في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: \" لَمَّا رأَيْتُ مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم طِيبَ نفسٍ قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ لي، فقال: (اللَّهمَّ اغفِرْ لِعائشةَ ما تقدَّم مِن ذنبِها وما تأخَّر، ما أسرَّتْ وما أعلَنَتْ)، فضحِكَتْ عائشةُ حتَّى سقَط رأسُها في حِجْرِها مِن الضَّحِكِ، قال لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: \"(أيسُرُّكِ دعائي؟) فقالت: وما لي لا يسُرُّني دعاؤُكَ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : واللهِ إنَّها لَدعائي لِأُمَّتي في كلِّ صلاةٍ). أليس يعني هذا أن ذنوب المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها مغفورة، مهما صنعنا، وأذنبنا، بالتالي لن يدخل أحدٌ من أمته صلى الله عليه وسلم النار؟
هل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالمغفرة يفيد أنه لن يدخل النار أحد منهم؟
السؤال: 519941
ملخص الجواب
حديث عائشة في سنده ضعف، ومن المقطوع به أن من أمة التوحيد من يدخل النار ثم يخرج منها، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في الدنيا، أو شفاعته في الآخرة، لا تمنع من ذلك، لكن لا يخلد أحد من الموحدين في النار.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
هذا الخبر رواه ابن حبان "الإحسان" (16 / 47 — 48)، والبزار كما في "كشف الأستار" (3 / 238)، و اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (8 / 1429): عن ابْن وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طِيبَ نَفْسٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ لِي، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ ، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الضَّحِكِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَسُرُّكِ دُعَائِي؟ فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: وَاللهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلَاةٍ .
قال الهيثمي رحمه الله تعالى:
" رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير أحمد بن منصور الرمادي، وهو ثقة " انتهى. "مجمع الزوائد" (9 / 244).
وصححه الحافظ ابن حجر في "مختصر زوائد البزار" (2 / 356).
لكن في إسناده أبو صخر، وهو حميد بن زياد، ويسميه بعضهم حميد بن صخر: وهو مختلف فيه، فنص غير واحد على أنه "لابأس به"، وضعفه بعضهم، كابن معين في رواية له، كما في "الجرح والتعديل" (3 / 222)، والإمام أحمد في قول له كما في "الضعفاء الكبير" للعقيلي (1 / 270)، وقال النسائي: " ليس بالقوي "، كما في "الضعفاء والمتروكون" (ص 168).
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" حميد بن زياد أبو صخر المدني الخراط؛ عن أبي سلمة وأبي صالح السمان. وعنه ابن وهب والقطان: مختلف فيه، قال أحمد: ليس به بأس " انتهى. "الكاشف" (1 / 353).
وقال رحمه الله تعالى:
" حميد بن زياد أبو صخر المدني سمع المقبري، ضعفه أحمد وابن معين في قول، ووثقه جماعة " انتهى. "المغني في الضعفاء" (1 / 194).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" حميد بن زياد، أبو صخر، ابن أبي المخارق الخراط صاحب العباء مدني سكن مصر، ويقال هو حميد ابن صخر أبو مودود الخراط، وقيل إنهما اثنان: صدوق يهم " انتهى. "تقريب التهذيب" (ص181).
وقول الحافظ هنا لا يتناسب مع تصحيحه للحديث، كما نبه الشيخ الألباني، حيث قال رحمه الله تعالى:
" وهذا إسناد حسن، ورجاله ثقات رجال مسلم غير أحمد بن منصور – وهو الرمادي من شيوخ ابن ماجه – وهو ثقة، ولولا أن في أبي صخر – واسمه حميد بن زياد – بعض الكلام من قبل حفظه لصححته، قال الذهبي في "الكاشف": مختلف فيه، قال أحمد: ليس به بأس.
وقال الحافظ في "التقريب": صدوق يهم.
ولذلك فقوله في "زوائد البزار" (ص 284) : " صحيح ". لا يخلو من تساهل " انتهى. "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (5 / 324).
لكن كونه فيه بعض الكلام في حفظه، ومختلفا فيه، وينفرد بخبر، فهذا كله يدعو إلى التوقف في خبره، كما جاء في "المختلف فيهم" لابن شاهين رحمه الله تعالى:
" ذكر حميد بن زياد أبي صخر، والخلاف فيه:
ذكر ابن شاهين، أن أحمد بن حنبل سئل عنه فقال: ليس به بأس.
وأن يحيى بن معين قال: هو ضعيف.
قال أبو حفص: وهذا الخلاف في حميد، من أحمد، ويحيى: يوجب التوقف فيه. وكان ابنُ زياد صاحب علم بالتفسير، وليس له حديث كثير. ولعل يحيى وقف من روايته على شيء أوجب هذا القول فيه، والله أعلم " انتهى. "المختلف فيهم" (ص28).
وقال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى:
" وقد عرف اختلاف الأئمة في عدالته والاحتجاج بخبره، مع الاضطراب في اسمه وكنيته واسم أبيه، فما تفرد به من الحديث ولم يتابعه عليه أحد لا ينهض إلى درجة الصحيح، ولا ينتهي إلى درجة الصحة، بل يستشهد به ويعتبر به " انتهى. "الصارم المنكي" (ص192).
وقد وردت روايات بنحو هذا الخبر لكن ضعف أسانيدها ظاهر، كما سبق بيانها في جواب السؤال رقم (351759).
وانفردت هذه الرواية بجملة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته بصيغة: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ ).
وغفران الذنوب السابقة واللاحقة: من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) الفتح /1 – 2.
وفي حديث الشفاعة؛ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ: ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي … رواه البخاري (6565)، ومسلم (193).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ): هذا من خصائصه صلوات اللّه وسلامه عليه الّتي لا يشاركه فيها غيره، وليس صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر … " انتهى. "تفسير ابن كثير" (7 / 328).
وقد سبق إلى نحو ذلك شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، قال:
" ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله هذا لك فما لنا، فأنزل الله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مختص به دون أمته". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/ 315).
وقال أيضا، في جملة فصل نفيس له:
" ولما أنزلَ اللهُ عليه هذه الآية (لِيَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذنبك وَمَا تَأخَّرَ) قال له الناسِ: يا رسولَ الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هُوَ الذي أَنزلَ اَلسكينَةَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزدَادواْ إِيمُانا مع إيمانهم).
وفي هذا ردٌّ على طائفةٍ من الناس – كبعض المصنِّفين في السِّيَر وفي مسألة العصمة – يقولون في قوله (ليَغفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَمَ مِن ذَنبك): وهو ذنبُ آدم، (وَمَا تَأَخرَ) ذنبُ أمتِه!!
فإن هذا القولَ، وإن كان لم يَقُلْه أحدٌ من الصحابة والتابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا يقولُه من يَعقِلُ ما يقول = فقد قاله طائفة من المتأخرين.
ويَظُنُّ بعضُ الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله وتحريفُ الكَلِم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح في أحاديث الشفاعة أن الناسَ يومَ القيامة يأتون آدمَ يَطلبون منه الشفاعةَ، فيعتذِرُ إليهم ويقول: إني نُهِيْتُ عن الشجرة فأكلتُ منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيًّا بعد نبي إلى أن يَأتوا المسيحَ، فيقول: ائْتُوا محمدًا فإنه عبد قد غفرَ اللهُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم: لم يعتذر آدم.
وأيضًا: فلما نزلتِ الآية قالت الصحابةُ: هذا لكَ فما لنا؟ فأنزل الله: (هُوَ اَلَّذِي أَنزَلَ السكينَةَ في قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ)، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم لقال: هذه لكم". انتهى، من "جامع المسائل" (4/29).
ثانيا:
الدعاء بعموم المغفرة لعموم المؤمنين قد أُمِر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في قوله تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ محمد/19.
روى الإمام مسلم (2346) عَنْ عَاصِم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ. قَالَ: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا. أَوَ قَالَ: ثَرِيدًا. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَكَ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ".
واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين لا يدعو المؤمن إلى التكاسل والتهاون في ترك الواجبات والطاعات واقتحام المحرمات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، مع رفعة منزلته: ليس كل أدعيته مستجابة في حق كل من يدعو عليهم أو يدعو لهم، لأن الله تعالى قد لا يجيب لخواص عباده لحكمة، ومنها تحقق الاختبار والامتحان، ولتثبيت انفراده عز وجل بالهداية والتوفيق في قلوب الناس.
فالله تعالى يشفّع الشافع فيمن يرضى.
ورضاه عز وجل يكون عن المخلص في توحيده، فكلما ازداد إخلاص العبد وقوي إيمانه كلما كان رجاء أن تدركه بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أقوى.
كما روى البخاري (99) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَُنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ .
وقوة الإخلاص لا بد وأن يظهر أثرها على عمل العبد.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" فإنّ تحقق القلب بمعنى "لا إله إلا الله" وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالا، وهيبة، ومخافة، ومحبّة، ورجاء، وتعظيما، وتوكّلا، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تألّه ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبّة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبّه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النّفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان …
وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله، فقد عبده، كما قال عز وجل: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ).
فتبيّن بهذا أنّه لا يصحّ تحقيق معنى قول: لا إله إلا الله، إلّا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يريده الله، ومتى كان في القلب شيء من ذلك، كان ذلك نقصا في التوحيد، وهو من نوع الشّرك الخفيّ، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) قال: لا تحبّوا غيري " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (1 / 524 – 525).
وكذا رضا الله تعالى أقرب للمجتهد في صالح الأعمال، فكلما ازداد صلاح العبد، كلما ازدادت قوة رجاء أن تناله بركة استغفار النبي صلى الله عليه وسلم، كما يشير إلى هذا حديث رَبِيعَة بْن كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ، قَالَ: " كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: (سَلْ)، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ! قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟) قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) رواه مسلم (489).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" وفيه دليل أيضا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يدخل أحدا الجنة، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه، ولكنه قال له: ( أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ) فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حري بأن يكون مرافقا للرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة. والله الموفق " انتهى. "شرح رياض الصالحين" (2 / 104).
فمن قصر في تخليص توحيده لله تعالى من شوائب الشرك، وتهاون في الطاعات، قد يحرم من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فيخشى عليه العذاب.
ثالثا:
ومثله ما روى مسلم (202) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] الْآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي)، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: " يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ.
ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته كثير، وقد ادخر دعوة مستجابة لأمته في الآخر، كما روى البخاري (6304)، ومسلم (199) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ.
ولفظ مسلم: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (3/ 75): "هذه الاحاديث تفسر بعضها بعضا، ومعناها أن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب، وبعضها لا يجاب…
وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر النبى صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) ففيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإن كان مصرا على الكبائر، وقد تقدمت دلائله وبيانه في مواضع كثيرة" انتهى.
وهذه الدعوات-ومنها الدعوة المستجابة- لا تعني أن أمته لا يدخل أحد منها النار، بل منهم يدخل، ويخرج بشفاعته صلى الله عليه وسلم، أو بشفاعة الملائكة أو المؤمنين أو بفضل رب العالمين، كما دلت على ذلك الأحاديث، لكن أثر هذه الدعوة أنه لا يخلد في النار أحد من أمته الموحدين، بل يدخل الجنة ولو عذب قبلها، وكذلك تظهر أثر دعوته في أن هذه الأمة تكون أكثر أهل الجنة، وأول من يدخل الجنة.
ويجب القطع بأن من الأمة من يدخل النار أولا ثم يدخل الجنة، كما جاء في عذاب الزاني والسارق وشارب الخمر، وغيرهم، وفي حديث الشفاعة: فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي فَيَقُولُ انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ فَأَنْطَلِقُ رواه البخاري (7510)، ومسلم (193) من حديث أنس رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في وجوه الفرق بين ذنب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قد غفره الله، وذنوب أمته:
" الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته؛ بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل، وأخبر به الصادق المصدوق، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها. وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله.
وقد قال الله تعالى: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به.
والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل. فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول؛ لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/316).
وقال المناوي في "فيض القدير" (6/ 206): " (حرم الله عليه النار) أي نار الخلود، وإذا تجنب الذنوب أو تاب أو عفي عنه. وظاهره يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار لما فيه من التعميم، لكن قامت الأدلة القطعية على أن طائفة من عصاة الموحدين يعذبون ثم يخرجون بالشفاعة" انتهى.
وقال السفاريني رحمه الله في "لوامع الأنوار" (1/ 391): "ذكر بعض المحققين: انعقاد الإجماع على أنه لابد سمعا من نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة، أو طائفة من كل صنف منهم، كالزناة وشربة الخمر وقتلة الأنفس وأكلة الربا وأهل السرقة والغصوب، إذا ماتوا من غير توبة، فلابد من نفوذ الوعيد في كل طائفة من كل صنف، لا لفرد معين، لجواز العفو" انتهى.
ولو قيل بأن الأمة لا يدخل أحد منها النار، بالدعاء أو بالشفاعة، لكن هذا تكذيبا لكثير من النصوص الدالة على أن من الأمة من يدخلها، ولهذا كان الحق جمع النصوص بعضها إلى بعض، وهذا ما فارق به أهل السنة أهل البدع من المرجئة والخوارج، فإن المرجئة نظرت إلى نصوص الوعد وأهملت نصوص الوعيد، والخوارج بعسكهم، وهدى الله أهل السنة فجمعوا بين الأدلة، فاستقام لهم النظر.
والحاصل:
أن من الأمة الموحدة من يدخل النار ثم يخرج منها، وأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في الدنيا، أو شفاعته في الآخرة، لا تمنع من ذلك، لكن لا يخلد أحد من الموحدين في النار، وسيرضي الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يسوءه في أمته، فيكونون أكثر أهل الجنة، وأول أهل الجنة دخولا لها، وغير ذلك من الفضائل.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة