قال تعالى : “وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ” (الزمر: 55)
أريد منكم أن تقوموا بتفسير هذه الآية تفسيرا موثقا ، وما هو معني “أحسن ما أنزل” في الآية ؟
وهل تكون السنة مساوية للقرآن الكريم بأي حال من الأحوال ؟
تفسير قول الله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
السؤال: 137235
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
يقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الزمر/55
قال ابن جرير الطبري رحمه الله :
” يقول تعالى ذكره : واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله ، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه ، وذلك هو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا .
فإن قال قائل : ومن القرآن شيء هو أحسن من شيء ؟ قيل له : القرآن كله حسن ، وليس معنى ذلك ما توهمت ، وإنما معناه : واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر ، والمثل ، والقصص ، والجدل ، والوعد والوعيد ؛ أحسنه أن تأتمروا لأمره ، وتنتهوا عما نهى عنه ؛ لأن النهي مما أنزل في الكتاب ، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه ، فذلك وجهه ” انتهى . “تفسير الطبري” (21/ 312)
وقال البغوي رحمه الله :
” ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) يعني : القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قاله الحسن : التزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن القرآن ذكر القبيح لتجتنبه ، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه ، وذكر الأحسن لتؤثره . قال السدي : ” الأحسن ” ما أمر الله به في الكتاب ” انتهى .
“تفسير البغوي” (7/ 128)
وقال السعدي رحمه الله :
( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) مما أمركم من الأعمال الباطنة ، كمحبة اللّه ، وخشيته ، وخوفه ، ورجائه ، والنصح لعباده ، ومحبة الخير لهم ، وترك ما يضاد ذلك .
ومن الأعمال الظاهرة ، كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والصدقة ، وأنواع الإحسان ، ونحو ذلك ، مما أمر اللّه به ، وهو أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، فالمتبع لأوامر ربه في هذه الأمور ونحوها هو المنيب المسلم ” انتهى .
“تفسير السعدي” ( ص 727-728) .
فالحاصل من ذلك : أن اتباع أحسن ما أنزل الله : هو الائتمار بأمره ، والانتهاء بنهيه .
قال الإمام الآجري رحمه الله :
” فكل كلام ربنا حسن لمن تلاه ولمن استمع إليه ، وإنما هذا – والله أعلم – صفة قوم إذا سمعوا القرآن تتبعوا من القرآن أحسن ما يتقربون به إلى الله تعالى ، مما دلهم عليه مولاهم الكريم ، يطلبون بذلك رضاه ، ويرجون رحمته ” . “أخلاق حملة القرآن” (8) .
ثانيا :
لا يتم هذا الاتباع المأمور به إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك مما أُنزِل إلينا من ربنا ، كما قال تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) آل عمران/32
وقال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) آل عمران/132
وقال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الأنفال/1
وقال سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65 .
فالسنة مبينة لمراد الله في كتابه ، قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل / 44.
ثالثا :
السنة وحي منزل من عند الله . قال الله تعالى :
( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) النساء/113 ، وقال تعالى لأمهات المؤمنين : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) الأحزاب/34 .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
” فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة ؛ فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله . وهذا يشبه ما قال والله أعلم ؛ لأن القرآن ذُكر ، وأتبعته الحكمة ، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ؛ فلم يجز الله ـ والله اعلم ـ أن يقال : الحكمة ـ ها هنا ـ إلا سنة رسول الله ؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ، وأن الله افترض طاعة رسوله ، وحتم على الناس اتباع أمره ، فلا يجوز أن يقال لقول : فرض ؛ إلا لكتاب الله ، ثم سنة رسوله ؛ لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به
” . انتهى . “الرسالة” (78) .
وروى أبو داود (4604) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) وصححه الألباني في “صحيح أبي داود” .
وروى أبو داود (4605) والترمذي (2663) وابن ماجة (13) عن أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ : لَا نَدْرِي ، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ، وإلا فَلاَ ) وصححه الألباني في “صحيح أبي داود” وغيره .
وروى الترمذي (2664) وابن ماجة (12) عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ الْكِنْدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ . أَلَّا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ) .
صححه الألباني في “صحيح ابن ماجة” .
وعن إسماعيل بن عبيد الله قال : ” ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله يقول : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فهو عندنا بمنزلة القرآن ” .
“السنة” لمحمد بن نصر المروزي (ص 88)
وعن حسان بن عطية قال : ” كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيعلمه السنة كما يعلمه القرآن ” .
“الزهد” لابن المبارك (ص 23)
وقال ابن القيم رحمه الله :
” قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله ، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه ، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ؛ إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة ” انتهى .
“إعلام الموقعين” (1 / 48)
وقال أيضا :
” أنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله وحيين وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما ، وهما الكتاب والحكمة ، وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) وقال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلهم الكتاب والحكمة ) وقال تعالى : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) .
والكتاب هو القرآن ، والحكمة هي السنة باتفاق السلف .
وما أخبر به الرسول عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله ، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام ، لا ينكره إلا من ليس منهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ” انتهى .
“الروح” (ص 75) .
فتبين بذلك أن السنة هي وحي من عند الله ، وأنها لازمة الطاعة والاتباع على كل من آمن بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان هذا مراد السائل ، فقد تبين كلام أهل العلم فيه ، وإلا فبينهما من الفروق الأخرى أشياء كثيرة :
فالقرآن هو كتاب الله تعالى ، الذي أنزله على رسوله وحيا باللفظ والمعنى ، وهو معجِز ومتعبَّد بتلاوته ، ولا تجوز روايته بالمعنى ، ولا يجوز مسه للمحدث حتى يتطهر .
بخلاف السنة فإن لفظها من عند الرسول ، وهو غير معجِز ، وتجوز روايتها بالمعنى لمن لا يُخِلُّ به ، ولا يَحْرُم مَسُّها على المُحدِث .
والقرآن يتعبد بتلاوته في الصلوات بخلاف السنة ، فإنه لا يجوز أن يقرأ بها في الصلوات .
ومن كذب بحرف واحد من كتاب الله كفر ، وليس كذلك الحال في السنة .
وهناك فروق أخرى ، يمكن مراجعتها في بابه من كتب علوم القرآن والسنة ، وكتب أصول الفقه .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب