سمعت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها، ولا ربعها، ولا خمسها، إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل) فهل معني بدايته بالنصف أنه لا يمكن للصلاه أن تُقبل كلها؟
هل يمكن للمصلي أن يحصل على أجر الصلاة كاملا؟
السؤال: 519108
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الحديث المذكور في السؤال، ورد مسندا من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَنَمَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى، فَأَخَفَّ الصَّلَاةَ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ قُمْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ خَفَّفْتَ!! قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنِّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ.
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا، تُسْعُهَا، ثُمْنُهَا، سُبْعُهَا، سُدْسُهَا، خُمْسُهَا، رُبْعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا .
رواه أبو داود (796)، والإمام أحمد في "المسند" (31 / 189) واللفظ له. وصححه محققو المسند، وقال الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3 / 382): "حديث حسن. وأخرجه أحمد بإسناد صححه الحافظ العراقي " انتهى.
ثانيا:
هذا الحديث يشير إلى أن كمال صلاة العبد، بحسب كمال خشوع المصلي فيها وحضور قلبه، ويدل على هذا أنّ عمار بن ياسر رضي الله عنه ساق هذا الخبر كدليل لقوله: فَإِنِّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ .
قال ابن رسلان حمه الله تعالى:
" وفي هذا الحديث الحث الأكيد والحض الشديد على الخشوع والخضوع في الصلاة، وحضور القلب مع الله تعالى، والإتيان بالسنن والآداب الزائدة على الفرائض والشرائط؛ فإن الصلاة لا تقع صحيحة، ويكتب للمصلي فيها أجر، كالعشر والتسع ونحوهما؛ إلا إذا أتى بهما كاملين، فمتى أخل بفرض أو شرط منها: لم تصح، ولم يكتب له أجر أصلا.
ويدل على هذا قول عمار في أول الحديث: ( هل رأيتموني تركت من حدودها شيئا ).
وقوله: ( إني بادرت سهو الشيطان )، يدل على أن سبب ذهاب تسعة أعشار فضيلة الصلاة: من وسوسة الشيطان، وذكره شيئا من الأمور الدنيوية واسترساله في ذكره " انتهى. "شرح سنن أبي داود" (4 / 490).
فمن أقام جميع حدودها وخشع في جميع أجزائها، فإنه يرجى له الأجر الكامل؛ لأن الله لا يضيع عمل عامل ولو كان مثقال ذرة.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا النساء/40.
وقال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا النساء /124.
وقال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ الزلزلة/7.
قال أبو حامد الغزالي، رحمه الله: " وقال عبد الواحد بن زيد أجمعت العلماء على أنه لَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ منها.
فجعله إجماعاً.
وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين، وعن علماء الآخرة: أكثر من أن يحصى". انتهى، من "إحياء علوم الدين" (1/ 161).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهذا بإجماع السلف: أنه لا يثاب العبد من صلاته إلا ما عَقَل منها، وحضره بقلبه " انتهى. "بدائع الفوائد" (2/696).
ومعنى هذا أن من عقل صلاته كلها، كتب له كامل الأجر.
قال العيني رحمه الله تعالى: " والمعنى: أن الناس تختلف أحوالهم في ثواب صلواتهم على حسب حالاتهم في إقامتها، فمنهم من يحصل له ثواب عشر صلاة، ومنهم تسعها، ومنهم ثمنها إلى نصفها، فالرجل السعيد أن يحصل له ثواب كلها " انتهى. "شرح سنن أبي داود" (3 / 455).
فالاكتفاء بذكر النصف: لا يعني أنه لا يمكن أن يكتب للمصلي الأجر الكامل، وإن أشار بعض أهل العلم إليه.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" قوله في حديث عمار: ( ومَا يُكْتَبُ لَهُ فيهَا إِلَّا عُشْرُهَا) الحديث.
يترقى فيه من الأقل إلى الأكثر، وكأنه للإشارة إلى أن الذي يكتب دون نصفها هو الأكثر … وكأنها لا تكتب كلها لأحد، كما لم يذكر هنا، ولذا شرع عقب السلام منها الاستغفار ثلاثا، كما كان يقوله صلى الله عليه وسلم عقب السلام؛ لأنه لا يكاد أحد يقوم بواجباتها كلها على أكمل الوجوه، فشرع الاستغفار تداركا لما حصل من التفريط " انتهى. "التحبير لإيضاح معاني التيسير" (5/439).
وإنما الذي يظهر من الاكتفاء بذكر النصف، هو أن الحديث في سياق بيان ما ينقص من الصلاة إذا لم يخشع العبد الخشوع الكامل، ولم يأت بكامل حدودها، ولذا بوّب عليه الإمام أبو داود رحمه الله تعالى بقوله: " بَابُ مَا جَاءَ فِي نُقْصَانِ الصَّلَاةِ ".
فذكر الحديث جميع أسماء الأجزاء التي يمكن أن يصل إليها النقص، فليس بعد النصف اسم جزء آخر، فلذا توقف العدّ عنده، ومما يشير إلى هذا المعنى رواية الإمام أحمد في "المسند" (31/171)، وابن حبان "الإحسان" (5/210)، وغيرهما:
(إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي، وَلَعَلَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا عُشْرُهَا، أَوْ تُسْعُهَا، أَوْ ثُمُنُهَا، أَوْ سُبُعُهَا. حَتَّى انْتَهَى إِلَى آخِرِ الْعَدَدِ).
فعبارة: ( حَتَّى انْتَهَى إِلَى آخِرِ الْعَدَدِ )، تدل على أن القصد حصر أسماء الأجزاء التي يصل إلها النقص.
وكذا لفظة: ( وَلَعَلَّهُ ) تبيّن أن ذكر هذه الأجزاء من باب الإشفاق والتحذير من الإنقاص من حدود الصلاة، وليس أن النصف هو أعلى الأجر الذي يمكن أن يكتب للمصلي؛ بل يكتب له ما فوق ذلك من صلاته، حتى تكتب له، لو حضر قلبه في صلاته كلها؛ وما أعز ذلك، وأقله في الناس!!
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " عن وسواس الرجل في صلاته وما حد المبطل للصلاة؟ وما حد المكروه منه؟ وهل يباح منه شيء في الصلاة؟ وهل يعذب الرجل في شيء منه؟ وما حد الإخلاص في الصلاة؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها ؟".
فأجاب:
" الحمد لله، الوسواس نوعان:
أحدهما: لا يمنع ما يُؤمر به من تدبر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة؛ بل يكون بمنزلة الخواطر:
فهذا لا يبطل الصلاة؛ لكن من سلمت صلاته منه، فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته.
الأول: شِبْهُ حال المقربين.
والثاني: شِبهُ حال المقتصدين.
وأما الثاني: فهو ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلا:
فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها. حتى قال: إلا عشرها ).
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر.
وقال ابن عباس: ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها.
ولكن: هل يبطل الصلاة، ويوجب الإعادة؟
فيه تفصيل:
فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقلَّ من الحضور، والغالب الحضور: لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصا. فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو.
وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان:
أحدهما: لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، فهو شبيه صلاة المرائي فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن.
وهذا قول أبي عبد الله ابن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما.
والثاني: تبرأ الذمة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها ولا ثواب؛ بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة. واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أذن المؤذن بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قُضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى. فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين .
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يذكره بأمور، حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكثير.
وهذا القول أشبه وأعدل؛ فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور؛ لا تدل على وجوب الإعادة، لا باطنا، ولا ظاهرا. والله أعلم. " انتهى، من مجموع الفتاوى (22/ 611-613).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " الذي يظهر أن رأي الجمهور هو الصحيح وأن الإنسان إذا لم يحضر قلبه في الصلاة فصلاته صحيحة لكنها ناقصة بحسب ما غفل عن صلاته". انتهى، من "فتاوى نور على الدرب" (8/2) بترقيم الشاملة.
والخلاصة:
نصوص الشرع متضافرة على أن الله تعالى لاينقص من أجر عبده شيئا، فمن أتم الصلاة بجميع حدودها وخشوعها فإنه يرجى له جميع الأجر لكمال فضله وكرمه وعدله سبحانه وتعالى.
وأما هذا الحديث فهو في سياق بيان أن أجر المصلي ينقص بمقدار ما ينقص من خشوعها وحدودها.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب