تنزيل
0 / 0

ما المقصود بقوله (وجدت برد أنامله) في حديث اختصام الملأ الأعلى؟

السؤال: 506771

اعترضني حديث اختصام الملأ الأعلى، فوقفت على جملة ” فوجدت برد أنامله في صدري”، فهل يوصف الله بالبرودة أو الحرارة؛ لأني أعلم أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبحثت في صفات الله الواردة بالقرآن والسنة، ولم تعترضني صفة البرد، فما المقصود ببرد أنامله؟ وهل هو معنى تقريبي لحصول الطمأنينة في صدر الرسول عليه الصلاة و السلام بفيض العلوم التي تجلت له؟
أفيدوني فإني مصاب بالوسوسة، وترددت كثيرا قبل طرح سؤالي، وأردت التغلب على نفسي، وتجاهل السؤال، ولكني لم أنجح.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

ما جاء في حديث اختصام الملأ الأعلى: إنما هو منام، والمنام يكون بضرب المثال، فلا يؤخذ منه إثبات برودة، ولا أن كفه سبحانه بقدر ما بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، بل كفه سبحانه يقبض بها الأرض كلها، ويطوي بها السموات، تبارك ربنا وتعالى وتقدس.

روى أحمد (22109)، والترمذي (3235) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: ” احْتُبِسَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ غَدَاةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى كِدْنَا نَتَرَاءَى عَيْنَ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا فَثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لَنَا: عَلَى مَصَافِّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمْ مَا حَبَسَنِي عَنْكُمُ الغَدَاةَ: أَنِّي قُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَصَلَّيْتُ مَا قُدِّرَ لِي، فَنَعَسْتُ فِي صَلَاتِي فَاسْتَثْقَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي رَبِّ. قَالَهَا ثَلَاثًا “. قَالَ: فَرَأَيْتُهُ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَتَجَلَّى لِي كُلُّ شَيْءٍ، وَعَرَفْتُ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الكَفَّارَاتِ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ، قَالَ: ثُمَّ فِيمَ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا.

قال الترمذي: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”. سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ”.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في رده على تحريف الرازي لمعاني هذا الحديث:

“هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث، يقطعونها ويفرقون بينها، ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن، وما لا يكمن.

ومن المعلوم أن الكلام المتصل بعضه ببعض يفسر بعضه بعضًا، ويدل آخرُه على معنى أوله، وأوله لا يتم معناه إلا بآخره، كما يقال الكلام بآخره. وهذا كثيرًا ما يفعله هذا المؤسس وأمثاله”. انتهى، من “بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية” (7/ 374).

فيقال:

هذه رؤيا منام، والإنسان قد يرى الله في منامه على صورة شيخ، أو غيره، على قدر إيمان الرائي، وليس الله كذلك، ولا يُرى الله على الحقيقة إلا في الآخرة.

قال الإمام أبو سعيد، عثمان بن سعيد الدارمي، رحمه الله: ” ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه؛ لِما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: ( .. أنه لم ير ربه )، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لن تروا ربكم حتى تموتوا )، وقالت عائشة رضي الله عنها: ( من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ) ؟ وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله تعالى:لا تدركه الأبصار [الأنعام: 103]؛ يعنون: أبصار أهل الدنيا.

وإنما هذه الرؤية كانت في المنام، وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال، وفي كل صورة” انتهى، من “النقض على المريسي” (287).

وقال شيخ الإسلام بعد كلام طويل على طرق الحديث، وشواهده:

” إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها”.

انتهى، من “بيان تلبيس الجهمية” (7/357).

ثم قال: ” قد بينا أن ألفاظ الحديث صريحة في أن هذه الرؤية كانت في المنام، فيكون هذا الوجه هو المقطوع به، وما سواه باطل.

ولكن لا يكون ذلك من باب التأويل بل الحديث عن ظاهره، فيكون ظاهره: أنه رآه في المنام، وهذا حق لا يحتاج إلى تأويل، وهذا مقصودنا؛ فإنهم يدعون احتياج هذه الأحاديث إلى تأويل يخالف ظاهرها، لأن ظاهرها عندهم ضلال وكفر، وهم غالطون تارة فيما يدعون أنه ظاهرها وليس كذلك، كما يدعون أن ظاهر هذا الحديث أنه رآه في اليقظة. كذلك دعواهم أن ظاهرها الذي هو ظاهرها الحق يحتاج إلى تأويل”. انتهى، من “بيان تلبيس الجهمية” (7/366).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ” ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وآخرون أنه يمكن أنه يرى الإنسان ربه في المنام، ولكن يكون ما رآه ليس هو الحقيقة؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ: فليس يشبهه شيء من مخلوقاته. لكن قد يرى في النوم أنه يكلمه ربه، ومهما رأى من الصور، فليست هي الله جل وعلا؛ لأن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى، فلا شبيه له ولا كفو له.

وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله في هذا: أن الأحوال تختلف بحسب حال العبد الرائي، وكل ما كان الرائي من أصلح الناس وأقربهم إلى الخير كانت رؤيته أقرب إلى الصواب والصحة، لكن على غير الكيفية التي يراها، أو الصفة التي يراها؛ لأن الأصل الأصيل أن الله لا يشبهه شيء سبحانه وتعالى” انتهى من “فتاوى ابن باز” (6/367).

ثانيا:

أما معنى برد الأنامل، فقال الملا علي القاري في “مرقاة المفاتيح” (2/ 626): ” (حتى وجدت برد أنامله) ، أي: لذة آثاره (بين ثديي) ، أي: في صدري، أو قلبي” انتهى.

وقال التوربشتي في “شرح مصابيح السنة” (1/ 20): ” (حتى وجدت برد أنامله بين ثديي): عبر بذلك عما وجده من تنزل الرحمة على فؤاده، وانصباب العلوم الوجدانية إلى ساحة صدره، وللعرب- في هذا الأسلوب من الاستعارة والاتساع- مذاهب فسيحة، وطرق مشهورة، لا ينكرها أهل العلم بطرق كلامهم، وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يخاطب بهذا القول وأمثاله رجالا ترسخت في العلم أقدامهم، وتأصلت في البلاغة أعراقهم؛ فلم يكونوا ليعدلوا عن سواء السبيل، ويخطئوا الغرض من الخطاب.

وانتهت النوبة إلى أناس تأخروا عنهم في المنزلتين؛ فصاروا فرقتين:

فرقة: قابلت الحديث بالرد والإنكار.

وفرقة: صرفوه عن الوجه المستقيم.

ونعوذ بالله أن ننخرط في سلك إحدى الطائفتين.

ثم إنا لا ننكر على من تنزه عن تأويل هذا الحديث وأمثاله، ويمضيه على مراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، مراعيا الأصل الذي ذكرناه، وهو نفي التشبيه بصفات العبيد.

غير أن عليه أن يعلم [أن] هذا الحديث لا يدخل في جملة أخبار الصفات التي لا محيد لأحد منها؛ لأن السبيل إلى إثبات ذلك القسم: النقل الصحيح المتواتر الموجب للعلم، وهذا الحديث من جملة الآحاد؛ ثم إنه من أحاديث الرؤيا، ومبنى الرؤيا- في الغالب من الأحوال- على التعبير والتأويل ” انتهى.

وما ذكره رحمه في شأن الرؤيا، وأنه لا يؤخذ منها إثبات الصفات، مسلّم.

وأما ما ذكره في أن أحاديث الآحاد لا تثبت بها الصفات، أو أنها لا تفيد العلم بإطلاق، فغير صحيح.

وينظر: جواب السؤال رقم: (295735).

وهكذا ما ذكره من طريقي النظر في معنى الحديث؛ فإنما هما طريقا المتكلمين: إما طريق التأويل، وإما طريق التفويض. وأما طريق أهل الإثبات، في أحاديث الصفات بصفة عامة: فلم يشر إليها، ولم يعرج عليها بشيء.

وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على تأويل الحديث بأن وضع الكف، عبارة عن الرحمة، أو نحو ذلك من وجوه التأويلات، وعلى أن وجدان برد الأنامل: ما حصل له من التجلي، وانكشاف العلوم.

قال، رحمه الله، كما في “بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية” (7/ 378):

” قوله: = فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة = : يقال له:

لا ريب أن في ذلك الحديث: ( فتجلى لي ما بين السماء والأرض ) ؛ ولا ريب أن هذا من آثار هذا الوضع، فإنه من الموجود في الشاهد: أن الإنسان يضع صدره أو يده على صدر الإنسان، أو على ظهره، فيجد في قلبه من الآثار بحسب ما يناسب حاله وحال الواضع ” .

ثم قال – “بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية” (7/ 382) – : “فالتجلي، والعلم: أثر وضع يده بين كتفيه؛ لا أنه هو نفس ما بين الكتفين، ولا أنه نفس وضع اليد”.

وقال – “بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية” (7/389) – : “وقوله: = والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف: قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ( فَعَلِمت ما بين المشرق والمغرب ) ، وما ذلك إلَاّ لأن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف =

يقال له: الحديث يدل على أن هذه المعرفة كانت من آثار الوضع المذكور، وهذا حق؛ لكن لا يدل على أن الوضع ليس له معنى إلَاّ مجرد هذا التعريف. وهذا ظاهر معروف بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء، حيث قال: ( فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها )، وفي رواية:  ( برد أنامله على صدري، فعلمت ما بين المشرق والمغرب )؛ فذكر وضع يده بين كتفيه، وذكر غاية ذلك: أنه وجد برد أنامله بين ثدييه، وهذا معنى ثانٍ، وهو وجود هذا البرد، عن شيء مخصوص، في محل مخصوص، وعقَّب ذلك بأثر الوضع الموجود.

وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر”.

والحاصل:

أن ما كان من باب “الرؤى”، كحديث الكفارات المذكور: لا يؤخذ من مجرده إثبات صفة من صفات الله جل جلاله، أو شأن من شؤون صفاته، ما لم يثبت ذلك بنص آخر معلوم؛ مع ما تقرر من أن رؤى الأنبياء حق. ولم نقف على أحد من أهل العلم ذكر “برودة الأنامل” في باب “الصفات”؛ فلا نقول قولا لم يسبق إليه أحد من أئمة السنة، لا سيما في هذا الباب.

والله أعلم.

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android