إبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله
السؤال: 133678
هل بوسعكم – يا شيخ – تفسير بعض آيات سورة ” الحِجر ” ؛ لأني لا أفهمها ، وأنا أبحث عن تفسيرها في تفاسير مختلفة ، لكنى أعجز عن إيجاده ، يقولون في الآية 55 : (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) فيقول هو في الآية 56 : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) لأن الشيطان يوسوس لي ، ويوهن قلبي بالقول بأن الله تعالى لم يقبل الدعاء ، فإبراهيم عليه السلام قد تقدم به العمر ، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه بابنٍ من سارة عليها السلام ، فلا تتوقع أن يجيب الله سبحانه وتعالى دعاءك عندما تكون في شدة ، بل إنك عندما تطعن في العمر وتكون قد اقترفت الكثير من الذنوب : فإن من الممكن أن يكون مصيرك إلى جهنم ! .
ويقول الله تعالى في القرآن : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) ، كما ذكر في الحديث (كلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) ، فهل بوسعكم – رجاء – تفسير لماذا قالت الملائكة لإبراهيم عليه السلام : ” بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين” ؟ .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
قال
تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ
عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ . إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ
إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ . قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ
عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
تُبَشِّرُونَ . قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ
. قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) الحِجر/ 51 –
56 .
قول
الملائكة لإبراهيم عليه السلام ذلك كان من أجل قوله ” أبشرتموني بذلك على أن مسني
الكبَر وأثَّر فيَّ ” ، فقد تعجَّب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة
مباينة للولادة ؛ فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعه عادةً : تُدخل في النفس التعجب
منها ، ولم يكن عليه السلام قانطاً ، ولا منكراً لقدرة الله ، وهو الذي رأى بعيني
رأسه موت الطيور الأربعة التي ذبحها بنفسه ، ثم قسَّمها أجزاء ، فأحياها الله تعالى
له ، فجاءته تسعى ! وهو عليه السلام آمَن بأن الله قد خلق بشراً بغير أبوين ، فكيف
من شيخ فانٍ ، وعجوزٍ عقيم .
وأول ذلك أن الله تعالى أرسل ملائكة لتبشر إبراهيم عليه السلام وزوجه ” سارة ”
بإسحاق ، فلما جاءت الملائكة بالبشرى : سألهم عليه السلام عن طبيعة البشارة ، وكيف
سيكون الولد ، مع أنه بلغ به السن ما بلغ ، فأكدُّوا له الأمر أن ما جاءوا به هو
بشارة حق .
قال
ابن كثير رحمه الله :
ثم
قال مُتعجباً من كِبَره ، وكِبَر زوجته ، ومتحققًا للوعد : ( أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون ) .
“تفسير ابن كثير” (4/541) .
فقول إبراهيم عليه السلام ” فبِمَ تبشرون ” يحتمل الاستفهام ، والتعجب معاً ، ولا
تعارض بينهما .
قال
الماوردي رحمه الله :
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك استفهاماً لهم ، هل بشروه بأمر الله ؟ ليكون أسكن لنفسه .
الثاني : أنه قال ذلك تعجباً من قولهم ، قاله مجاهد .
“تفسير الماوردى” (3/163 ، 164) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
وهذا استفهام تعجب كأنه عجب من الولد على كبره .
“زاد المسير” (4/406) .
فأكدوا بشارتهم بالولد ، وأنها من الله تعالى ، وهي حقٌّ لا ريب فيه .
قال
ابن كثير رحمه الله :
فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقاً ، وبشارة بعد بشارة ، (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ
بِالْحَقِّ) .
“تفسير ابن كثير” (4/541) .
وقولهم له بعدها (فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ) لا يقتضي أنه كان قانطاً ، بل هو
تلطف من الملائكة في التنبيه له أن لا يصل به الأمر أن يكون في زمرة القانطين ،
وهذا الأسلوب معروف في التنبيه ، ولا يلزم كون المخاطب به منهم ، كما قال تعالى
لنوح عليه السلام : (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود/46 .
قال
الطاهر بن عاشور رحمه الله :
فقالوا : (فَلاَ تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ) ذلك أنه لمَّا استبعد ذلك استبعاد
المتعجب من حصوله : كان ذلك أثَراً من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه ، بحيث لم
يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه ، فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك ،
فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله ، ولما كان إبراهيم عليه السلام
منزّهاً عن القنوط من رحمة الله : جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب ، فنهوه عن
أن يكون من زمرة القانطين ؛ تحذيراً له مما يدخله في تلك الزمرة ، ولم يفرضوا أن
يكون هو قانطاً ؛ لرفعة مقام نبوءته عن ذلك ، وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما
حكاه الله عنه من قوله : (أَرني كَيْفَ تُحْيي المَوْتَى قَالَ أَوْ لَمْ تُؤمن
قَالَ بَلَى وَلكنْ ليَطْمَئنَّ قَلْبي) البقرة/260 .
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام : (إنّي أَعظُكَ أَنْ تَكُونَ منَ
الجَاهلينَ) هود/46 .
“التحرير والتنوير” (14/60) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
ولا
ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله : قول الملائكة له فيما ذَكَرَ
الله عنهم : (قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القَانِطِينَ)
الحجر/55 ، بدليل قوله : (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ
الضآلون) الحجر/56 ؛ لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ، ولا قانط .
قوله تعالى : (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضّالُّونَ) .
بيَّن تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيَّه إبراهيم قال للملائكة : “إنه لا يقنط
من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق” .
“أضواء البيان” (2/283) .
فإبراهيم عليه السلام لم يقنط من رحمة الله ، ولا يجوز أن ينسب ذلك إلى الأنبياء ،
فهم أكمل البشر علماً وعملاً .
بل
لا يجوز لأحد من المؤمنين أن ييأس ويقنط من رحمة الله .
وقد
عَدَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه “القنوط من رحمة الله” من أكبر الكبائر ،
رواه عبد الرزاق .
فلا
يجوز لمؤمن أن يدعو الله تعالى وهو يائس من الإجابة ، بل عليه أن يحسن ظنه بالله ،
ويوقن أنه سيستجيب له ، ويعطيه ما سأل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(ادْعُوا
اللَّهَ
وَأَنْتُمْ
مُوقِنُونَ
بِالْإِجَابَة) رواه الترمذي (3479) وحسنه الألباني في صحيح “سنن الترمذي” .
وكذلك مهما تقدم العمر بالإنسان ، وعمل من المعاصي ما عمل ، فإن رحمة الله واسعة ،
يغفر لمن تاب إليه ، وندم على ما فعل ، ما لم يحضره الموت ، قال الله تعالى : (قُلْ
يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) الزمر/53 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ
اللَّهَ
يَقْبَلُ
تَوْبَةَ
الْعَبْدِ
مَا
لَمْ
يُغَرْغِرْ) رواه الترمذي (3537) وحسنه الألباني في صحيح “سنن الترمذي” .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