لدي بعض الشبهات في مسألة الحجاب وأريد إجابات عنها :
1-هل يصح أن علة نزول الحجاب وفرضه هو حتى يتم التفريق ومعرفة الحرة من الأمة ؟ ويستدل لهذا بقصة صفية رضي الله عنها ان الصحابة رضي الله عنهم قالوا : ( ان تحتجب فهي زوجة وان لم تحتجب فأمة ).
2-لماذا يتم التفريق بين الأمة والحرة في الحجاب من الأساس ؟ قرأت من الأجوبة أن هذا وجد حتى يفرق الناس بين الأمة والحرة فلا يؤذون الحرة لأن كفار قريش كانوا لا يتعرضون للحرائر ولا يزنون بهن وأنهم إنما يقعون على الإماء فنزل الحجاب حتى يمكن التفريق بين الحرة والأمة فلا يتم إيذاء الحرة.أليست الأمة امرأة لا يجوز ايذاؤها كما هو الحال في الحرة ؟! فإن قيل إنه خفف على الإماء ؛ لأنهن يعملن فيكون في الحجاب مشقة عليهن ، وأنه لو وجدت الفتنة بهن لوجب عليهن الحجاب ، هنا قد يقول قائل : إذا لماذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الإماء اذا تحجبن ؟ ولماذا هذا التفريق ؟
3-إذا كان نزول الحجاب لمنع الفتنة ولستر النساء وكان هذا السبب معتبرا ومقصودا في الشرع ، فكيف يقول الفقهاء : إن عورة الأمة كالرجل ( من السرة الى الركبة ) حتى في خارج الصلاة ؟ وإذا كان منع الفتنة هو المقصود الأعلى من وجود الحجاب ، فلماذا كان عمر رضي الله عنه يضرب بعض الإماء لأنهن كن يضعن الحجاب كما تفعل الحرة ؟ أليست الأمة امرأة يمكن أن تحصل الفتنة بالنظر لوجهها ؟ ثم إنه في أثر آخر ورد ( كنَّ إماءُ عمرَ رضيَ اللهُ عنه يخدُمْنَنا كاشفاتٍ عن شعورهنَّ تضطربُ ثُدِيُّهُنَّ ) كيف تظهرن أثداؤهن في حضرة الرجال ؟ أليسوا موضع فتنة هنا ؟ ولا يمكن أن يقال إنهن هنا لم يكنّ موضع فتنة ؛ لأن النساء سواء في حصول الفتنة بهن ، خاصة إذا أظهروا مواضع الفتنة كالصدر مثلا ، فحتى لو كانت المرأة قبيحة وأظهرت شيئا من هذا ، لحصلت الفتنة بها ؟
شبهات حول مسائل في الحجاب ، والإجابة عنها .
السؤال: 210408
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الحجاب فريضة شرعية ، دلت عليها الدلائل النقلية والعقلية ، وقد فرض الله تعالى الحجاب لحكم بالغة ومصالح كاملة ، منها : تحصيل العفة وطهارة النفوس من أدران الخبائث والفواحش : ومنها : تطهير المجتمع من أسباب الفحش والرذيلة ، ومنها : تحصيل تقوى القلوب ، إلى غير ذلك من المصالح والحكم .
أما التفريق بين الحرة والأمة ، عند من سَلَّم بوجود ذلك الفرق من العلماء ، فحكمة من الحكم ، وليس هو علة التشريع ، وليس هو الحكمة منه فقط .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ ، كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ : أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ ” انتهى من “مجموع الفتاوى” (15/ 372).
ولكن إذا أدى كشفهن إلى حصول الفتنة ، فإنه يجب حجبهن ، وغض البصر عنهن .
قال ابن قدامة رحمه الله :
” …. لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْأَمَةُ جَمِيلَةً يُخَافُ الْفِتْنَةُ بِهَا ، حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا ، كَمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى الْغُلَامِ الَّذِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَمَةِ إذَا كَانَتْ جَمِيلَة ً: تَنْتَقِبُ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْمَمْلُوكَةِ، كَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ ” انتهى من “المغني” (7/ 103).
راجع للاستزادة إجابة السؤال رقم : (8489) ، والسؤال رقم : (198645).
فالتفريق بين الحرة والأمة في ذلك للمصلحة ؛ فإنه لكثرة الحاجة في استخدام الإماء ، ولأن فرض الحجاب عليهن مما يشق مشقة بالغة ، مع عدم تشوف النفوس إليهن : لم يلزمن بالحجاب .
فإن عارضت هذه المصلحة مفسدة أكبر ، قدمنا درء المفسدة على جلب المصلحة ، فإذا كان تكشف الأمة يؤدي إلى الفتنة : وجب عليها أن تحتجب .
وقد جاءت الشريعة بسد أبواب الفتنة بكل طريق ، ولا يوجد في العالم تشريع يحفظ للمرأة عفتها ويصون عرضها مثل ما في شريعة المسلمين .
أما حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : ” كُنَّ إِمَاءُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْدِمْنَنَا كَاشِفَاتٍ عَنْ شُعُورِهِنَّ تَضْرِبُ ثُدِيّهُنَّ ” ، فقد قدمنا في إجابة السؤال رقم : (198645) أن معناه : أن شعورهن كانت تضرب صدورهن من سرعة الحركة والدأب في الخدمة .
أما لفظ : ( تَضْطَرِبُ ثُدِيُّهُنَّ ) فغير صحيح ، وعلى فرض صحته فمردّ معناه إلى الأول ، وهو أنهن كن كبيرات في السن ، لسن شابات كواعب ، ومن كثرة العمل في الخدمة يحصل لهن ذلك ، وهذا يكون من وراء ثيابهن ، لا كما توهم السائل أنهن كن يكشفن عن أثدائهن ، فيظهرن للرجال وهن عاريات الصدور ، هذا محال .
ثانيا :
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/ 59 .
قال السعدي رحمه الله :
” ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) دل على وجود أذية، إن لم يحتجبن ، وذلك ؛ لأنهن إذا لم يحتجبن ، ربما ظن أنهن غير عفيفات ، فيتعرض لهن من في قلبه مرض ، فيؤذيهن ، وربما استهين بهن ، وظن أنهن إماء ، فتهاون بهن من يريد الشر . فالاحتجاب حاسم لمطامع الطامعين فيهن ” انتهى من “تفسير السعدي” (ص 672).
وهذا لا يعني أن التعرض للإماء جائز ومرخص فيه ، قال الشنقيطي رحمه الله :
” وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَعَرُّضَ الْفُسَّاقِ لِلْإِمَاءِ جَائِزٌ ، بل هُوَ حَرَامٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَعَرِّضِينَ لَهُنَّ مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ” إلى أن قال :
” وَفِي الْجُمْلَةِ : فَلَا إِشْكَالَ فِي أَمْرِ الْحَرَائِرِ بِمُخَالَفَةِ زِيِّ الْإِمَاءِ لِيَهَابَهُنَّ الْفُسَّاقُ ، وَدَفْعُ ضَرَرِ الْفُسَّاقِ عَنِ الْإِمَاءِ لَازِمٌ ، وَلَهُ أَسْبَابٌ أُخَرَ لَيْسَ مِنْهَا إِدْنَاءُ الْجَلَابِيبِ ” انتهى من “أضواء البيان” (6/ 245).
ثالثا :
سبقت الإشارة إلى أن هذا التفريق بين الحرة والأمة في أمر الحجاب : ليس أمرا مجمعا عليه بين أهل العلم ، بل فيه خلاف ثابت ؛ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنه لا فرق بين الحرة والأمة في شأن الحجاب ؛ بل هن سواء فيه ، ولم يثبت في التفريق بينهما دليل صحيح صريح .
” قال أشهب : وكره مالك خروج الأمة متجردة ، قال : وتُضْرب على ذلك ” !! انتهى من “النوادر والزيادات” ، لابن أبي زيد (4/624) . وينظر: “النظر في أحكام النظر” لابن القطان (185-186) .
وقال الإمام الحافظ ابن القطان الفاسي ، رحمه الله :
” قوله تعالى : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) : نهي مطلق ، للنساء كلهن ، حرة كانت أو أمة ، عن إبداء كل زينة ، لكل أحد ، رجل أو امرأة ، أجنبي ، أو قريب ، أو صهر ؛ هي مطلقة بالنسبة إلى كل زينة ، ومطلقة بالنسبة إلى كل مُبْدِيَة ، ومطلقة بالنسبة إلى كل ناظر .
ورد على إطلاقين منها : استثناءان : أحدهما على مطلق الزينة ؛ ومخصص به منها : ما ظهر منها ، فيجوز إبداؤه لكل واحد . والآخر على مطلق الناظرين الذين يبدى لهم شيء من ذلك ؛ فخصص منهم : البعولة ومن بعدهم …” انتهى من “النظر في أحكام النظر” (135-136) .
ولعله لأجل ذلك قال من قال من أهل العلم : إن الأمة كالحرة في النظر إليها .
قال النووي رحمه الله :
” إِذَا كَانَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهَا أَمَةً ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَصَحُّهَا فِيمَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، وَلَا يَحْرُمُ مَا سِوَاهُ ، لَكِنْ يُكْرَهُ . وَالثَّانِي : يَحْرُمُ مَا لَا يَبْدُو حَالَ الْمِهْنَةِ دُونَ غَيْرِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا كَالْحُرَّةِ ، وَهَذَا غَرِيبٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْغَزَالِيِّ .
قُلْتُ – أي النووي – : قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ ( الْبَيَانِ ) وَغَيْرُهُ، بِأَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ كَثِيرِينَ ، وَهُوَ أَرْجَحُ دَلِيلًا . – وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.” انتهى من “روضة الطالبين” (7/23) .
وقال أيضا في “منهاج الطالبين” (204) :
” وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ : أَنَّ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ “.
قال شارحه :
” لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْأُنُوثَةِ ، وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْإِمَاءِ يَفُوقُ أَكْثَرَ الْحَرَائِرِ جَمَالًا ؛ فَخَوْفُهَا فِيهِنَّ أَعْظَمُ “. انتهى من “تحفة المحتاج” للهيتمي (7/199) ، وبلفظه في “نهاية المحتاج” للرملي (6/193) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
” وقد أبان الله تعالى عن حكمة الأمر بإدناء الجلباب بقوله: ( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) [الأحزاب: 59] ؛ يعني : أن المرأة إذا التحفت بالجلباب ، عرفت بأنها من العفائف المحصنات الطيبات ، فلا يؤذيهن الفساق بما لا يليق من الكلام ، بخلاف ما لو خرجت متبذلة غير مستترة ؛ فإن هذا مما يُطمع الفساق فيها والتحرش بها ، كما هو مشاهد في كل عصر ومصر ؛ فأمر الله تعالى نساء المؤمنين جميعًا بالحجاب سدًّا للذريعة .
وأما ما أخرجه ابن سعد “8/ 176″: أخبرنا محمد بن عمر عن ابن أبي سبرة عن أبي صخر عن ابن كعب القرظي قال: ” كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن فإذا قيل له ؟ قال : كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن “.
فلا يصح بل هو ضعيف جدًّا لأمور:
الأول: أن ابن كعب القرظي – واسمه محمد – تابعي لم يدرك عصر النبوة ، فهو مرسل .
الثاني: أن ابن أبي سبرة وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة ضعيف جدًّا قال الحافظ في “التقريب”: ” رموه بالوضع “.
والثالث: ضعف محمد بن عمر وهو الواقدي ، وهو مشهور بذلك عند المحدثين ، بل هو متهم.
وفي معنى هذه الرواية روايات أخرى أوردها السيوطي في “الدر المنثور” وبعضها عند ابن جرير وغيره وكلها مرسلة لا تصح ؛ لأن منتهاها إلى أبي مالك وأبي صالح والكلبي ومعاوية بن قرة والحسن البصري ، ولم يأت شيء منها مسندًا ، فلا يحتج بها ، ولا سيما أن ظاهرها مما لا تقبله الشريعة المطهرة ولا العقول النيرة ؛ لأنها توهم أن الله تعالى أقر إماء المسلمين – وفيهن مسلمات قطعًا- على حالهن من ترك التستر ، ولم يأمرهن بالجلباب ليدفعن به إيذاء المنافقين لهن.
ومن العجائب أن يغتر بعض المفسرين بهذه الروايات الضعيفة فيذهبوا بسببها إلى تقييد قوله تعالى: ( وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأحزاب: 59] بالحرائر دون الإماء ، وبنوا على ذلك أنه لا يجب على الأمة ما يجب على الحرة ، من ستر الرأس والشعر ، بل بالغ بعض المذاهب فذكر أن عورتها مثل عورة الرجل: من السرة إلى الركبة ، وقالوا:
“فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها”.
وهذا -مع أنه لا دليل عليه من كتاب أو سنة- : مخالف لعموم قوله تعالى: ( وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِين ) [الأحزاب: 59] ؛ فإنه من حيث العموم كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) الآية [النساء: 43] ولهذا قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره : “البحر المحيط” “7/ 250”:
“والظاهر أن قوله : وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ : يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ؛ لكثرة تصرفهن ، بخلاف الحرائر؛ فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح”.
وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن القطان في “أحكام النظر” “ق 24/ 2” وغيره.
وما أحسن ما قال ابن حزم في “المحلى” “3/ 218 – 219”:
“وأما الفرق بين الحرة والأمة : فدين الله واحد ، والخلقة والطبيعة واحدة ؛ كل ذلك في الحرائر والإماء سواء ، حتى يأتي نص في الفرق بينهم في شيء ، فيوقف عنده”.
قال:
“وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى: ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) ؛ إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك ؛ لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق، فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يتعرضوهن ” .
ونحن نبرأ من هذا التفسير الفاسد ، الذي هو إما زلة عالم ، أو وهلة فاضل عاقل ، أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين ، وهذه مصيبة الأبد، وما اختلف اثنان من أهل الإسلام في أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة ، وأن الحد على الزاني بالحرة ، كالحد على الزاني بالأمة ، ولا فرق . وأن تعرض الحرة في التحريم ، كتعرض الأمة ولا فرق ، ولهذا وشبهه : وجب أن لا يقبل قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأن يسنده إليه عليه السلام ..” انتهى من “كتاب المرأة المسلمة” (90-94) .
رابعا :
روى البخاري (4213) ، ومسلم (1365) عن أَنَس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قال : ( أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ ، وَالمَدِينَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ ، فَدَعَوْتُ المُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلاَ لَحْمٍ ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِلاَلًا بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ : إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ ؟ قَالُوا : إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الحِجَابَ ) .
فلما أركبها على الْبَعِير ، وحجبها : علم النَّاس أَنَّهَا زَوجته ، وَكَانُوا قبل ذَلِك لَا يَدْرُونَ أَنه تزَوجهَا أم اتخذها أم ولد .
وهذا الحديث لا يعارض ما سبق من تقرير استواء الأمة مع الحرة في أصل التستر ، وتحريم النظر إليها ؛ فإن الحجاب الخاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي كان يفرقهن عن غيرهن : كان قدرا زائد من الحجاب ، فوق ما تعتاد نساء المسلمات لبسه والتستر به .
وهذا الحجاب الذي شدد أمره على نساء النبي صلى الله عليه وسلم : هو الحجاب الذي يستر شخصها عن الناس ، وإن كانت مستترة ، لا يظهر من عورتها ولا من بدنها شيء ؛ ولهذا ثبت في رواية لحديث صفية هذا : ( وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ ) رواه البخاري (4797) .
والحجاب الذي يلبس ويستر العورة : لا يقال فيه : مد ..
قال القاضي عياض رحمه الله :
” فَرْضُ الْحِجَابِ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ بلا خلاف فى الوجه والكفين ، فلا يجوز لَهُنَّ كَشْفُ ذَلِكَ لِشَهَادَةٍ وَلَا غَيْرِهَا .
وَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ إِظْهَارُ شُخُوصِهِنَّ ، وَإِنْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ ، إلا ما دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ ، مِنَ الْخُرُوجِ لِلْبَرَازِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وراء حجاب ) .
وَقَدْ كُنَّ إِذَا قَعَدْنَ لِلنَّاسِ : جَلَسْنَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ ، وَإِذَا خَرَجْنَ حُجِبْنَ وَسَتَرْنَ أَشْخَاصَهُنَّ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ يَوْمَ وَفَاةِ عُمَرَ ، وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا جَعَلُوا لَهَا قُبَّةً فَوْقَ نَعْشِهَا تَسْتُرُ شَخْصَهَا ” انتهى ، نقله النووي في “شرح مسلم” (14/151) ، وينظر : “فتح الباري” (8/531) .
وفي صحيح البخاري (146) : ( فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” أَيْ امْنَعْهُنَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ قَالَ لِسَوْدَةَ مَا قَالَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَوَّلًا الْأَمْرَ بِسَتْرِ وُجُوهِهِنَّ ، فَلَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ بِوَفْقِ مَا أَرَادَ أَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يَحْجُبَ أَشْخَاصَهُنَّ مُبَالَغَةً فِي التَّسَتُّرِ فَلَمْ يُجَبْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَعُدُّ نُزُولَ آيَةِ الْحِجَابِ مِنْ مُوَافَقَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ كَانَ لَهُنَّ فِي التَّسَتُّرِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ حَالَاتٌ : أَوَّلُهَا بِالظُّلْمَةِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ” كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ ” وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ ” فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا ، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ ” ، انْتَهَى . ثُمَّ نَزَلَ الْحِجَابُ فَتَسَتَّرْنَ بِالثِّيَابِ ، لَكِنْ كَانَتْ أَشْخَاصُهُنَّ رُبَّمَا تَتَمَيَّزُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لِسَوْدَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ نُزُولِ الْحِجَابِ : أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا ، ثُمَّ اتُّخِذَتِ الْكُنُفُ فِي الْبُيُوتِ فَتَسَتَّرْنَ بِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَيْضًا فَإِنَّ فِيهَا ” وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ ” انتهى من “فتح الباري” (1/249) .
وقال أيضا :
” الْمُرَادُ بِالْحِجَابِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْحِجَابِ الثَّانِي . وَالْحَاصِلُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ نُفْرَةٌ مِنَ اطِّلَاعِ الْأَجَانِبِ عَلَى الْحَرِيمِ النَّبَوِيِّ ، حَتَّى صَرَّحَ بِقَوْلِهُ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ” احْجُبْ نِسَاءَكَ ” وَأَكَّدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ ، ثُمَّ قَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُبْدِينَ أَشْخَاصَهُنَّ أَصْلًا وَلَوْ كُنَّ مُسْتَتِرَاتٍ ، فَبَالَغَ فِي ذَلِكَ ، فَمَنَعَ مِنْهُ ، وَأَذِنَ لَهُنَّ فِي الْخُرُوجِ لِحَاجَتِهِنَّ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ ” انتهى من “فتح الباري” (8/531) .
وينظر إجابة السؤال رقم : (12371 ) ، ورقم : (82994) ، ورقم : (164700) .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة