من كل هذا البلاء في الدنيا؛ ما دمنا سننقلب إلى ربنا، فيوفي الله الصابرين أجرهم بغير حساب.

إن الله لم يَخدِع الناسَ شيئًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؛ بل هو من حكى لنا أخبار الابتلاءات العظيمة التي وقعت بأوليائه، أفحسبتم أن تؤمنوا وأنتم لا تفتنون؟

ليس الشأن في أن تريدي أنت انتقام الله في الدنيا، وإنما الشأن فيما يريده الله، ويراه أليق بحكمته ويحقق مراده من عباده؛ والله تعالى يقول لنا، ويذكرنا في مرات عديدة، وفي سياقات مختلفة : بأن العلم التام، والعلم بحقائق الأمور، والعلم بعواقبها … إنما هو لله ؛ إنها يسوق لنا ذلك المعنى في صورة جامعة، كلية، واضحة: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).

حين يأمرنا بجهاد أعدائه من الكفار، والصبر على بارقة السيوف، والصبر في حياض الموت، وفي ذلك ما فيه من ذهاب الأنفس، والأموال … قد تتكره النفوس ذلك، وتتبرم؛ فيقول لنا

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة/216

وحينما تطمع النفوس إلى قياس أفعال الله على أفعال البشر، أو صفاته بصفات المخلوقين، أو تجعل له شبيها أو نظيرا من البشر؛ يقول الله  تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/74؛ ” ولهذا قال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ المتضمنة للتسوية بينه وبين خلقه إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فعلينا أن لا نقول عليه بلا علم وأن نسمع ما ضربه العليم من الأمثال ” انتهى، من “تفسير السعدي” (444).

وفي كل أمر كتبه الله علينا، أو شرعه لنا، وفيه ما نكرهه؛ نرد تلك الكراهة بما علمنا ربنا :

( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) !!

ولو كان لأحد كرامة ليحقق الله له الانتقام في الدنيا، في كل ظلم تسلط عليه به ظالم؛ لكان ذلك لأنبياء الله.

إن الله عز وجل يبتلي عبادَه ليرفعَ درجات الصابرين، ويزيدَ في عذابِ الظالمين، ويُمحِّص صَفَّ المؤمنين، ولِتُقامَ بهم الحُجّة على عذاب المجرم يوم القيامة، فلا يُشفِق عليه أحد، ولا يَعتذر عنه أحد، وليمتحن اللهُ بهم أمثالنا من المؤمنين: أيثبُتون أم يستزلهم الشيطان فيكفرون؟

أما المُبتَلون؛ فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاءٍ، كأن لم يكن، يَخلُقهم الله خلقًا آخر، هو ربهم وملكُهم، لولاه ما كانوا.

إن طائفةَ المؤمنين الذين أعدَّ اللهُ لهم جناتِ النَّعيم؛ يعلمون أن الدنيا وشرَّها كله تافه، يسيرٌ، في مقابل جنةِ الخلد، ونعيمٍ لا يَفنى، ونظرةٍ إلى وجههِ الكريم لا يَبقى في النَّفس بعدها شيءٌ غيرَ النعيمِ تذكره. يقول الله: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى العلق/8.

ومن وعى هذه الحقيقة: نجَّاهُ اللهُ من مصير الذين خَسِروا أنفسَهم، فصاروا يُحاسِبون الله على فعله، ويقضون عليه في خلقه.

ثالثًا:

على الرغم من قساوة العيش وثقل البلاء، إلا أن الإنسان لا يخلو قط من زحام من نعم الله يحيط به، وإن من الناس من لا يستطيع أن يبتلع لقمته، إلا مع تجرع آلام المرض، التي تكاد تقتلع قلبه من بين صدره، وإن من الناس من لا يستطيع أن يخرج طعامه إلا عبر أنبوب يخرج من جانبي بطنه، وإن من الناس من لا يملك قوت يومه، قد أحاطت به المجاعة حتى أنه يموت جوعًا.

 الحياة مؤلمة لا شك في هذا، فهو جزء من طبيعة امتحان الإنسان الذي يُجازى فيه الصابر الشاكر.

وإن مما يستعان به على اجتياز هذا الألم أن يمتن الإنسان للنعم التي بين يديه والتي يحلم بها غيره فلا يكاد ينالها، ورسول الله يقول: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)  أخرجه الترمذي(2346)، وابن ماجه(4141).

والله يقول: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الأعراف/69.

فلا تغفلي عن نعم الله عليك، وأديمي شكر الله عليها فإن هذا يُفرج الهم ويزيد في النعم.

رابعًا:

اجتهدي في الأخذ بالأسباب الحياتية كمحاولة تغيير بيئة العمل، واستمري في طرق الأبواب من هذا النوع؛ وأعظمي رجاءك في عون الله وفضله، الواسع، فهو الغني الحميد سبحانه: ( وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) النساء/32 

خامسًا:

تتابع مشاق الحياة على الإنسان بهذا الشكل الذي يمر بك، ربما يصيب الإنسان بأمور يحتاج معها للمساعدة المتخصصة، فلا مانع من أن تستشيري طبيبة نفسية، فالمساعدة المتخصصة من باب التداوي، وهي من الوسائل المساعدة المهمة في ظروف كهذه.

وينظر جواب الأسئلة رقم: (178673) ورقم (204615) ورقم (224161).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android