0 / 0

منزلة محمد بن إسحاق راوي المغازي عند علماء الحديث

السؤال: 148009

ما رأيكم في ابن إسحاق ، فقد سمعت أنه ليّن وغير دقيق في روايته للحديث ، مما جعل العلماء لا يقبلون أي رواية مِن قِبَله ، فهل هذا صحيح ؟.

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

الكلام في ترجمة العلامة محمد بن إسحاق يندرج في المطالب الآتية :
المطلب الأول : اسمه ونسبه ومولده
هو محمد بن إسحاق بن يسار ، كان جده يسار من موالي قيس بن مخرمة بن المطلب ، فهو القرشي المطلبي مولاهم ، كنيته : أبو بكر ، وقيل : أبو عبد الله ، ولد سنة ثمانين للهجرة في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، ثم ما لبث أن سافر منها لطلب العلم وسماع الحديث ، حتى استقر به المقام في بغداد ، حيث بقي هناك حتى توفي رحمه الله .
المطلب الثاني : طلبه للعلم على المشايخ .
نشأته العلمية المبكرة كانت في أعظم حواضر العلم والمعرفة ، وهي المدينة النبوية الشريفة ، فتعلَّم على عُلمائها ، وأخذ عن فقهائها ، وسمع من محدثيها ، فنال بذلك أسمى مراتب التعليم ، حتى قيل : إنه رأى الصحابي الجليل أنس بن مالك ، ورأى سيد التابعين سعيد بن المسيب .
وكان من أشهر شيوخه : سعيد المقبري ، وعبد الرحمن بن هرمز ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إبراهيم التيمي ، وأبو جعفر الباقر ، والزهري ، وعبد الله بن أبي بكر بن حزم ، ومحمد بن المنكدر ، وغيرهم كثير .
ورحل في طلب العلم في مقتبل عمره إلى الجزيرة ، والكوفة ، والريّ ، وبغداد ، بل وصل الإسكندرية في رحلاته سنة خمس عشرة ومائة ، وروى عن جماعة من أهل مصر ، وقد قال ابن سعد رحمه الله : خرج من المدينة قديما ، فلم يرو عنه أحد منهم غير إبراهيم بن سعد ، وكان مع العباس بن محمد بالجزيرة ، وأتى أبا جعفر بالحيرة ، فكتب له المغازي ، فسمع منه أهل الكوفة بذلك السبب ، وسمع منه أهل الريّ ، فرواته من هؤلاء البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة .

المطلب الثالث : منزلته العلمية
حظي ابن إسحاق بمنزلة رفيعة بين علماء عصره ، وذلك لسعة معارفه ، وكثير اطلاعه ، حتى قال عنه الإمام الذهبي : أول من دون العلم بالمدينة ، وذلك قبل مالك وذويه ، وكان في العلم بحرا عجاجا ، ولكنه ليس بالمجود كما ينبغي .
ولذلك ما زال ثناء العلماء عليه عاطرا من قديم الزمان :
قال علي بن المديني رحمه الله : مدار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة : – فذكرهم – ثم قال : فصار علم الستة عند اثني عشر : أحدهم محمد بن إسحاق .
وقال الإمام الزهري : لا يزال بالمدينة علم جم ما دام فيهم ابن إسحاق .

المطلب الرابع : تبحُّره في علم المغازي والسير
اشتهر محمد بن إسحاق باهتمامه البالغ في علم المغازي ، حتى كان أول من جمع المغازي في مصنف كامل ، وقال فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه : من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق . وقال ابن عدي : لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شيء ، إلى الاشتغال بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ، ومبتدأ الخلق ، لكانت هذه فضيلة سبق بها . وقال الإمام الذهبي: قد كان في المغازي علامة .

المطلب الخامس : مؤلفاته
مؤلفه الذي اشتهر به – ولم نقف له على غيره – هو كتابه المشهور بـ ” المغازي “، ولم يظهر حتى الآن كاملا ، وإنما طبع قسم منه بتحقيق الدكتور محمد حميد الله ، وطبع أيضا القسم نفسه بتحقيق الدكتور سهيل زكار ، ونرجو أن يظهر قريبا كاملا بإذن الله ، غير أن الكتاب حفظ لنا من خلال اختصار ابن هشام له ، فيما يعرف بـ ” السيرة النبوية ” لابن هشام الذي روى مغازي ابن إسحاق عن تلميذ ابن إسحاق زياد البكائي المتوفى سنة (183هـ).

المطلب السادس : ثناء أهل العلم على حديثه
قال عنه شعبة بن الحجاج : أمير المؤمنين في الحديث .
وقال فيه أبو معاوية الضرير : كان ابن إسحاق من أحفظ الناس ، فكان إذا كان عند الرجل خمسة أحاديث أو أكثر ، فاستودعها عند ابن إسحاق ، قال : احفظها علي ، فإن نسيتها ، كنت قد حفظتها علي .
وقال سفيان الثوري : جالست ابن إسحاق منذ بضع وسبعين سنة ، وما يتهمه أحد من أهل المدينة ، ولا يقول فيه شيئا .
وقال علي بن عبد الله : نظرت في كتب ابن إسحاق ، فما وجدت عليه إلا في حديثين ، ويمكن أن يكونا صحيحين .

المطلب السابع : الجواب عن كلام مَن قدح فيه
القدح في ابن إسحاق يتلخص في ثمان قضايا :
    القدح الأول : اتهامه بالقدرية حتى ذُكر أنه جلد بسببه .
    القدح الثاني : اتهامه بالتشيع .
وهذان الأمران – إن ثبتا عنه – فلا يؤثران في حديثه ، إذ ما زال العلماء يأخذون عن القدرية والشيعة إذا ثبت صدقهم وحفظهم .
    القدح الثالث : اتهامه بالتدليس .
ذكره ابن حجر في المرتبة الرابعة من مراتب المدلسين (ص/51) وقال : مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم ، وَصَفَه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما .
وهذا لا يعتبر قدحا مطلقا في حديثه أيضا ، فالمدلس المكثر من التدليس يُقبَل حديثه إذا صرح بالسماع ، وإنما يُرَدُّ ما رواه بالعنعنة .
    القدح الرابع : اتهامه بالكذب .
وهي تهمة باطلة لا تثبت عليه ، وإن اتهمه بها هشام بن عروة (ت146هـ)، ومالك بن أنس (ت179هـ)، ويحيى القطان (ت198هـ)
أما اتهام هشام بن عروة له بالكذب – وأخذها عنه يحيى القطان – فسببه أنه قال : يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ، والله إن رآها قط .
وهذا السبب لا يكفي لاتهام علامة كابن إسحاق بالكذب ، إذ يحتمل أن يكون سمع منها من وراء حجاب ولم يرها ، ويحتمل أن يكون سمع منها قبل زواجها بهشام بن عروة ، بل قال الذهبي : يحتمل أن تكون إحدى خالات ابن إسحاق من الرضاعة ، فدخل عليها ، وما علم هشام بأنها خالة له أو عمة .
قال سفيان الثوري : أخبرني – يعني ابن إسحاق – أنها حدثته ، وأنه دخل عليها .
قال الذهبي : هو صادق في ذلك بلا ريب…وهشام صادق في يمينه ، فما رآها ، ولا زعم الرجل أنه رآها ، بل ذكر أنها حدثته ، وقد سمعنا من عدة نسوة ، وما رأيتهن ، وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة ، وما رأوا لها صورة أبدا .
قال عبد الله بن أحمد : فحدثت أبي بحديث ابن إسحاق ، فقال : ولِمَ يُنكِرُ هشام ؟ لعله جاء فاستأذن عليها فأذنت له – يعني : ولم يعلم -.
وأما تكذيب الإمام مالك له ، وقوله عنه : دجَّال من الدجاجلة : فلم يقبله العلماء منه ؛ إذ لم يذكر دليلا على تكذيبه ، وقد كان بين مجموعة من العلماء : كابن إسحاق ، وابن أبي ذئب ، وابن الماجشون شقاق ونفرة مع الإمام مالك ، فلم يقبل العلماء المتأخرون كلام بعضهم في بعض لما عرف من عداوتهم ، كما لم يقبلوا قول ابن إسحاق في الإمام مالك : ائتوني ببعض كتبه حتى أبين عيوبه ، أنا بيطار كتبه .
وقال يعقوب بن شيبة : سألت عليا – يعني المديني – : كيف حديث ابن إسحاق عندك ، صحيح ؟
فقال : نعم ، حديثه عندي صحيح .
قلت : فكلام مالك فيه ؟
قال : مالك لم يجالسه ، ولم يعرفه ، وأي شيء حدث به ابن إسحاق بالمدينة ؟!
قلت : فهشام بن عروة ، قد تكلم فيه ؟
فقال علي : الذي قال هشام ليس بحجة ، لعله دخل على امرأته وهو غلام فسمع منها ، إن حديثه ليتبين فيه الصدق ، يروي مرة : حدثني أبو الزناد ، ومرة : ذكر أبو الزناد ، ويروي عن رجل ، عمن سمع منه يقول: حدثني سفيان بن سعيد ، عن سالم أبي النضر ، عن عمير : ( صوم يوم عرفة ) ، وهو من أروى الناس عن أبي النضر، ويقول: حدثني الحسن بن دينار ، عن أيوب ، عن عمرو بن شعيب : ( في سلف وبيع )، وهو من أروى الناس عن عمرو .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله : لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر ، ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة ، وقد علم أن كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر ، لا عبرة به ، ولا سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف ، وهذان الرجلان – يعني مالكا وابن إسحاق – كل منهما قد نال من صاحبه ، لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين ، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة ، وارتفع مالك ، وصار كالنجم ، والآخر – يعني ابن إسحاق – فله ارتفاع بحسبه ، ولا سيما في السير .
    القدح الخامس : اتهامه بمخالفة الثقات .
    القدح السادس : اتهامه بالانفراد ببعض المناكير .
قال الذهبي رحمه الله : صدق القاضي أبو يوسف إذ يقول : من تتبع غريب الحديث كُذِّبَ . وهذا من أكبر ذنوب ابن إسحاق ، فإنه يكتب عن كل أحد ولا يتورع سامحه الله .
ولذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لا يرتضي أحاديث ابن إسحاق .
قال يعقوب بن شيبة : سمعت ابن نمير – وذكر ابن إسحاق – فقال :
إذا حدث عمن سمع منه من المعروفين فهو حسن الحديث صدوق ، وإنما أتي من أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة .
قال إسحاق بن أحمد بن خلف البخاري الحافظ : سمعت محمد بن إسماعيل يقول :
محمد بن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها ، لا يشاركه فيها أحد .
وقال أحمد : قدم ابن إسحاق بغداد ، فكان لا يبالي عمن يحكي ، عن الكلبي ، وعن غيره ، وقال : ليس هو بحجة. قال أبو العباس بن عقدة : سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل : كان أبي يتبع حديث ابن إسحاق ، فيكتبه كثيرا بالعلو والنزول ، ويخرجه في (المسند) ، وما رأيته أبقى حديثه قط . قيل له : يحتج به ؟ قال : لم يكن يحتج به في السنن .
وقال العقيلي : حدثني الخضر بن داود ، حدثنا أحمد بن محمد : قلت لأبي عبد الله : ما تقول في ابن إسحاق ؟ قال : هو كثير التدليس جدا . قلت : فإذا قال : أخبرني ، وحدثني ، فهو ثقة ؟ قال : هو يقول أخبرني ، فيخالف .
واختلف الروايات عن ابن معين في حكمه على حديث ابن إسحاق ، وقال النسائي : ليس بالقوي . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه . وقال الدراقطني : لا يحتج به .
على أن كلام من جرحه لا يسقط حديثه ، وإنما ينزل به حديثه إلى درجة الحسن ، وإلى الحكم على حديثه بالضعف في حال المخالفة أو التفرد بالغريب فقط ، وليس في كل حال .
قال ابن عدي : وقد فتشت أحاديثه كثيرا ، فلم أجد من أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف ، وربما أخطأ ، أو يهم في الشيء بعد الشيء ، كما يخطئ غيره ، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة ، وهو لا بأس به .
    القدح السابع : روايته الإسرائيليات .
أجاب عن ذلك الإمام الذهبي رحمه الله بقوله :
” ما المانع من رواية الإسرائيليات عن أهل الكتاب مع قوله صلى الله عليه وسلم : ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، وقال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) فهذا إذن نبوي في جواز سماع ما يأثرونه في الجملة ، كما سمع منهم ما ينقلونه من الطب ، ولا حجة في شيء من ذلك ، إنما الحجة في الكتاب والسنة ” انتهى.
” ميزان الاعتدال ” (6/58)
    القدح الثامن : جمعه بين ألفاظ الشيوخ
قال أيوب بن إسحاق بن سافري : سألت أحمد بن حنبل ، فقلت : إذا انفرد ابن إسحاق بحديث ، تقبله ؟ قال : لا والله ، إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا .
وهذا القادح أيضا لا يضعف حديثه كله ، وإنما يدعو إلى التوقف فيما يشك فيه أنه جمع فيه بين ألفاظ الشيوخ وخلط بعضها ببعض ، وذلك لتمييز ألفاظ الثقات من غيرهم .

المطلب الثامن : وفاته
توفي رحمه الله في مدينة بغداد سنة واحد وخمسين ومائة على القول الأرجح الذي اختاره الذهبي .

والحاصل في حكم حديث ابن إسحاق ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله :
أما في أحاديث الأحكام ، فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن ، إلا فيما شذ فيه ، فإنه يعد منكرا ، هذا الذي عندي في حاله والله أعلم .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” ما ينفرد به وإن لم يبلغ الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث ” انتهى.
” فتح الباري ” (11/163)
ملاحظة: جميع النقول التي لم نذكر مصدرها في هذا البحث مأخوذة من كتاب “سير أعلام النبلاء” للذهبي (7/33-55)
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android