الحكمة في اختلاف اللفظ القرآني للحدث أو الموقف
السؤال: 140060
ما هو سبب اختلاف اللفظ القرآني لنفس الحدث أو الموقف على لسان قائليه ، مثال ذلك قصة إبليس عليه لعنة الله ، في سورة الأعراف يقول إبليس : (… قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) آية/2، بينما في سورة الحجر يقول : ( قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون ) آية/33. فلماذا اختلف النصان هنا مع العلم بأن الموقف واحد ؟
وأمثلة هذا كثيرة في القرآن الكريم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
لا
بد أن نعرف في بداية الجواب أن الكلام المحكي في القرآن الكريم على ألسنة المتكلمين
إنما هو بالمعنى وليس باللفظ ، وذلك لدليلين ظاهرين :
1-أن القرآن كلام الله ، وليس كلام أحد من المخلوقين ، ولما كان كذلك كانت الأقوال
المحكية على ألسنة المتكلمين بها من الناس والدواب ، هي من كلام الله ، يقص به
أخبار الأولين ، وينقل كلامهم . فهي تنسب إليهم باعتبار مضمون الكلام ومعناه .
2-أن لغات الأمم السابقة لم تكن هي العربية الواردة في القرآن الكريم ، وبذلك نجزم
أن الكلام المنقول على ألسنتهم إنما هو كلام الله عز وجل ، متضمنا معاني كلام
المذكورين من الأمم السابقة .
جاء
في ” فتاوى اللجنة الدائمة ” (4/6-7) :
”
الكلام يطلق على اللفظ والمعنى ، ويطلق على كل واحد منهما وحده بقرينة .
وناقله عمن تكلم به من غير تحريف لمعناه ولا تغيير لحروفه ونظمه : مُخبِرٌ
مُبَلِّغٌ فقط ، والكلام إنما هو لِمَن بدأه .
أمَّا إن غيَّر حروفه ونظمه مع المحافظة على معناه ، فينسب إليه اللفظ : حروفه
ومعناه ، وينسب من جهة معناه إلى من تكلم به ابتداءً .
ومن
ذلك ما أخبر الله به عن الأمم الماضية ، كقوله تعالى : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسَابِ ) غافر/27، وقوله : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ) غافر/36.
فهاتان تسميان قرآناً ، وتنسبان إلى الله كلاماً له باعتبار حروفهما ونظمهما ؛
لأنهما من الله لا من كلام موسى وفرعون ؛ لأن النظم والحروف ليس منهما .
وتنسبان إلى موسى وفرعون باعتبار المعنى ، فإنه كان واقعاً منهما .
وهذا وذاك قد علمهما الله في الأزل وأمر بكتابتهما في اللوح المحفوظ ، ثم وقع القول
من موسى وفرعون بلغتهما طبق ما كان في اللوح المحفوظ ، ثم تكلم الله بذلك بحروف
أخرى ونظم آخر في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فنسب إلى كلٍّ منهما باعتبار
.
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن قعود ”
انتهى.
ثانيا :
أسلوب تكرار العبارة والقصة في القرآن الكريم ، ولكن في سياقات مختلفة وألفاظ
مترادفة : هو من سمات القصص القرآني الظاهرة ، حيث يتكرر ذكر القصة الواحدة في كثير
من السور ، وفي كل مرة يتنوع السياق ، ويتعدد الأسلوب ، وترد القصة بعبارات جديدة ،
تفتح آفاقا للمعاني والفوائد ، وأنماطا متنوعة من أساليب البلاغة والبيان ، ولذلك
عد العلماء والمفسرون هذا التنوع في اللفظ والعبارة من مظاهر الفصاحة والبيان ،
ونصوا على أن من مقاصد القصص القرآني تفريق الحدث الواحد في سياقات مختلفة ، بل
وألفوا في هذا الفن مؤلفات خاصة ، منها كتاب ” المقتنص في فوائد تكرار القصص ” لبدر
الدين بن جماعة ، كما ذكر ذلك السيوطي في ” الإتقان ” (2/184)
يقول الزركشي رحمه الله :
”
إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة ”
انتهى.
”
البرهان في علوم القرآن ” (3/26)
وإذا رحنا نعدد الفوائد التي يضفيها هذا الأسلوب على مجمل ما في القرآن الكريم
لعددنا شيئا كثيرا ، ولكنا نذكر ههنا بعض هذه الفوائد :
1-زيادة بعض التفاصيل التي لم تذكرها الآيات من قبل ، والمثال الوارد في السؤال
واحد من صور هذه الفوائد ، فقد زادت الآيات في سورة الحجر قيدا في وصف الأصل الذي
خلق منه آدم عليه السلام ، وهو كونه من صلصال من حمإ مسنون ، في حين لم تذكر ذلك
آيات سورة الأعراف المتعلقة بالقصة .
2-تأكيد التحدي الذي جاء به القرآن لمشركي العرب أن يأتوا بشيء من مثله ، فقد كشف
هذا التنوع في العبارة عن عجزهم عن الإتيان بمثله بأي نظم جاء ، وبأي عبارة عبَّروا
.
3-إذهاب السآمة والملل عن القصة ، وذلك أن العرض الجديد يشد الأسماع ، ويلفت
الأنظار ، ويبقي صلة المتعة والفائدة بين القارئ والنص المقدس ، وهذا من المقاصد
العظيمة أيضا ، ” فيجد البليغ ميلا إلى سماعها ، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل
في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ “
4-”
ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد ، وقد كان المشركون في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء
مع تغاير النظم ، وبيان وجوه التأليف ، فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون
منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ، ولا يقع على كلامه عدد”
5-التناسق مع الموضوع والمناسبة التي وردت القصة لأجلها ، فأحيانا تقتضي هذه
المناسبة إبراز معنى في الحوار الدائر لم يكن من الضروري إبرازه في مناسبة أخرى
وردت فيها القصة ، وهذه الفائدة باب واسع من أبواب اكتشاف بحور بلاغة القرآن
وإعجازه ، وأمثلتها التفصيلية موجودة في بطون كتب التفسير .
يمكن الاطلاع على هذه الفوائد وغيرها في كتاب ” البرهان في علوم القرآن ” (3/26-29)
يقول الدكتور فضل حسن عباس حفظه الله:
”
المنهج القصصي في القرآن الكريم هو المنهج البديع المعجز ، حيث ذكرت القصة في سور
كثيرة ، وإن خصت بعض السور بذكر حدث واحد ، ثم توزعت هذه المشاهد والأحداث على
السور التي ذكرت فيها القصة ، قلت أم كثرت ، بحيث تجد في كل سورة ما لا تجده في
غيرها ، وبحيث يذكر في كل سورة ما يتلاءم مع موضوعها وسياقها ، وبحيث تذكر القصة في
السورة في الموضع الذي اختيرت له والذي اختير لها ” انتهى.
”
القصص القرآني ” (ص/81)
والله أعلم .
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
هل انتفعتم بهذه الإجابة؟