كنت أتساءل عن معني الآية الكريمة: (وَلَٰكِن ظَنَنتُمۡ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعۡلَمُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَعۡمَلُونَ)، لأن بعض المشككين يقولون بأن الآية تدل على أن الله تعالى يعلم كثيرا من الأعمال ولا يعلم الجزيئيات، وهذا محال طبعا؛ لأنه عليم بكل شيء، ولكن كنت أريد أن أعرف المعني الصحيح، والرد علي هذا القول.
أولا:
يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وهذه الآيات من سورة فصلت يفضح الله تعالى فيها ظن الكذب الذي يظنه الكافرون بالله تعالى، وهو اعتقادهم الفاسد أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون، وبسببه يتجرؤون على الكفر والعصيان.
يقول السعدي رحمه الله في "تفسيره" (ص747): " وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ بإقدامكم على المعاصي أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، فلذلك صدر منكم ما صدر، وهذا الظنُّ صار سببَ هلاكهم وشقائهم، ولهذا قال: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ الظن السيئ، حيث ظننتم به، ما لا يليق بجلاله؛ أَرْدَاكُمْ أي: أهلككم فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ لأنفسهم وأهليهم وأديانهم، بسبب الأعمال التي أوجبها لكم ظنُّكم القبيحُ بربكم، فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء، ووجب عليكم الخلود الدائم في العذاب، الذي لا يفتر عنهم ساعة"، انتهى.
ومما يعين على تمام فهم الآية، معرفة سبب نزولها، فقد روى البخاري (4817)، ومسلم (2775) أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
"اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي - أو ثقفيان وقرشي - كثيرة شحم بطونهم، قليلة فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهَرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله عز وجل: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ الآية"، انتهى، ومراده: أن الآية كلها قد نزلت بسبب ذلك.
فقد نزلت هذه الآية دلالة على أن الله يعلم كل شيء، ويسمعه، سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل سرٍّ، حتى خطاب (كل) اثنين يتكلمان بالسرِّ بينهما، وهذا علم بالجزئيات والتفاصيل والأسرار.
ثانيًا:
الآية التي ذكرها المشكِّك لا تدل على ما يقول، فقول المشكك: إن تدل على أن الله يعلم كثيرا من الأمور، ولا يعلم كل الأمور: هذا استدلال فاسد ظاهر البطلان، يتبين بتأمل يسير في دلالة الآية ولغتها.
فإنك إذا قلتَ: (إن جملة: زيدٌ لا يحفظ كثيرا من القرآن، جملةٌ فاسدةٌ وخطأٌ)؛ فهذا لا يعني أن الصواب لا بد أن يكون: (زيد يحفظ كثيرا من القرآن، ولا يحفظه كله)، بل يحتمل أن يكون الصواب: (زيد من المتقنين وهو يحفظ القرآن كله)، فأنت بحاجة إلى معرفة الصواب من حال زيد.
وقد دلت الأدلة الشرعية الخبرية والعقلية أن الله تعالى: يعلم كلَّ شيء، الكليات والجزئيات، لايخرج عن ذلك شيء.
كما قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وقال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.
وروى الإمام مسلم (2653) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).
فالله عز وجل هو خالق كل شيء ومقدِّره، من أنواع المخلوقات وجميع أفعالهم وحركاتهم وإراداتهم، والعقل يقضي أن الخالق لا بد أن يكون عالمًا بما يخلقه، محيطًا به، فهذا أمر فطري يقيني.
بل علم الله تعالى أكمل وأشمل وأصدق من علم المخلوق بنفسه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "شرح الأصبهانية" (ص397): " كل علم في الممكنات - التي هي المخلوقات - فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريًا منه بل هو أحق، والله سبحانه، وله المثل الأعلى- لا يستوي هو والمخلوق لا في قياس تمثيل ولا قياس شمول بل كل ما أثبت لمخلوق فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فتنزيه الخالق عنه أولى"، انتهى.
وللفائدة حول إحاطة علم الله تعالى تراجع إجابة السؤال: (295288).
فالله عز وجل يعلم السر وما هو أخفى من السر، مما يحدث به الإنسان نفسه، فهو تعالى كما أخبر عن نفسه تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فإن كان هذا المشكك يريد دلالة القرآن والسنة، فإحاطة علمه تعالى بكل شيء من أوضح محكمات القرآن، ومن المعاني التي كثر ورودها في القرآن والسنة، ومما يدل عليه صريح العقل والفطرة السليمة أيضًا.
ثم إذا عدنا إلى قصة الآية، وسبب نزولها، وسياقها العام: تبين بلا أدنى ريب، بطلان هذا الفهم المنحرف للآية الكريمة. فإن هؤلاء الكفار كانوا يستخفون بأعمالهم من الناس، ولا يستخفون من الله، كما قال الله تعالى في أمثالهم، في آية أخرى: يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطًا [النساء: 108].
وظنوا، بجهلهم، وشكهم، وشركهم: أن الله جل جلاله لا يعلم هذه الأعمال (الكثيرة) التي يستخفون بها.
فهب أن العلم بهذه الأعمال (الكثيرة) لا يكون إلا بـ(شاهد) يشهدها، ويشهد عليها؛ فما أدراكم أنه ليس لله عليكم شهود؟! بلى؛ يشهد عليكم: من لا يفارقكم، ولا يمكنكم أن تستتروا منه، ولا أن تستخفوا عنه: سمعكم، وأبصاركم، وجلودكم!!
فكيف، والله جل جلاله: سميع، بصير، عليم؛ أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء علما؛ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!!
قال أبو حيان، رحمه الله: «ويحتمل أن يكون معناه: عن أن يشهد، أي وما كنتم تمتنعون، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم، وإلى هذا نحا السدي.
أو: ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم، لأن الجوارح لزيمة لكم.
وعبر قتادة عن تستترون بتظنون، أي وما كنتم تظنون أن يشهد، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ.
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا، وهو الخفيات من أعمالكم، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله». انتهى، من "البحر المحيط في التفسير" (9/ 299).
وإن العجب لا ينقضي ممن يأتي إلى آية إنما جاءت لترد هذا الظن الكاذب، والوهم الساقط، وتدل على أنه سبب هلاك المشركين، الذي أرداهم في نار جهنم خالدين ليزعم أن الآية تؤيده، وتقرره!!
والله أعلم.