هل بوسعكم – يا شيخ – تفسير بعض آيات سورة ” الحِجر ” ؛ لأني لا أفهمها ، وأنا أبحث عن تفسيرها في تفاسير مختلفة ، لكنى أعجز عن إيجاده ، يقولون في الآية 55 : (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) فيقول هو في الآية 56 : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) لأن الشيطان يوسوس لي ، ويوهن قلبي بالقول بأن الله تعالى لم يقبل الدعاء ، فإبراهيم عليه السلام قد تقدم به العمر ، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه بابنٍ من سارة عليها السلام ، فلا تتوقع أن يجيب الله سبحانه وتعالى دعاءك عندما تكون في شدة ، بل إنك عندما تطعن في العمر وتكون قد اقترفت الكثير من الذنوب : فإن من الممكن أن يكون مصيرك إلى جهنم ! .
ويقول الله تعالى في القرآن : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ، كما ذكر في الحديث (كلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ، فهل بوسعكم – رجاء – تفسير لماذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام : ” بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين” ؟ .
إبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله
السؤال: 133678
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
قال تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ . قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ . قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) الحِجر/ 51 – 56 .
قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك كان من أجل قوله ” أبشرتموني بذلك على أن مسني الكبَر وأثَّر فيَّ ” ، فقد تعجَّب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة ؛ فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعه عادةً : تُدخل في النفس التعجب منها ، ولم يكن عليه السلام قانطاً ، ولا منكراً لقدرة الله ، وهو الذي رأى بعيني رأسه موت الطيور الأربعة التي ذبحها بنفسه ، ثم قسَّمها أجزاء ، فأحياها الله تعالى له ، فجاءته تسعى ! وهو عليه السلام آمَن بأن الله قد خلق بشراً بغير أبوين ، فكيف من شيخ فانٍ ، وعجوزٍ عقيم .
وأول ذلك أن الله تعالى أرسل ملائكة لتبشر إبراهيم عليه السلام وزوجه ” سارة ” بإسحاق ، فلما جاءت الملائكة بالبشرى : سألهم عليه السلام عن طبيعة البشارة ، وكيف سيكون الولد ، مع أنه بلغ به السن ما بلغ ، فأكدُّوا له الأمر أن ما جاءوا به هو بشارة حق .
قال ابن كثير رحمه الله :
ثم قال مُتعجباً من كِبَره ، وكِبَر زوجته ، ومتحققًا للوعد : ( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون ) .
“تفسير ابن كثير” (4/541) .
فقول إبراهيم عليه السلام ” فبِمَ تبشرون ” يحتمل الاستفهام ، والتعجب معاً ، ولا تعارض بينهما .
قال الماوردي رحمه الله :
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك استفهاماً لهم ، هل بشروه بأمر الله ؟ ليكون أسكن لنفسه .
الثاني : أنه قال ذلك تعجباً من قولهم ، قاله مجاهد .
“تفسير الماوردى” (3/163 ، 164) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
وهذا استفهام تعجب كأنه عجب من الولد على كبره .
“زاد المسير” (4/406) .
فأكدوا بشارتهم بالولد ، وأنها من الله تعالى ، وهي حقٌّ لا ريب فيه .
قال ابن كثير رحمه الله :
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً ، وبشارة بعد بشارة ، (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ) .
“تفسير ابن كثير” (4/541) .
وقولهم له بعدها (فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ) لا يقتضي أنه كان قانطاً ، بل هو تلطف من الملائكة في التنبيه له أن لا يصل به الأمر أن يكون في زمرة القانطين ، وهذا الأسلوب معروف في التنبيه ، ولا يلزم كون المخاطب به منهم ، كما قال تعالى لنوح عليه السلام : (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود/46 .
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله :
فقالوا : (فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) ذلك أنه لمَّا استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله : كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه ، بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه ، فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك ، فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله ، ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهاً عن القنوط من رحمة الله : جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب ، فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين ؛ تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة ، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطاً ؛ لرفعة مقام نبوءته عن ذلك ، وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله : (أَرني كَيْفَ تُحْيي المَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤمن قَالَ بَلَى وَلكنْ ليَطْمَئنَّ قَلْبي) البقرة/260 .
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام : (إنّي أَعظُكَ أَنْ تَكُونَ منَ الجَاهلينَ) هود/46 .
“التحرير والتنوير” (14/60) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله : قول الملائكة له فيما ذَكَرَ الله عنهم : (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ) الحجر/55 ، بدليل قوله : (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون) الحجر/56 ؛ لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ، ولا قانط .
قوله تعالى : (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ) .
بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيَّه إبراهيم قال للملائكة : “إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق” .
“أضواء البيان” (2/283) .
فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله ، ولا يجوز أن ينسب ذلك إلى الأنبياء ، فهم أكمل البشر علماً وعملاً .
بل لا يجوز لأحد من المؤمنين أن ييأس ويقنط من رحمة الله .
وقد عَدَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “القنوط من رحمة الله” من أكبر الكبائر ، رواه عبد الرزاق .
فلا يجوز لمؤمن أن يدعو الله تعالى وهو يائس من الإجابة ، بل عليه أن يحسن ظنه بالله ، ويوقن أنه سيستجيب له ، ويعطيه ما سأل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ادْعُوااللَّهَوَأَنْتُمْمُوقِنُونَبِالْإِجَابَة) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في صحيح “سنن الترمذي” .
وكذلك مهما تقدم العمر بالإنسان ، وعمل من المعاصي ما عمل ، فإن رحمة الله واسعة ، يغفر لمن تاب إليه ، وندم على ما فعل ، ما لم يحضره الموت ، قال الله تعالى : (قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر/53 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّاللَّهَيَقْبَلُتَوْبَةَالْعَبْدِمَالَمْيُغَرْغِرْ) رواه الترمذي (3537) وحسنه الألباني في صحيح “سنن الترمذي” .
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب