بالنسبة لموضوع نزول القرآن إلى بيت العزة، لم أجد تفسيرا واضحا، هل هذا معناه أن جبريل عليه السلام سمع القرآن من الله سبحانه وتعالى دفعة واحده، ثم نزل جبريل عليه السلام إلى بيت العزة قاله للملائكة الموجودين هناك، أي أن القرآن نزل أولا على الملائكة ثم على الرسول صلى الله عليه وسلم حسب الوقائع والأحداث؟ وهل هذا يعني أن الله سبحانه وتعالى قال القرآن لجبريل عليه السلام مرة واحدة فقط، ثم كان يأمره أن ينزل الآيات حسب الوقائع؟ وهل من الخطأ التفكير في هذه المواضيع؟
كيف نزل القرآن الكريم إلى بيت العزة؟
السؤال: 464622
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
روى النسائي في “السنن الكبرى” (7 / 247)، وابن أبي شيبة في “المصنف” (16 / 469)، والطبري في “التفسير” (3 / 188 – 189)، والحاكم في “المستدرك” (2 / 223)، وغيرهم، بأسانيدهم عن: الْأَعْمَشِ، عَنْ حَسَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ” فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرَتِّلُهُ تَرْتِيلًا “، وهذا لفظ النسائي.
وقد صححه الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (9 / 4).
وقال بمعنى هذا الخبر كثير من أهل العلم، حتى عده القرطبي إجماعا، حيث قال رحمه الله تعالى:
” ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر على ما بيناه، جملة واحدة، فوُضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نَجْما نَجْما في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما- يعني الآية والآيتين- في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة.
وقال مقاتل في قوله تعالى: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) قال أنزل من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة.
قلت: وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع: أن القرآن أنزل جملة واحدة. والله أعلم ” انتهى. “الجامع لأحكام القرآن” (3 / 160 — 161).
وظاهر هذا الخبر يشير إلى أن القرآن لما أنزل جُملةً إلى بيت العزة في السماء الدنيا، أنزل مكتوبا، كما تدل عبارة: ( فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ )، والذكر هو اللوح المحفوظ.
ولفظ ابن أبي شيبة: ( دفِعَ إِلَى جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً، فَرُفِعَ في بَيْتِ الْعِزَّةِ ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة: لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل، أو بعد ذلك. وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (12/ 126 — 127).
لكن جبريل عليه السلام كان ينزل بالآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يكلمه الله تعالى بها ويسمعها، كما تدل عليه آيات القرآن الكريم.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى:
” الذي عليه أَهل السنة والجماعة قاطبة أَن الله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاءَ ومتى شاءَ وكيف شاءَ، وأن جبريل عليه السلام سمع القرآن الكريم من الله تعالى، وبلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم…
والأَدلة لأَهل السنة والجماعة على هذا الأَصل من الكتاب والسنة والمعقول كثيرة جدًا، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ )، وقال تعالى: ( حم ، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )، وقال تعالى: ( حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )، وقال تعالى: ( الم ، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).
وقال تعالى: ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) و ( مِنْ ) في هذه الآيات كلها لابتداء الغاية. وإذا ضم ذلك إلى الآيات الدالة على أَن الله متكلم حقيقة، كقوله تعالى: ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا )، ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ )، ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ )، يعني القرآن، ونحو ذلك من الآيات المثبتة نسبة القرآن وغيره من كلام الله إلى الله، نسبة قول وكلام له تعالى = اتضح بذلك ابتداءُ القرآن من رب العالمين قولا، ولم يبق أَي لبس في أَن القرآن سمعه جبريل من رب العالمين، كما سمع موسى عليه السلام الكلام من الله تعالى حقيقة ” انتهى من “فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ” (1 / 215 — 216).
ثانيا:
التفكر في أمور الغيب على ضربين:
الأول: التفكر في أمور الغيب التي وردت فيها نصوص من الوحي، فيتفكر فيها المسلم لأجل أن يفهمها فهما صحيحا، فهذا أمر مطلوب، ونصوص الوحي إنما وردت لأجل فهمها وتدبرها.
الضرب الثاني: أمور الغيب التي لم يرد فيها وفي تفاصيلها نص من الوحي، فهذه لا يصح الخوض فيها اعتمادا على العقل وحده، بل على المسلم أن يكف عن الخوض والبحث فيما لا يعلم.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه: أمور الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني، وهو مما ينهى عنه، وقد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب…
قال إسحاق بن راهويه: لا يجوز التفكر في الخالق، ويجوز للعباد أن يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم، ولا يزيدون على ذلك، لأنهم إن فعلوا تاهوا، قال: وقد قال الله: ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )، فلا يجوز أن يقال: كيف تسبح القصاع، والأخونة، والخبز المخبوز، والثياب المنسوجة؟ وكل هذا قد صح العلم فيهم أنهم يسبحون، فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف شاء وكما يشاء، وليس للناس أن يخوضوا في ذلك إلا بما علموا، ولا يتكلموا في هذا وشبهه إلا بما أخبر الله، ولا يزيدوا على ذلك، فاتقوا الله، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة، فإنه يرديكم الخوض فيه عن سنن الحق ” انتهى من “جامع العلوم والحكم” (2 / 172 – 173).
وما ذكرناه في هذا الجواب: هو غاية ما انتهى علمنا إليه في ذلك الأمر، وكل ما ورد فيه هو أثر ابن عباس المذكور، ولا نعلم فيما وراء ذلك من التفاصيل نصا ولا أثرا، فيسعنا الوقوف عند هذا الحد ؛ وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، وما وراء ذلك تكلف لأمر لا نحتاجه لا في دين، ولا دنيا .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب