لديه الرغبة في دراسة الشريعة ، ومتخوف من مستقبلها الوظيفي
السؤال: 138195
أنا الآن على مشارف اختبارات الثانوية العامة ، وحقيقة : أني محتار جدّاً في تخصص دراستي الجامعية ، أنا لديَّ الرغبة جدّاً في دراسة العلوم الشرعية ، وأحبها ، وأستمتع بها ، وأطمح أن أكون عالماً ، مفتياً ، خطيباً ، حصولي على شهادة الدكتوراة ، لكني أواجه ردود أفعال كثيرة ، منهم : من يقول إذا تخرجت أين تعمل ؟ مدرس مثلاً ؟ مرتبها قليل ، اذهب إلى كلية الإدارة ، أو الهندسة للحصول على مقعد ممتاز في العمل ، ومِن ثمَّ خذ شهادة الشريعة انتساباً ، مثل عدة مشايخ … وإلخ من هذا الكلام ، وبعضهم يقول : اذهب إلى الشريعة ، الأمة محتاجة إلى علماء ، ومفتين ، علماً أن أبي مهندس ، وأمي مدرِّسة رياضيات ، واثنين من إخواني مهندسين ، واثنين من أخواني – أيضاً – من كلية الإدارة الصناعية ، ووضعنا المادي ممتاز – ولله الحمد – ، لكن أخاف مستقبلاً إذا تخرجت من الشريعة أكون أقلَّ منهم ماديّاً ، فلذلك أود أن تنصحني ؛ لأنني بين أمرين مهمين في حياتي ، وشكراً .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نسأل الله تعالى أن يكتب لك النجاح والتوفيق في دراستك ، واختباراتك وأمورك كلها .
أولاً :
لاشك أن أعظم ما صرفت فيه الأوقات , وبذلت فيه الأموال : طلب العلم الشرعي ؛ فإن
الله تبارك وتعالى لم يثن في شيء من كتابه كما أثنى على العلم ، وأهله ، قال تعالى
:
(
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) الزمر/ 9 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فاطر/ 28 .
قال
ابن كثير رحمه الله :
أي
: إنما يخشاه حق خشيته : العلماء العارفون به ؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم ،
القدير ، العليم ، الموصوف بصفات الكمال ، المنعوت بالأسماء الحسنى , كلما كانت
المعرفة به أتمّ ، والعلم به أكمل : كانت الخشية له أعظم ، وأكثر .
”
تفسير ابن كثير ” ( 6 / 544 ) .
وعن
معاوية رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( مَنْ
يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ) رواه البخاري ( 71 ) ومسلم
( 1037 ) .
وعَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ أَتَيْتُكَ
مِنَ الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَدِيثٍ
بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُ بِهِ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَمَا
جَاءَ بِكَ تِجَارَةٌ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : وَلاَ جَاءَ بِكَ غَيْرُهُ ؟ قَالَ :
لاَ ، قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :
(مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا
إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ
الْعِلْمِ ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى
الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ
هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا
وَلاَ دِرْهَمًا ، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ
وَافِرٍ) رواه الترمذي (2682) وأبو داود (3641) وابن ماجه (223) ، وحسَّنه الألباني
في ” صحيح الترغيب ” (1/17) .
قال
ابن القيم رحمه الله في وصف العلم الشرعي – :
وهو
الحاكم ، المفرق بين الشك واليقين , والغي والرشاد , والهدى والضلال , وبه يُعرف
الله ، ويُعبد ، ويُذكر ، ويُوحد ، ويُحمد ، ويُمجد , وبه اهتدى إليه السالكون ,
ومن طريقه وصل إليه الواصلون , ومن بابه دخل عليه القاصدون ، به تُعرف الشرائع
والأحكام ، ويتميز الحلال من الحرام , وبه توصل الأرحام , وبه تعرف مراضي الحبيب ،
وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب , وهو إمام ، والعمل مأموم , وهو قائد ،
والعمل تابع , وهو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة ، والأنيس في الوحشة ,
والكاشف عن الشبهة , والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه , والكنف الذي لا ضيعة
على من آوى إلى حرزه ؛ مذاكرته تسبيح , والبحث عنه جهاد , وطلبه قُربة , وبذله صدقة
, ومدارسته تعدل بالصيام والقيام , والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام ،
قال الإمام أحمد رضي الله عنه : ” الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب ؛
لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين , وحاجته إلى العلم بعدد
أنفاسه ” , وروِّينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : ” طلب العلم أفضل من
صلاة النافلة ” .
”
مدارج السالكين ” ( 2 / 469 ، 470 ) .
فلا
ريب أن العلم الشرعي هو أفضل العلوم وأوْلاها , وبه يتحصل الإنسان خير الدنيا
والآخرة , وهو مقدَّم على سائر العلوم ، لا سيما إذا خلصت فيه نية الإنسان , وكان
له رغبة وهمَّة في تحصيله وطلبه .
وانظر جواب السؤال رقم : (
10471 ) .
ثانياً:
حثَّ الإسلام على طلب الكفاية في العلوم الدنيوية , وجعل طلبها واجباً كفائيّاً ,
وخصوصاً إذا احتاجت الأمة لتلك العلوم , كالعلوم العصرية المتقدمة .
فمَن
تعلم العلوم الدنيوية ونيته أن يُصلح للمسلمين أمورَهم في معاشهم , ورفع مكانتهم ،
والاكتفاء عن الأمم الكافرة : فلا شك أن أجره عظيم ، ويثاب على هذا العلم الذي
يتعلمه , مع بيان أن الجمع بين العلوم الدينية والدنيوية أمر مقدور عليه , ولا
يتنافيان , وقد كان كثير من العلماء السابقين يجمعون بين تخصصات مختلفة ، فابن قيم
الجوزية رحمه الله كان مبرزاً في العلوم الشرعية ، ولا تخفى مكانته فيه , وكذلك كان
مبرزاً في علوم الطب , ولا أدل على ذلك من كتابه ” الطب النبوي ” – وهو الجزء
الرابع من كتابه ” زاد المعاد ” – ، وهكذا الحال مع علماء آخرين .
وانظر جواب السؤال رقم : (
2999 ) .
ثالثاً:
يجب
أن يُعلم أنه لا بد للمسلم من أن يجرد نيته عن الحظوظ الدنيوية في طلبه للعلم
الشرعي , وأن يكون هدفه الأجر والثواب من الله , فهذا أدعى لبقاء العلم ، وانتفاع
صاحبه به , وقبول الناس له ، ولعلمه , فعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ
صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ
, وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ ،
فَهَانُوا عَلَيْهِمْ ، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (مَنْ
جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ
دُنْيَاهُ ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ
يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ) رواه ابن ماجه ( 257 ) ، وحسَّنه
الألباني في ” صحيح ابن ماجه ” .
وعن
أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :
( مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ
يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ
الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
رواه أبو داود ( 3664 ) وابن ماجه ( 252 ) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
عَرفها : يَعْنِي : رِيحَهَا .
وطلب العلم الشرعي لا يتوقف على الدراسة النظامية في الكليات الشرعية ، غير أن
الحصول على تلك الشهادة صار مهماً حتى يتمكن طالب العلم من التدريس والإمامة
والخطابة … ونفع الناس .
قال
الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في بيان آداب طلب العلم – :
“الأمر الأول : إخلاص النية لله عز وجل : بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله ،
والدار الآخرة …
وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة ، أو رتبة
: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله
عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) –
يعني : ريحها – ، وهذا وعيد شديد .
لكن
لو قال طالب العلم : أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا ، ولكن لأن
النظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته ، فنقول : إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة
من أجل نفع الخلق تعليماً ، أو إدارة ، أو نحوها : فهذه نية سليمة ، لا تضره شيئاً
؛ لأنها نية حق” انتهى باختصار .
”
مجموع فتاوى الشيخ العثيمين ” ( 26 / 65 ، 66 ) ، و ” كتاب العلم ” ( ص 21 ) .
رابعاً :
من
المقرر في كتاب الله تعالى , وفي سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم : أن من اتقى الله
تعالى : كفاه الله ما أهمه ، وأشغله , قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) الطلاق/ 2 ، 3
.
وقد
تكفل الله تعالى برزق البلاد التي يتقي أهلها ربهم تعالى ، فكيف بآحادهم ، قال
تعالى :
(
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) الأعراف/ 96 ، وقال تعالى : ( وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ
رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) المائدة/ 66 .
فالشاهد : أن أهل الخير والتقوى والصلاح : يكفيهم الله سبحانه وتعالى أمر دنياهم ،
فلا تخش – أخي السائل – من المستقبل , وتأكد أن الله سيكفيك أمر دنياك ، وآخرتك ،
إن كانت نيتك في طلب العلم لله .
ولو
ابتلي المؤمن بنقص في ماله ، أو دنياه : فهو يحتسب ذلك لجنَّة عرضها السموات والأرض
، أعدها الله للمتقين , ولتعلم أن المقياس في السعادة ، والطمأنينة ، والراحة ، ليس
في كثرة الأموال ، أو الجاه ، وإنما في طاعة الله تعالى , فخير الأعمال التي يندب
الاشتغال لها : تعليم الناس الخير , فمعلِّم الناس الخير يستغفر له مَن في السموات
، ومن في الأرض ، حتى الحيتان في الماء , وهم أهل الخشية والتقوى , ولهم المنزلة
والجاه العظيم في الدنيا والآخرة .
فالنصيحة لك ما دامت همتك ، ومحبتك ، ورغبتك أن تطلب العلم الشرعي : أن تسعى في
تحصيل ذلك , ولا بأس أن تطلب الشهادة مع ذلك , ولكن مع تجريد النية والإخلاص لله
تعالى في طلب العلم نفسه , وأن تكون هذه الشهادة عندك وسيلة لنيل العلم ، وتعليم
الناس ، والدعوة إلى الله تعالى , ووسيلة للعمل كما تفرضه كثير من القوانين لكثير
من الوظائف ، ولا تخف من المستقبل من قلة مال ، أو دنيا ، أو عدم إيجاد وظيفة ؛
فالله سبحانه سيكفيك هموم ذلك كله , فمن صدق الله صدق الله معه .
وبما أن أهلك من المثقفين ، والعقلاء : فيمكنك إقناعهم بدراسة الشريعة بسهولة ،
وذلك بإخبارهم
أن
هذه رغبتك ، وهم يعلمون أن دراسة ما لا رغبة فيه : فاشلة ، ولا تؤتي ثمارها ، وأن
دراسة ما فيه رغبة : فيها النجاح ، والإبداع ، والراحة .
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعطيك ما تتمنى ، وأن يجعلك من أهل العلم ، وطلبته .
وانظر – للأهمية – جواب السؤال رقم : (
110419
) .
والله أعلم
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
موضوعات ذات صلة