0 / 0

شبهات تثار حول الطوفان الذي كان في زمن نوح عليه السلام

السؤال: 213057

لطالما أرَّقني هذا السؤال ، بل وأرَّق على الأرجح معظم الشباب ، ولم نجد إلى الآن من يُجيب عنه إجابة مقبولة على المستوى الفكري ، ولم نستطع فهمه ولا استيعابه ، وأصبح البعض ينظر إلى الدين على أنه مجموعة قصص خيالية لا حقائق .
السؤال ببساطة هو : هل كان فيضان نبي الله نوح عليه السلام عالمياً شاملاً ، هلك فيه جميع من في الأرض ، أم محليا ؟
فإن كان عالمياً فكيف استطاعت كل الحيوانات التكدس في سفينة واحدة ؟ معنى ذلك أن السفينة كان لا بد أن يكون حجمها على الأقل مئات الكيلو مترات المربعة ، وهذا بالطبع مستحيل لأنه لا يمكن بناء سفينة خشبية ، أو غير خشبية ، بهذه الصورة ، ولكن دعونا نفترض أنها كانت ممكنة الحدوث فكيف إذا استطاعت الحيوانات أن تختار وجهتها فهذه إلى استراليا وهذه إلى أمريكا ، وبالخصوص تلك الحيوانات النادرة التي لا توجد إلا في مكان واحد ، كالكنغر مثلاً في استراليا ؟ لا يبدوا الأمر منطقياً على الإطلاق ! أمّا إن قيل إن الحيوانات كلها بدأت من نقطة واحدة فكيف نفسر عندئذ هذا التنوع العجيب في مملكة الحيوان ، واختصاص كل قارة بحيوانات لا توجد في غيرها من القارات . والأهم من هذا كله : هل كان هناك على الأرض ماء كاف لتغطية الأرض كلها وإحداث هذا الفيضان العظيم ؟!
وان قيل إنه كان فيضاناً محلياً ، فسنقول إن هذا يعارض ظاهر القرآن ، لأن السياق القرآني يوحي بأنه كان فيضاناً كونياً والدليل على ذلك أن كل الجبال بما في ذلك الجبال الشاهقة كانت تحت الماء (بالإشارة إلى قصة بن نوح) ، وقد مات كل كافر على الأرض آنذاك..الخ .

فأرجو منكم التوضيح ، وأسأل الله أن يعفو عني لجهلي وزللي وأن يهديني إلى الحق .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولاً :
من الإنصاف للحقيقة أن يعلم الناظر والباحث ، أن العالم إذا ألف كتابا واحتوى علما كثيرا ثم بعد ذلك اطلعوا على مكان واحد من كتابه يصعب على الفهم ، فالمتعارف عليه عند جميع العقلاء ، والذي تقتضيه الموضوعية العلمية أنّ هذا الكتاب لا يُطعن فيه ، ولا يُطرح جميع ما فيه من علم ، بمجرد وجود هذه الصعوبة ، بل عليه أن يستعمل الأدوات المناسبة لفهم ما يشكل عليه ، وحل معضلات الكلام .
وهذا في كلام البشر ؛ فكيف بكتاب مثل ” كتاب الله ” جل جلاله ، وقد مر عليه من القرون ما مر ، وآمن به من العقلاء من آمن ، وعاداه من البشر من عاداه ، وسعوا إلى الطعن فيه بكل سبيل ؛ فلم يستطيعوا أن يأتوا فيه بطائل ؛ بل يضطر المنصفون منهم إلى الإقرار بفضل هذا الكتاب ، وعظيم شأنه ، ومنهم من شرح الله صدره للإيمان به ، بعدما جهد طويلا ليطعن فيه !!

ثانياً :
القصص في القرآن : جاءت لمقاصد إيمانية ودعوية أشار القرآن إليها بوضوح منها :
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين عند الشدائد :
قال الله تعالى : ( وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) هود/ 120 .
2- للتدليل على أن هذا القرآن من الله تعالى المحيط بكل شيء علما ، والعالم بما كان وبما سيكون ، كما قال الله تعالى بعد ذكره لقصة نوح عليه السلام :
( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) هود / 49 .
فالقرآن يذكر من الحادثة ما يحقق المقصود الدعوي والإيماني منها ، كما نرى في قصة نوح عليه السلام مع قومه ، فقد كان التركيز على جهد نوح في دعوته ، وبيان مدى إعراض قومه عن الحق ، ثم بيّن الله العقاب الذي لحق هؤلاء القوم المعرضين عن الحق ، وذكر لنا من صفات هذا العقاب ما نستطيع أن نأخذ منه صورة عامة لهوله ، أما باقي تفصيلاته التي لا تفيدنا فلم يتعرض لها القرآن .

قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
” ففي القرآن الكريم أشياء كثيرة لم يبيِّنها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثيرٌ من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نُعرض عن مثل ذلك دائماً ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه ” انتهى من ” أضواء البيان ” (4/58) .

فالأولى أن نترك التدقيق في المعلومات التي لم يذكرها القرآن ولا السنة عن هذا الطوفان وذلك لسببين :
1- عدم وجود الفائدة من ذلك التدقيق ، فلو كان فيه فائدة لأخبرنا به القرآن أو السنة .
2- أن الأسانيد العلمية ، والأدلة التاريخية : لن توصلنا إلى نتيجة قطعية في مثل ذلك ؛ لأن واقع الحياة وتفاصيلها في ذلك الزمن البعيد جدا : مجهولة للإنسان ، وما يذكره العلم الحديث عن تلك الأزمان البعيدة في القدم : ليس كله من الحقائق العلمية المطلقة ، بل كثير منه هو نظريات وتفسيرات علمية ، قابلة للتغير والتخطئة والإبطال .

