في حديث عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ” . قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ . قَالَ ” هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلاَ أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لاَ يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلاَ يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ ” ، وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ { أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )، هل ذلك يعني أنَّ الذين يحبون آخرين في الله يمكن أن يكون مقامهم أعلى من الشهداء والأنبياء؟
لماذا يغبط الأنبياء والشهداء المتاحبين في الله؟
السؤال: 519993
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الأنبياء أعلى الناس منزلة يوم القيامة وفي الجنة؛ لعلو مكانتهم وشرفهم وفضلهم، ويدل عليه: ما روى البخاري (3256)، ومسلم (2831) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ).
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟
قَالَ: (بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ).
وهذا يدل على أنه مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم أن الأنبياء أعلى الناس منزلة عند الله.
وكذلك الشهداء، لهم أعلى المنازل عند الله، ويدل عليه: ما روى أبو داود (3527) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) .
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ، قَالَ: (هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]) وصححه الألباني.
ثانيا:
روى الترمذي (2390) عن معَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ؛ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ) وصححه الألباني.
وهذا يدل على عظم منزلة الأنبياء والشهداء، وأن هذا مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا الحديث لا يدل على أن هؤلاء المتحابين في الله لهم مقام عند الله أعلى من النبيين والشهداء، وإنما يدل على أن الأنبياء والشهداء يستحسنون مكانهم، وقربهم من الله تعالى.
فالغبطة: الاستحسان.
وقيل: تمني ما هم عليه في هذه الحال، مع أن الأنبياء والشهداء مقدمون في المنازل الأخرى، كما أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وفي الأغنياء من هو أعلى منهم منزلة في الجنة، فالتفضيل في منزلة لا يعني التفضيل في عموم المنازل.
فهذان قولان في معنى الغبطة هنا.
قال المُظْهِري، رحمه الله: “قوله: “يغبطهم النبيون والشهداء”، (الغبطة): أن يتمنى الرجل شيئًا؛ يعني: يتمنى النبيون والشهداء أن يكون لهم تلك المنازل لحسنها وطيبها وعظم قدرها.
وليس تمنَّي النبيين والشهداء تلك المنازل لأَجْلِ أن تكون تلك المنازل خيرًا من منازلهم، بل منازل النبيين خير، ولكن عادة الإنسان أن يتمنى ما رآه حسنًا، وإن كان له مثل ذلك الشيء، أو خيرًا منه”. انتهى، من “المفاتيح في شرح المصابيح” (5/ 232).
وقال الملا علي القاري في “مرقاة المفاتيح” (8/ 3137 ): ” (يغبِطهم النبيون والشهداء) بكسر الموحدة، من الغِبْطة -بالكسر- وهي تمني نعمة، على ألا تتحول عن صاحبها، بخلاف الحسد فإنه تمني زوالها عن صاحبها.
فالغبطة في الحقيقة عبارة عن حسن الحال، كذا قيل.
وفي القاموس: الغبطة حسن الحال، والمسرة، فمعناها الحقيقي مطابق للمعنى اللغوي، فمعنى الحديث: يستحسن أحوالَهم الأنبياءُ والشهداء.
قال: وبهذا يزول الإشكال الذي تحيَّر فيه العلماء.
وقال القاضي: كل ما يتحلى به الإنسان، أو يتعاطاه، من علم وعمل؛ فإن له عند الله منزلة لا يشاركه فيه صاحبه ممن لم يتصف بذلك، وإن كان له من نوع آخر، ما هو أرفع قدرا وأعز ذخرا، فيغبطه؛ بأن يتمنى ويحب أن يكون له مثل ذلك، مضموما إلى ماله من المراتب الرفيعة، أو المنازل الشريفة، وذلك معنى قوله: (يغبطهم النبيون والشهداء)، فإن الأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من ذلك، من دعوة الخلق، وإظهار الحق، وإعلاء الدين، وإرشاد العامة والخاصة، إلى غير ذلك من كليات أشغلتهم عن العكوف على مثل هذه الجزئيات، والقيام بحقوقها.
والشهداء وإن نالوا رتبة الشهادة، وفازوا بالفوز الأكبر: فلعلهم لن يعاملوا مع الله معاملة هؤلاء، فإذا رأوهم يوم القيامة في منازلهم، وشاهدوا قربهم وكرامتهم عند الله، ودوا لو كانوا ضامين خصالهم، فيكونون جامعين بين الحسنتين وفائزين بالمرتبتين.
وقيل: إنه لم يقصد في ذلك إلى إثبات الغبطة لهم على هؤلاء، بل بيان فضلهم، وعلو شأنهم، وارتفاع مكانهم، وتقريرها على آكد وجه وأبلغه.
والمعنى: أن حالهم عند الله يوم القيامة بمثابةٍ: لو غبط النبيون والشهداء يومئذ مع جلالة قدرهم ونباهة أمرهم حال غيرهم؛ لغبطوهم” انتهى.
ومما يرجح المعنى الأول وهو أن الغبطة الاستحسان والسرور، أن الأنبياء متحققون بهذه الخصلة الشريفة وهو التحاب في الله عز وجل، فتكون لهم هذه المنزلة عند الله، ويستحسنون كونها أعطيت لغير الأنبياء والشهداء.
وقد قرر الإمام ابن رجب الحنبلي، رحمه الله، هذا المعنى، تقريرا حسنا في شرحه لحديث أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ ) [رواه الترمذي (2347) وغيره، وضعفه الألباني]. قال رحمه الله:
” قوله صلى الله عليه وسلم: “أغبط أوليائي عندي” الاغتباط هو: الفرح والسرور والابتهاج بالنعمة سواء كانت عَلَى الإنسان أو عَلَى غيره، محبة لذلك الغير وتهنئة له بما وصل إِلَيْهِ، وسواء كان المغبِط له أعلى منزلة من المغبوط أو مساويًا أو دونه.
فأما مع علو المنزلة فكما في هذا الحديث، وفي حديث: إن لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ عز وجل. وفسرهم بالمتحابين في الله عز وجل، وليس المراد أن الأنبياء يتمنون أن يكونوا بمنزلتهم لقصورهم عن درجاتهم، وإنَّما المراد أنهم يبتهجون ويسرون بهم بمكانهم من الله عز وجل.
ومن هنا يعلم أن من فسر الغبطة بتمني مثل نعمة المغبوط، من غير زوالها عنه -بخلاف الحسد، فإنَّه تمني زوال نعمة المحسود- ليس ذلك عَلَى إطلاقه وإنَّما هي في غبطة الأدنى للأعلى خاصة.
وقوله: “أغبط أوليائي عندي” يشير صلى الله عليه وسلم إِلَى أن من كان كذلك فهو من خاصة أوليائه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يُسَرُّ بمن كان من أمته عَلَى هذه الصفة، ويفرح به ويهنئه بما حصل له من السعادة، وكذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم من أوليائه”. انتهى، من “مجموع رسائل ابن رجب” (2/742).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب