هل تشمل الآية: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الأمور الدنيوية، فقد أصبح من الشائع قول العامة، أنك إن اختبرك الله بشيء في دنياك، فأنت قادر على اجتيازه، ويستدلون بالآية، كمقدرة الطالب على تخطي الامتحان، أو الصبر على فقد شيء، أو تحمل المرض وهكذا؟
هل يشمل قوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) الأمور الدنيوية؟
السؤال: 450284
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
التكليف لغة: “مصدر كلّف. يقال: كلفه تكليفًا؛ أي أمره بما يشق عليه” انظر: “الصحاح للجوهري” (3/1177).
واصطلاحًا: “خطاب الله تعالى، المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع”. انظر: “الوجيز في أصول التشريع” (ص99).
ومعنى الآية كما قال ابن كثير رحمه الله في “تفسيره” (1/737): “وقوله: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أي: لا يكلف أحدا فوق طاقته، وهذا من لطفه تعالى بخلقه، ورأفته بهم وإحسانه إليهم، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابةُ، في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه؛ أي: هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان”
ثانيًا:
يظهر من ذلك أن التكليف في الآية هو ما يتعبد الله به عباده من فعل الأوامر واجتناب النواهي، ومتى وقع للعبد عدم استطاعة في فعل تكليف من التكاليف الشرعية، لمرض مثلًا فإن التكليف يسقط عنه؛ ما دام قد ثبتت عدم استطاعته.
والابتلاءات ومصاعب الحياة موضع للتكليف من جهة وجوب الصبر عليها، والصبر هو عدم السخط على أقدار الله، والتسليم بوقوعه بمشيئة الله.
والصبر بهذا المعنى: موقف نفسي، يتعلق بقبول أن ما حصل قد حصل، وأن الله يفعل ما يشاء، وأنه سبحانه لا يُسأل عما يفعل، ويحبس الإنسان نفسه عن الاعتراض على تقدير الله بحصول ما قد حصل.
ولا يسقط التكليف بالصبر قط، ولا يمكن أن يكون الصبر خارجًا عن حد الاستطاعة؛ لأنه ببساطة مجرد وجهة نظر فيما قد حصل، منظور ذهني ونفسي، وليس تكليفًا بدنيًا مثلًا، ولو لم يصبر الإنسان فلن يتغير في الواقع شيء؛ ولأجل ذلك، فالصبر هو خير خيارات الإنسان، ولا يسقط عنه قط.
يقول الشيخ ابن عثيمين في “تفسير العثيمين: غافر” (ص508-510) : “أما معنى الصبر لغة فهو الحبس، ومنه قولهم: قُتِلَ فلانٌ صبرًا، أي: حبسًا؛ أي: أُمْسِكَ ثم قتل.
لكنه في الاصطلاح الشرعي أخصُّ من مُطْلَقِ الحبس فهو: حبس النفس عما يُسْخِط الله تعالى فيما يُرضِي الله”
ثم قال: “أقدار الله عز وجل المؤلمة هي التي لا تلائم النفس، إما بفوات محبوب وإما بحصول مكروه، فيحبس الإنسانُ نفسه في هذا الأمر، وهو أقل أقسام الصبر رتبة؛ لأنه يأتي بغير اختيار الإنسان.
الصبر على الطاعة باختيار الإنسان، وعن المعصية باختيارك.
لكن على الأقدار؟ لا، ليس بملكك أن تمنع ما قدَّر الله عليك من فوات محبوب، أو حصول مكروه.
ولهذا قال بعض السلف عند حلول المصائب: إما أن تَصْبِرَ صبر الكرام، وإما أن تسلو سُلُوَّ البهائم، وقس نفسك، تأتيك المصيبة اليوم أكبر من الجبال، وأحرَّ من النيران، ثم تخف شيئًا فشيئًا حتى لا تكاد تذكرها.
إذن إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تسلو حتى لو تسخَّطْتَ؛ فالمآل إلى نسيانها، وإما أن يسلوَ الإنسان سُلُوَّ البهائم”.
