0 / 0

ما المراد بكون المدينة النبوية تنفي خبثها؟

السؤال: 441576

قرأت في الحديث من صحيح مسلم: (أن المدينة تنفي خبثها كما تنفي النار الخبث من الحديد)، ولكن نحن نعلم أن المنافقين بقوا في المدينة حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومنهم السبعون منافقا الذين علمهم حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، أرجو منكم توضيح الالتباس الذي و قع لدي، فقد أقلقني هذا السؤال، وشغلني كثيرا، كيف يمكن للمدينة أن تنفي خبثها وشرارها فحين أن النافقين بقوا فيها، وهل هذا صالح لكل الأزمنة؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

روى البخاري (1883) ومسلم (1383) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَايَعَهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَجَاءَ مِنَ الغَدِ مَحْمُومًا فَقَالَ: أَقِلْنِي، فَأَبَى ثَلاَثَ مِرَارٍ، فَقَالَ:

المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا.

و: ( تَنْفِي خَبَثَهَا )، أي تنفي شرار الناس حيث يخرجون منها ويفارقونها.

وقد بوّب البخاري في "الصحيح"، فقال: "بَابُ فَضْلِ المَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ".

ثم روى عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ رواه البخاري (1871)، ومسلم (1382).

وعند مسلم (1381) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:

" وأما قوله: ( تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا )، فمعناه أنها تنفي حثالة الناس، ولا يبقى فيها إلا الطيب الذي اختاره الله عز وجل، لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، والخبث: رُذالة الحديد ووسخه الذي لا يثبت عند النار …

وأما قوله: ( وَيَنْصَعُ ) فإنه يعني: يبقى ويثبت ويظهر " انتهى. "التمهيد" (8/ 71).

ثانيا:

اختلفت أقوال أهل العلم في الزمن الذي يقع فيه هذا النفي.

فحصره بعضهم في زمن النبوة، وإلى هذا ذهب ابن عبد البر رحمه الله تعالى، حيث قال:

" وشبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ذلك الوقت بالكير والنار، الذي لا يبقى على عمله إلا طيبه، ويدفع الخبث.

وكذلك كانت المدينة، لا يبقى فيها ولا يثبت إلا الطيب من الناس، لصحبته صلى الله عليه وسلم، وللفهم عنه، فلما مات خرج عنها كثير من جلة أصحابه، لنشر علمه، والتبليغ لدينه صلى الله عليه وسلم " انتهى من "التمهيد" (8/ 71).

وتبعه على هذا ابن العربي رحمه الله تعالى، فقال:

" وقد قال علماؤنا: هذا كلام عموم، ومعناه الخصوص؛ لأنّها لم تنف من النّاس على عهد رسول الله وفي حياته إلّا من لا إيمان له، ولا خير فيه، ممّن رغِبَ بنفسه عن نفس رسول الله ونصرته وصحبته…

قال علماؤنا: وهذا عندنا مقصور على حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فإنّ الله كان يُعَوّض رسوله امرءًا خيرا ممّن يرغب عنه. وأمّا بعد وفاته، فقد خرج منها من لم يعوّضها الله خيرا منه من الصّحابة، فهو مقصور على حياة رسول الله  صلّى الله عليه وسلم.

وممّا يقوّي هذا قول عمر: لَا هِجرَةَ إِلَينَا بَعْدَ النَّبيِّ عليه السّلام " انتهى من "المسالك في شرح موطأ مالك" (7/ 177 – 178).

واستظهره القاضي عياض رحمه الله تعالى، حيث قال:

" الأظهر هنا أنه في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان لا يصبر على الهجرة والمقام معه، إلا من ثبت إيمانه، وأما المنافقون وجهلة الأعراب ومن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، فلا يصبرون على شدة المدينة، ولا يحتسبون أجرهم في ذلك، أولئك شرار الناس وخبثاؤهم، كما جرى للأعرابى فى الحديث الآخر لما أصابه وعك الحمى بها، واستقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيعته ولم يقله النبي – عليه السلام – لأنه لا يحل ذلك، ولا يجوز للمهاجر أن يترك هجرته ويرفض بيعته على ذلك " انتهى من "إكمال المعلم " (4/ 500).

وقيل: إن ذلك محمول على نفيها الخبث زمن الدجال.

قال النووي رحمه الله تعالى:

" قال القاضي: الأظهر أن هذا مختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم …

هذا كلام القاضي .

وهذا الذي ادعى أنه الأظهر ليس بالأظهر ، لأن هذا الحديث الأول في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ).

وهذا -والله أعلم – في زمن الدجال ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال: (أنه يقصد المدينة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله بها منها كل كافر ومنافق) .

فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال، ويحتمل أنه في أزمان متفرقة، والله أعلم " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (9/ 154).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، في الجمع بين القولين:

" ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمنين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم كذلك .. ويؤيده قصة الأعرابي الآتية بعد أبواب، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة عن البيعة.

ثم يكون ذلك أيضا في آخر الزمان، عندما ينزل بها الدجال فترجف بأهلها، فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه كما سيأتي بعد أبواب أيضا، وأما ما بين ذلك فلا " انتهى من "فتح الباري" (4/ 88).

ثالثا:

وأما ما ذكر في السؤال من وجد المنافقين في المدينة، فيقال في الجواب عنه:

أما إذا حمل الحديث على أنها تنفي خبثها عند قيام الساعة، فلا يمنع ذلك وجود المنافقين فيها في الأزمان التي قبل ذلك، ولو كان زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما وقع.

وأما إذا حمل الحديث على أن ذلك خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قاله من قاله من أهل العلم ، أو أن زمنه داخل في ذلك، مع غيره ، فهو محل الإشكال المذكور، فيقال في الجواب عنه:

قد حمل بعض العلماء الحديث على الأغلب ، أي أن أغلب أهل الشر لا يصبرون على الإقامة بها ، وهذا لا ينافي وجود بعض الأفراد من أهل الشر بها، كالمنافقين وغيرهم، حتى إذا جاء آخر الزمان نفت المدينة كل أهل الشر والفساد .

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى:

" يقع كثيرا في عهده صلى الله عليه وسلم وفي غيره ولا يعم، لكن يعم في آخر الزمان في عهد الدجال فترجف ثلاث رجفات، وقد يحصل مرض لبعض الناس أو فقر .. فلا يصبر فيخرج، وعدم التعميم لأنه وجد فيها منافقين ويهود " انتهى من "الحلل الإبريزية" (4/ 430).

فبهذا يفهم وجود أهل الشر والنفاق في المدينة زمن النبوة، أي تنفي الكثير منهم ولا يبقى منهم إلا القليل ، فقد كانت المدينة تنفي من يتظاهر بخبثه، فلا تبقيه، فيفارقها بموت أو نفي، كما حصل لقبائل اليهود لما أظهروا خبثهم وشرهم، قتلوا ونفوا منها واحدة وراء الأخرى، وكذلك حصل لبعض أهل النفاق، فمن بقي منهم كانوا قلة، ووجودهم كعدمهم، لا يستطيعون أن يظهروا خبثهم، بل يسايرون المسلمين بالتظاهر بالخير، قال الله تعالى:

لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا الأحزاب/60.

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا ) أي في المدينة. ( إِلَّا قَلِيلًا ) نصب على الحال من الضمير في ( يُجَاوِرُونَكَ )، فكان الأمر كما قال تبارك وتعالى، لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء.

فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم.

والجواب الآخر أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا " انتهى من "تفسير القرطبي" (14 / 247).

ويحتمل أن أهل الشر الذين كانت تنفيهم منها سريعا هم الواردون إليها بداعي الإيمان، ثم يتراجعون، فإنها تنفيهم، فلا يحبون البقاء بها، بل يسارعون إلى الخروج منها، وأما الذين هم من أهلها فتنفيهم شيئا فشيئا.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" فقال فيه عليه السلام: ( إنّ المَدِينَةَ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا ).

فإن قيل: فإن المنافقين قد سكنوا المدينة وماتُوا فيها ولم تنفهم؟

قيل: إن المنافقين كانت دارَهم، ولم يسكنوها اغتباطا بالإسلام ولا حبا له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرد عليه السلام بضرب المثل إلا من عقد الإسلام راغبا فيه، ثم خبث قلبه، ولم يصح عندك أن أحدا ممن لم تكن له المدينة دارا، فارتد عن الإسلام، ثم اختار السكنى فيها، بل كلهم فرّ إلى الكفر راجعا، فبمثل أولئك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل.

وقال المهلب: كان المنافقون الساكنون بالمدينة قد ميزهم الله كأنهم بارزون عنها؛ لما وسمهم به من قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)، و ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ )، وبقوله: ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )، فكانوا معروفين معينين، وأبقاهم صلى الله عليه وسلم لئلا يقول الناس: إن محمدا يقتل أصحابه أو ينفيهم، والنفى كالقتل… مع أنه قد حتم الله أنهم لا يجاورونه فيها إلا قليلا، فنفتهم المدينة بعده عليه السلام لخوفهم القتل، قال الله تعالى: ( مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا )، فلم يأمنوا فخرجوا، فصح إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تنفى خبثها، لكن ليس ذلك ضربة واحدة، لكن الشىء بعد الشىء… " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (4/ 552 – 553).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android