ثالثاً :
ظاهر النصوص القرآنية والذي عليه المفسرون أنه عمّ الأرض ، وصرح القرآن أيضا أنّ قوم نوح قد عمّهم الطوفان بماء هائل ، ولم ينج منهم إلا من ركب مع نوح في السفينة ، والبشرية اليوم هي من نسل نوح عليه السلام ، فهذا الذي يشير إليه القرآن ، أما كيف تمّ جمع هذه الحيوانات ، وكم طول السفينة ، وكم كانت كمية الماء وإلى أي مدى بالضبط وصل ؛ فلا يوجد نص قاطع من قرآن أو سنة على ذلك ، فلا نشغل بها أنفسنا .

قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله :
” وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة ” انتهى من ” التحرير والتنوير ” (23/131) .

ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم : (130293 ) .

والقرآن الكريم لم يخبر أن جميع الحيوانات التي كانت على ظهر الأرض يومئذ ، كانت معه في السفينة ، وإنما كان معه من كل صنف منها زوجان اثنان .
قال الله تعالى : ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) هود/40 .

قال الشوكاني رحمه الله – في تفسير هذه الآية – : ” أي : قلنا يا نوح ، احمل في السفينة من كلّ زوجين ، مما في الأرض من الحيوانات : اثنين ؛ ذكرا ، وأنثى ” انتهى من ” فتح القدير ” (2/ 565) .

فنوح عليه السلام لم يحمل جميع الحيوانات ، وإنما حمل من كل نوع منها اثنين ، ذكرا وأنثى ؛ ليحصل التوالد والنسل منهما بعد ذلك .
والحيوانات الكبيرة الحجم ليست بالكثيرة جدا في عالم الحيوان ، وعدد مثل هذا لا يحتاج إلى سفينة تصل إلى مئات الكيلومترات كما ذكر في السؤال .

ثم من قال ، وبأي دليل يقول : إن جميع الحيوانات التي يعرفها الناس اليوم ، الكبير منها والصغير ، كانت موجودة على ظهر الأرض في زمن الطوفان ، ليركب من كل من صنف منها : زوجان في تلك السفينة ، التي يفترض أنها لن تسع ذلك كله ؟!
وبأي دليل يمنع المانع من أن يكون الله تعالى قد خلق من الكائنات الحية ، ما خلق ، وأوجدها على ظهر الأرض ، بعد زمن الطوفان ، لا قبله ؟!
إن من يستشكل ذلك : يجب أولا أن يكون عنده تصور عن طبيعة الحياة في ذلك العصر ، ومدى التنوع الحيواني وأماكن انتشار الحيوانات …الخ ، وهذا كله لا نملك عنه معلومات قاطعة وهي واقعة خارج التاريخ المعلوم للإنسان ، فالله وحده أعلم به .

رابعاً :
أما كيف كان في بلاد كذا من الحيوان ما لا يوجد في غيره ؟ وكيف توجه حيوان كذا إلى بلد ، دون غيره … ؟
فجوابه سهل ميسور ؛ ألم تعلم أن الله تعالى خلق كل كائن حي ، وهداه إلى منافعه وما يصلح شأنه ؟!
فاستمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الحوار الذي دار بين نبي الله موسى ، وعدو الله الجاحد : فرعون : ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ) طه/49-56 .

فتأمل كيف دله موسى عليه السلام إلى أن الله جمع بين خلق الخلق ، وبين هدايته لما ينفعه ويصلح له شأنه .
وتأمل ، كيف دله ونبهه على آيات الخلق والإعادة بما حوله من أمر الكون ، والخلق ، والحياة والموت ، وتمهيد الأرض ، وإحيائها بالمطر ، ونبات الزرع منها !!

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
” أي : ربنا الذي خلق جميع المخلوقات ، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به ، الدال على حسن صنعه من خلقه ، من كبر الجسم وصغره وتوسطه ، وجميع صفاته ، ( ثُمَّ هَدَى ) كل مخلوق إلى ما خلقه له ، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات ، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع ، وفي دفع المضار عنه ، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل ، ما يتمكن به من ذلك ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ” (ص/590) .

ثم إن في عالمنا المشاهد اليوم بعض الحيوانات تهاجر المسافات الطويلة وتعود إلى أماكنها ولا تخطئها ، وبدراسة قريبة الغور لعالم الأسماك ، وعالم الطيور ، وعالم الحيوان كله : تقف من ذلك على ما يذهل العقل ، ويحير اللبيب ، ويدل الفطن على قدرة اللطيف الخبير !!
كيف تتعرف هذه الحيوانات على الطريق الصحيح لرحلاتها ، وكيف تنتبه للتوقيت المناسب للرحلة ؛ وكيف ، وكيف ؟!
الباحثون حاولوا الإجابة على هذه الأسئلة ؟
لكنّ الله أعطانا الجواب من قبل فقال تعالى : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50 .

ونعود ونذكر بما قلناه سابقا :
من أدرانا أن الله لم يخلق ما شاء من خلقه ، في زمان معين ، ومكان معين : ابتداء ؟!
ومن أين لنا العلم أن الله تعالى كان قد خلق جميع الكائنات الحية ، قبل طوفان نوح عليه السلام ؟!

ثمّ هذه القصة التي أشكلت عليك ، هي نفسها من الأدلة الواضحة على عظمة القرآن وأنه منزّل من الله تعالى ، وليس من قول البشر ، راجع مثلا كتاب موريس بوكاي ” القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ” وكلامه عن موضوع الطوفان في القرآن الكريم .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android