ثم قال رحمه الله:
“وهذا القسم الثالث من أقسام الصبر: الصبر على أقدار الله عز وجل المؤلمة؛ يكون بالأمور الآتية:
حبس اللسان عن التَّسخط، لا يتسخط؛ يقول: أصابني الله بكذا، ولم يصب فلانًا، أصابني بالفقر، والناس أغنياء، أصابني بالمرض، والناس أصحاء، وما أشبه ذلك، لا يقول هكذا، لا يقول: واويلاه، واثبوراه، واانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك، لا يقول هذا؛ لأن هذا منافٍ للصَّبر، الإخبار بما أصاب الإنسان، من مصيبة دون التشكي، وقع هذا من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث قال: (بل أنا وارأسا) [أخرجه البخاري(5666)]، ولا حرج. يعني هناك فرق بين شخص يتكلم بما أصابه تسخطا أو شكاية لمخلوق، وبين شخص يخبر عما أصابه، فقط مجرد خبر، والأعمال بالنيات.
الثاني: حبس الجوارح عند المصيبة عن فعل ما لا يجوز، وما ينبئ عن الغضب؛ مثل: شق الجيوب، لطم الخدود، نتف الشعور، وما أشبه ذلك. هذا أيضا مناف للصبر، ولهذا تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فاعله فقال: (ليس منا من شق الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية). [أخرجه البخاري(1294)].
الثالث: وهو حبس القلب عن كراهة ما قدر الله سبحانه وتعالى، وهذا أعظمها وأدقها، قد يرى الإنسان الضعيف المخلوق المملوك المدبر، قد يرى أن ربه ظلمه -والعياذ بالله- دون أن يتكلم ودون أن يفعل، لكن قلبه مملوء على الله سخطا، من السخط ورؤية أن الله تعالى ظلمه، أو ما أشبه ذلك، هذا يجب أيضا أن يتخلى القلب عنه، وهذا أخطر ما يكون بالنسبة للصبر على الأقدار، اتل قول الله -عز وجل-: ومن الناس من يعبد الله على حرف الحج/11، حرف يعني: طرف، ليست عبادة راسخة فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين الحج/11.
وهذا يشمل فتنة المصائب، وفتنة الشبهات، من الناس من يؤمن بالله واليوم الآخر، لكنه على طرف، إن أصابه خير ولم يناقشه أحد أو يجادله أحد: مشى، وإن جاء أحد يشككه في هذا الأمر شك، فانقلب على وجهه؛ خسر الدنيا والآخرة، ومن الناس أيضا من يكون في نعمة، قد أنعم الله عليه بالأموال والأولاد وما يحتاج إليه من الدنيا أو يكملها، فأصيب بحادث فقد أهله به كلهم. فمن الناس من إذا كان يعبد الله على حرف يسخط على الله، ويكره قضاء الله، كراهة سخط، ليس كراهة أنه يتمنى ما لم يصبه، لا، إنما يتسخط على ربه، وهذا من جهل الإنسان، أنت ملك لله -عز وجل- هذا الرب الكريم الذي إذا أصابك بسراء فشكرت أثابك، وإن أصابك بضراء فصبرت أثابك. كيف تسخط على هذا الرب الكريم وأنت ملكه وعبده، يتصرف فيك بما شاء، وله الحكمة فيما فعل؟ ! وظيفتك الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء” انتهى.
ثالثًا:
يحصل خلط عند الناس فيتصورون أن الصبر هو عدم التألم، أو أن الصبر هو عدم الحزن، أو أن الصبر هو اجتياز الأمور الصعبة والنجاح فيها، وهذا كله غير صحيح، وقد قال رسول الله لما قبض الله ولده إبراهيم: (إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ) أخرجه البخاري(1303).
فإن أقبل الإنسان على تعلم الصينية فشق ذلك عليه ولم يستطعه، هل يقع ذلك؟
نعم فتعلم الصينية ليس تكليفًا شرعيًا، والتكليف هو وجوب صبر الإنسان على عدم نجاحه هنا؛ فلا يسخط أقدار الله.
وليس مما ينافي الصبرَ أن يتألم لفوات ذلك، ولا يلزم الإنسان أن يظل يكافح في ذلك ويقول ذلك في وسعي طالما الله كلفني به؛ لأنه ببساطة الله لم يكلفه بتعلم الصينية، قد يكون تعلمها في وسعه لو بذل جهدًا مضاعفًا، لكن هذه مسألة تتعلق بإدارة الإنسان لذاته، وموازنته لأولويات حياته وما يحب أن يبذل فيه جهده ويقضي فيه وقته، والناس يتفاوتون في طاقاتهم وقدراتهم هذا ثابت لا شك فيه، وكل ذلك لا يتعلق بتكاليف الشريعة ولا دخل لها فيه.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب