المعلوم أن الأعلام من المحدثين كانوا يحفظون مئات الآلاف من الأحاديث، فالبخاري مثلا يقول: إنه يحفظ ستمائة ألف حديث، وأحمد يقال: إنه يحفظ ألف ألف حديث، رغم أنهم لم يصنفوا مما حفظوه سوى العشر أو أقل، وهذا يعطي انطباعا بأن الأحاديث كانت منتشرة لدرجة أن نجد في الحديث الواحد مئات الطرق وعشرات الرواة في كل طبقة.
ولكن تعريف الحديث العزيز في كونه هو ما رواه اثنان في كل طبقة من طبقات سنده، يعطي انطباعا مخالفا تماما، وهو أن الاحاديث قليلة لدرجة صعوبة أن نجد الحديث العزيز!
فهل كانت الأحاديث منتشرة لدرجة أن يحفظ أئمة الحديث مئات الآلاف أم قليلة لدرجة صعوبة وجود الحديث العزيز؟
هل يفهم من كلام العلماء عن ندرة الحديث العزيز قلة الأحاديث المروية؟
السؤال: 440261
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
الأعداد الضخمة للأحاديث التي كان الأئمة يحفظونها، لا يراد بها أعداد المتون، وإنما المتون بأسانيدها، فالمتن الواحد قد يكون له عشرات الأسانيد، فيعدون هذه “أحاديث”، لتعدد طرقها ومخارجها، وإن كانت حديثا واحدا، من حيث “المتن”.
ثم إن هذه المتون : قد يدخل فيها أيضا – مع الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم -: ما ينسب إلى الصحابة والتابعين.
وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (171298).
وهذه الأعداد تظهر بوضوح مدى انتشار الأسانيد بكثرة طلاب الحديث وشيوخه، والكتب التي وصلت إلينا في متون الأحاديث ورجال أسانيدها تبيّن هذا.
ولا يعترض على هذا الانتشار، بمسألة الحديث العزيز.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” العزيز: وهو ألّا يرويه أقلّ من اثنين عن اثنين.
وسمي بذلك إمّا لقلّة وجوده، وإمّا لكونه عزّ، أي قوي بمجيئه من طريق أخرى …
مثاله: ما رواه الشيخانِ من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى اللهُ عليه وسلّم قال:
( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ ) الحديث.
ورواه عن أنس : قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبدِ العزيز إسماعيل ابن عليّة وعبد الوارث ورواه عن كلّ جماعة ” انتهى. “نزهة النظر” (ص 47 — 50).
فالعزيز له شرط، وهو: أن يتحقق فيه وجود اثنين ، ولو في طبقة واحدة من طبقات السند، كأن يرويه صحابيان فقط ، ثم بعد ذلك قد تتعدد أسانيده.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” والمراد بقولنا: ” أن يرد باثنين “: ألّا يرد بأقلّ منهما، فإن ورد بأكثر في بعض المواضع من السند الواحد لا يضرّ، إذ الأقلّ في هذا يقضي على الأكثر ” انتهى من “نزهة النظر” (ص44).
فسبب تسميته بالعزيز كما بيّن الحافظ؛ إما بسبب حصول العزة، وهي التقوية بوروده من طريقين، وهذا المعنى كما في قوله تعالى:
( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) يس/13 – 14.
فالعزيز بهذا المعنى لا يشكل على كثرة أسانيد الأحاديث.
وإما سمي بسبب العزة: التي هي الندرة والقلة.
فالندرة حاصلة بسبب هذا الشرط والقيد ، وهو اشتراط وجود راويين ، فإن كان في جميع طبقات السند، فقد صرح بعض أهل العلم بأنه لا يكاد يوجد حديث بهذا القيد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” وادّعى ابن حِبّان نقيض دعواه، فقال: إنّ رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا.
قلت: إن أراد أنّ رواية اثنين فقط عن اثنين فقط إلى أن ينتهي لا يوجد أصلا: فيمكن أن يسلّم، وأما صورة العزيز التي حررناها: فموجودة؛ بألا يرويه أقلّ من اثنين عن أقلّ من اثنين ” انتهى من “نزهة النظر” (ص49).
وعلى المعنى المشهور: وهو اشتراط وجود راويين في طبقة من طبقات الإسناد، ثم ألا يقل عن اثنين في باقي الطبقات، فهي قليلة بهذا القيد؛ لأن غالب الأحاديث الموجودة غير مقيدة بهذا الشرط، بل قد يكون الحديث الواحد له عشرات الأسانيد، لكنه مروي عن صحابي واحد أو مداره على تابعي أو راو واحد؛ لأن علم الحديث كان يزداد طلابه ويكثرون بتقدم الزمن.
ومثال ذلك:
حديث: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ) فهو حديث تفرد به راو واحد في أغلب طبقات السند، ثم كثرت طرقه في الطبقات المتأخرة للإسناد.
فروى البخاري (1)، قال: حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ.
ومسلم (1907)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ.
كلاهما: عن يَحْيَى بْن سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
” وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا؛ لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد.
وهو كما قال؛ فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد…
نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد: فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلثمائة… ” انتهى من “فتح الباري” (1/11).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة